محمد عبد العزيز الكفراوي - أبو العتاهية.. علاقته بالبرامكة

ذكرنا فيما سبق أن أبا العتاهية كان يلتزم جانب الفضل ابن الربيع في النزاع الذي نشب بينه وبن البرامكة، وقد أقمنا الدليل على ذلك بما كان بين الشاعر والفضل من تواد وتعاطف. وسنحاول اليوم أن ننظر إلى المسألة من جانبها الآخر، فنرى مدى ما كان بين الشاعر والبرامكة من عداوة أو صداقة، فإن كانت الأولى فقد استقام لنا ما ذكرناه آنفا من أن التعاون بين الشاعر والفضل كان تعاونا سياسيا يهدف إلى مضادة البرامكة، وإن كانت الأخرى فقد التوى الحديث واضطرب

ومن حسن الحظ أن نرى الأدلة على ما كان بين البرامكة وأبي العتاهية من خلافات متعددة، بقدر ما كانت شواهد انسجامه مع الفضل متنوعة، ومن ذلك ما حدثنا به أبو الفرج من أن متحدثا ذكر في مجلس يحيى بن خالد البرمكي يوما أن أبا العتاهية قد نسك وجلس يحجم الناس للأجر تواضعا بذلك؛ فقال يحيى: أم يكن يبيع الجرار قبل ذلك؟ فقيل له نعم، فقال أما في بيع الجرار من الذل ما يكفيه ويستغني به عن الحجامة؟ فإذا عرفنا أن يحيى بن خالد كان على جانب عظيم من الحصافة والرزانة؛ أيقنا أنه ما كان ليفوه بتلك العبارة المنكرة لو لم يضمر للشاعر حقدا شديدا أنساه حلمه ووقاره. ومن ذلك ما روي أيضاً من أن الرشيد قال يوما للشاعر، وقد أعجبه ما رأى حوله من مظاهر ملكه: صف لنا ما تراه في مجلسنا من مباهج الحياة. فأنشد:

عش ما بدا لك آمنا ... في ظل شاهقة القصور

يسعى عليك بما اشتهي ... ت لدى الرواح أو البكور

فإذا النفوس تقعقعت ... في ظل حشرجة الصدور

فهناك تعلم موقنا ... ما كنت إلا في غرور

وما كاد الرشيد يسمع الأبيات حتى بكى بكاء مرا، فقال الفضل بن يحيى وكان بالمجلس: استدعاك أمير المؤمنين لتسره فسئته! فقال الرشيد: دعه وما يريد، لقد رآنا في عمى فأحب ألا يزيدنا منه. أرأيت كيف كان الفضل بين يحيى يضيق ذرعا بأبي العتاهية وبالطريق التي يتبعها في بلبلة بال الرشيد وتنفيره من الحياة وزينتها، على حين كان الفضل بن الربيع يغريه بذلك ويثيبه عليه

وشيء آخر يزيدنا إيمانا بما ذهبنا إليه من انقطاع صلات المودة بين أبي العتاهية والبرامكة، وذلك هو أننا لا نجد له بيتا واحداً من الشعر في مدحهم. أليس ذلك عجيبا حقا في ضوء ما نعلمه من حرص أبي العتاهية الشديد على جمع المال، وما نعلمه إلى جانب ذلك من كرم البرامكة الذي كان مضرب الأمثال؟ فهل كان أبو العتاهية جالاه بأنباء ذلك الكرم والبرامكة منه قاب قوسين أو أدنى يغادونه ويراوحونه في بغداد؟ كلا لم يكن شاعرنا جاهلا بشيء من ذلك، ولكن صلته بالفضل بن الربيع ومناصرته له عليهم حرمته عطفهم، ما بيته وبينهم. وإذا أعوزك الدليل على ذلك، فاستمع إلى أبي الفرج إذ يقول: سأل أبو العتاهية صالحا الشهرزوري - وكان صديقا له - أن يكلم الفضل بن يحيى في حاجة له، فتردد صالح في ذلك وأبدى استعداده لأن يمنح الشاعر ما يشاء من ماله الخاص، ولكن الشاعر أبى إلا ما يريد، وأنب صالحا وقرعه في عدة مقطوعات شعرية، ولما وصل صالحا الأبيات التالية:

أهل التخلق لو يدوم تخلق ... لسكنت ظل جناح من يتخلق

ما الناس في الإمساك إلا واحد ... فبأيهم إن حصلوا أتعلق

هذا زمان قد تعود أهله ... تيه الملوك وفعل من يتصدق

لم يجد بدا من الذهاب كارها إلى الفضل ومعه الأبيات السالفة، وكلمه في شأن أبي العتاهية، فقال الفضل: لا والله ما شيء على الأرض أبغض إلى من إسداء عارفة إلى أبي العتاهية، وقد قضيت حاجته لك

أرأيت كيف كان الفرق واضحا بيم معاملة الفضل بن الربيع للشاعر، ومعاملة الفضل بين يحيى له؟ فبينا نرى الأول لا يكتفي بما يسبغه على الشاعر من ماله الخاص، بل ينتزع له الأموال من الخلفاء، ويروج لأشعاره عندهم، إذ بنا نرى الشاعر لا يكاد يجرؤ على القرب من الفضل بن يحيى حينما تعرض له حاجة عنده، بل يطلب له الشفعاء والوسطاء

وإننا لنعتقد أن فهم ما كان بين الشاعر والبرامكة، وما كان بينهم وبين الفضل بين الربيع من خلاف على النحو الذي ذكرناه؛ هو الطريق السليم إلى تفسير حدث غامض في الأدب العربي، لا يكاد المرء يتدبره حتى يحس أن هناك فراغا في نفسه أو القصة يحتاج إلى ملء. فقد روى الصولي في أوراقه أن يحيى بن خالد البرمكي شعر بحاجة إلى حفظ كتاب كليلة ودمنة، ولكي يسهل ذلك الأمر على نفسه طلب إلى صنيعته أبان اللاحقي أن ينظمه له. ويشتد حرص يحيى على إنجاز نظم الكتاب في أقصر وقت، فيحبس أبانا في منزله إلى أن يفرغ منه، ثم يعطيه جائزة سنية عند انتهائه من الكتاب. ويذكر الصولي أن جعفراً البرمكي كان يحفظ الكتاب أيضا. ثم يذكر في مكان آخر أن يحيى قال لأبان: هلا قلت شيئا في الزهد، وأن أبانا نظم أشعارا كثيرة في الزكاة وغيرها من العبادات. ويروي أبو الفرج أنه نظم قصيدة شماها ذات الحلل، ذكر فيها مبدأ الخلق وأمر الدنيا وشيئا من المنطق، وينسبها بعض الماس إلى أبي العتاهية. والآن فلنناقش هذه الأخبار واحدة فواحدا. أما ما كان من رغبة يحيى وجعفراً في حفظ كليلة ودمنة فأمر يستوجي التساؤل: لم عني البرامكة بهذا الكتاب تلك العناية الشديدة، ولم حرصوا على حفظه أو حفظ شيء منه، ولم كانت العجلة في نظمه عجلة أدت إلى حبس ناظمه؟

والإجابة عن تلك الأسئلة تسهل علينا إذا نظرنا إلى موضوع الكتاب، فما هو إلا محاورات وضعت ألسنة الحيوانات، وتدور حول ما يدبره بعض الناس للبعض الآخر من مكائد، وما يبيتون لهم من شرور، وآية ذلك أن أولى قصصه وأهمها نصف حال شخصين متحابين متوادين دخل بينهما ثالث، وما زال يسعى بينهما بالسوء حتى أفسد ما كانا عليه من مودة ثم أهلكهما جميعا. ولعل القارئ الكريم قد رأى معي تمام الشبه بين موضوع الكتاب وما كان يمثل إذ ذاك على مسرح بغداد من روايات؛ أليس هذان المتحابان هما البرامكة أو قل جعفر البرمكي بالذات من جهة، وهارون الرشيد من جهة أخرى، كما أن الداخل الثالث بينهما هو الفضل بن الربيع. ألا يمكن أن يكون يحيى وابنه جعفر، إنما أرادا بحفظ ذلك الكتاب أن يجدا المادة حاضرة كلما عنت مناسبة لتبصرة الرشيد بما كان يدبره له ولهم الفضل بن الربيع من مكائد توشك أن تذهب بأكفأ وزرائه وأوفى أصدقائه، وكفى بذلك وبالا على الطرفين؛ نعم، قد يكون ذلك بعض ما قصدوا إليه من حفظ الكتاب. وليس ببعيد أن يكون البرامكة - وقد حاورا في أمرهم لكثرة ما يرميهم به الفضل من مكائد - قد عمدوا إلى حفظ ذلك الكتاب حتى يجدوا فيه جواباً شافيا لكل ما يعرض لهم من أسئلة، ومخرجا مما يقعون فيه من مآزق، وإرشادا لما يمكن أن يلتزموه من أساليب الحيطة والحذر. والحكمة حينئذ في وضع الكتاب في قالب شعري واضحة، فإن الشعر أيسر في الحفظ وأخف على اللسان؛ ولذلك كان مستودع المثل السائر والحكمة البالغة منذ القدم، ولا شك أن فنا كهذا شأنه أكثر ملاءمة لمجلس الخليفة من النثر

وأما ما كان من إيحاء يحيى بن خالد إلى أبان بأن يقول شيئا في الزهد، مع ما يعلمه من أن الزهد ينبعث من النفس ولا يفرض عليها، وما يعلمه أيضاً من أن أبانا كان رأسا من رؤوس الزنادقة في عصره، فأمر أريد به النيل من أبي العتاهية الذي كان يحتكر ذلك الفن الأدبي، ويبني عليه صرح عظمته الشعرية، ولا أدل على غيرته على ذلك الفن وحرصه على ألا يشاركه فيه أحد، من انزعاجه حين علم يوما أن أبا نواس قد بدأ يقول الشعر في الزهد، ثم ما كان من إرساله رسولا إلى أبي نواس يحذره أن يقول شيئا في الزهد؛ ويخبره أن ذلك فن اخترعه هو وسيحميه من كل مغير عليه أو مشارك فيه، ويظهر أن أبانا لم يستطع إقحام نفسه في عالم الزهاد، لما عف عنه جيدا من انتمائه إلى دنيا الزنادقة، ولما كان لابد له من الاستجابة لمولاه في صورة من الصور، فقد أخذ ينظم الأشعار في العبادات من زكاة وصلاة ونحوها، وكأن أبانا قد أراد أن يذكر أبا العتاهية بالأثر المشهور (ما تقرب عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)، وأن يخبره بأنه يجب على المرء أن يشعل نفسه بالعبادات، لا أن يطيل الحديث عن الموت والقبور وما تؤدي إليه من خراب العالم ودماره، مسميا ذلك زهدا وورعا

وأما ما أورده الصولي من أن أبانا قد أنشأ قصيدة سماها ذات الحلل، وقد أودعها شيئا من المنطق، وأن بعض الناس كان ينسبها إلى أبي العتاهية، فدليل جديد على أن أبانا كان يعارض أبا العتاهية في شعره، ويحاكيه محاكاة شديدة، حتى اختلط أمرهما على الناس، وصاروا ينسبون ما لأحدهما للآخر

والآن وقد عرفت رأينا في الدوافع المختلفة التي أفضت إلى ما حدث من تحول في حياة شاعرنا من مرج إلى كآبة، ومن تفاؤل إلى تشاؤم، لعلك متطلع إلى معرفة آراء السابقين في ذلك. ونحن حين نحاول الإشارة باختصار إلى تلك الآراء، نرجو من القارئ أن يتذكر ما قدمناه في صدر بحثنا من أن الشاعر كان ملتويا في التعبير عن آرائه، لما كانت تتضمنه أحياناً من مهاجمة الخلفاء والوزراء، ولذلك كان من الصعب أن يصل مؤرخو الأدب إلى أغراض الشاعر الحقيقية، إلا إذا توفروا على دراسته دراسة تحليلية، وأوتوا الزمن الكافي لمثل تلك الدراسة، وذلك ما لم يحظ به الشاعر من قبل، وهكذا عاش شاعرنا مجهولا حتى أمس القريب، لا يعرف عنه الناس إلا أنه كان زاهدا، وذلك نرجو أن ينتهي هذا البحث إلى نفيه عن الشاعر نفيا تاماً

ومع أننا قد اعتمدنا في تكوين رأينا عن الشاعر على دراسة بيئته وطفولته ثم أشعاره دراسة هادئة مطمئنة، فإننا نظلم القدماء إذا لم نذكر أنهم أيضاً قد أوردوا بعض لمحات يمكن أن يهتدي بها الساري في دياجي تلك الحياة المعقدة الغامضة، ونعني حياة شاعرنا. من ذلك ما أورده الأغاني من محاورات دارت مع الشاعر أو دارت حوله، أو أبيات شعرية قيلت فيه من أعدائه ومنافسيه، وكل ما يقال عن تلك الأخبار أنها كانت سلبية، ونعني بذلك أنها بما أكدته من بخل الشاعر الشديد وحرصه العظيم على جمع المال، فقد نفت أن يكون الشاعر قد نهج نهجه الجديد في الحياة، الذي يبدأ عام 180 هجرية تحت تأثير ميل حقيقي إلى الزهد كما نعرفه نحن، ولكنها تقف مكتوفة اليدين عند ذلك الحد، فلا تذكر لماذا إذن لبس ملابس الزهاد وأكثر القول في الزهد

ومن ذلك تلك المحاورة التي دارت بينه وبين ثمامة بن أشرس حينما قال الشاعر:

ألا إنما مالي الذي أنا منفق ... وليس لي المال الذي أنا تاركه

إذا كنت ذا مال فبادر به الذي ... يحق وإلا استهلكته مهالكه

فقال له ثمامة: إن كنت تؤمن بما تقول، فلم تحبس عندك سبعا وعشرين بدرة في دارك، لا تأكل منها ولا تشرب ولا تزكي، ولا تقدمها ذخرا ليوم فقرك؟ فقال يا أبا معن والله إن ما قلت لهو الحق، ولكني أخاف الفقر والحاجة. ومن ذلك أيضاً ما رواه صاحب الأغاني عن العباس بن عبيد الله قال: كنا عند قثم بن جعفر بن سليمان وعنده أبو العتاهية ينشد في الزهد فقال قثم: يا عباس اطلب الساعة الجماز حيث كان ولك عندي سبق فطلبته، وحين حضر مجلس قثم وجد أبا العتاهية ما زال ينشده في الزهد، فأنشأ الجماز يقول:

ما أقبح التزهيد من واعظ ... يزهد الناس ولا يزهد

لو كان في تزهيده صادقا ... أضحى وأمسى بيته المسجد يخاف أن تنفد أرزاقه ... والرزق عند الله لا ينفد

فلو علم قثم أن أبا العتاهية صادقا في التعبير عن شعوره حينما يقول في الزهد لما عبث به كل العبث؛ ولما أغرى الجماز به

ولكن إبراهيم بن المهدي يخطو خطوة إلى الأمام، فيذكر بعض ما كان يدفع الشاعر إلى القول في الزهد:

لا يعجبنك أن يقال مفوه ... حسن البلاغة أو عريض الجاه

إني رأيتك مظهرا لزهادة ... تحتاج منك لها إلى أشياه

فهو يبدي شكة الشديد في صدق الشاعر فيما يدعيه من زهد، ويعتقد أنه إنما يقول ما يقول كي يبني له جاها بين العامة الذين يستهويهم كل ما يدور حول الدين من أحاديث. أو لعله يشير على ما كان للشاعر من نفوذ وصولة نتيجة لاتصاله بالفضل بن الربيع وزبيدة

ولعل اكثر الناس معرفة بأسلوب أبي العتاهية في الحياة هو أبو العلاء المعري، وقد دون رأيه فيه في مقطوعتين من الشعر يقول في إحداهما:

الله يرفع من يشا ... ء رتبة من بعد رتبه

أظهر العتاهي نسكا ... وتاب عن حب عتبه

والخوف ألزم سفيا ... ن أن يحرق كتبه

فأنت ترى شك أبو العلاء في نسك أبي العتاهية وسخريته منه واضحة في البيتين الأولين، ويزيد البيت الثالث ذلك الشك تأكيدا بما يعتقده من مقارنة بين حال شاعرنا وحال سفيان الثوري الذي دفعه خوفه من الخليفة إلى تحريق كتبه. وكأن أبا العلاء يريد أن يشير إشارة لطيفة إلى أن أبا العتاهية إنما تظاهر بالزهد، وأكثر منه القول فيه ليستر ما كان يضمره للخليفة وأنه كان يعني الخليفة نفسه بكثير مما كان يقوله في ذلك الباب على نحو ما سنشرحه بعد

وفي المقطوعة الأخرى يقول أبو العلاء:

أرى ابن أبي إسحق أسحقه الردى ... وأدرك عمر الدهر نفس أبي عمرو

تباهوا بأمر صيروه مكاسبا ... فعاد عليهم بالخسيس من الأمر

بكسوة برد أو بإعطاء بلغة ... من العيش لا جم العطاء ولا غمر فلا يضع الله المساعي في التقى ... فمن يسع فيها لا يخف غبن الدهر

أما ما قاله الكوفي في الزهد مثل ما ... تغنى به البصري في ضفة الخمر

فأبو العلاء يدعو أهل العلم والأدب هنا أن يسعوا بأدبهم فوق حاجات بطونهم وأجسادهم، وأن يهدفوا فيما يقولون إلى أغراض أسمى وأنبل من أغراض هذه الحياة الفانية. وبيته الأخير ظاهر في تأييد ما ندعو إليه خاصا بزهد أبي العتاهية، إذ لا يرى فرقا كبيرا بين زهديات أبي العتاهية، وخمريات أبي نواس، حيث أن كلا منهما كان يجري بشعره وراء غرض مادي، وإن اختلفا في الطريقة والمذهب

أما المستشرون فهم في نفس الحيرة والاضطراب التي كان فيها الأوائل حول مقاصد الشاعر، ويقترب نيكلسون منا اقترابا شديدا، حين يشير إشارة خفيفة في هامش كتابه , , إلى أن أبا العتاهية ربما كان قد ترك مجلس الخليفة ومال إلى الزهد لكراهيته للحياة التي كان يحياها شعراء البلاط في ذلك الوقت

د. محمد عبد العزيز الكفراوي

مجلة الرسالة - العدد 989
بتاريخ: 16 - 06 - 1952

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى