خيري حماد - في الأدب الإنجليزي - 4 - الكائنات الغيبية في شعر شكسبير

وكان من السائد في ذلك العصر أن هذه الطائفة من المخلوقات سرمدية أزلية، فكثيراً ما يطلق شكسبير على الناس لقب الأحياء الفانين بينا هو لا يعرض لهن بشيء من ذلك. وقد يجعلن من الرجل أداة للهزء والسخرية فيلقبنه بألقاب عدة أهمها أنه حي زائل وليس بباق. فالملكة تيتانيا تطلب من بطانتها ووصائفها أن يعاملن بلطف ذلك المخلوق الزائل بوتوم ولهذه المخلوقات زيادةً على ذلك خاصية الاختفاء والظهور للبشر، فهي كالفقاعات الهوائية التي لا تظهر للناس حتى تزول ولا يمكن عند ذلك معرفة الجهة التي اختفت فيها أو تمييزها.

وفضلاً عما تقدم كانت لهن صفات أخرى أهمها خاصية التشكل والظهور بصور عدة، وقد صور إبيرون لنا نفسه بقوله: (سأكون في وقت ما حصاناً فأصهل، أو كلباً فأنبح، أو قوقعة فأنعق، أو دباً فأقهقع، أو ناراً فأحترق). وخاصية السرعة والنشاط فهنّ أسرع من القمر، وفي استطاعتهن الدوران حول الكرة الأرضية في مدة لا تتجاوز الأربعين دقيقة. وقد افتخر روبن هود بسرعته وتحدى الآخرين قائلاً (انظروني أذهب بسرعة لا تدانيها سرعة السهم وقد انطلق من قوس التتري)

وأهم ما نراه مشتركاً بين الجنيات هو ميلهن إلى الموسيقى وفنه فلا يطربن للسماع فقط بل خلقن وقد لازمهن هذا الفن وهذه الموهبة النادرة ملازمة تامة. وما جزيرة العاصفة الخرافية إلا مكان تسوده الموسيقى والأصوات العذبة مما جعل للمكان روعة ساحرة خلابة. فكثيراً ما كانت تسمع أصوات آلاف الآلات الموسيقية منتشرة في الجو انتشاراً لا يضاهيه انتشار الروائح العطرية المختلفة ولم تقتصر هذه الموهبة على الموسيقى فحسب بل تجاوزتها إلى الرقص، فنرى الملكة تيتانيا تأمر بطانتها وجواريها (أن يخترن من الينابيع وجداول الأنهار وشواطئ البحار أمكنة ليقمن فيها حلقات الرقص والموسيقى) وآخر هذه الميزات التي اشتهرت بها الجنيات هي ميزة حماية القبور والأضرحة. فكن يقمن بأعمال ما يسمونه الملاك الحارس. ولا تقتصر مهمتهن على تسلية الميت بل تتعداها إلى حفظه سليماً من الحشرات معافى من الجراثيم. ونرى هذه الخاصية بوضوح في رواية سمبالين إذ يقول (ستقوم نساء الجنيات بحراسة قبره من الحشرات)

أم وقد انتهينا من هذه الصورة الرائعة التي صورها لنا شكسبير فيجدر بنا أن ننظر أكان موفقاً في تصويره أم غير موفق. قال جبسن يصف هذه المحاولة: (إن صورة الجنيات في روايات شكسبير تمثل لنا المرح والسرور والنية الطاهرة ممتزجاً بعضها ببعض تحددها المحاولات الضئيلة التي يقصد منها إيقاع الضرر بالناس. ولا يقصد الشاعر من هذه الصور إلا تسلية قراءه فقط غير محاول إظهار عقيدته الحقيقية، وما هي إلا مخلوقات هوائية تحلق في الفضاء مرفوفة أمام أعيننا)

لا يسهل علينا أن ننكر قط هذا الجمال الظاهر في هذه الصورة النادرة. فقد نجح شكسبير أيما نجاح في إبرازها إلى حيز الوجود بلباس رائع من المرح والسرور؛ ولقد صدق جبسن في وصفه السابق لهذه الصورة من ناحية واحدة وأخطأ في ناحية أخرى، فلقد حكم أن شكسبير لم يقصد منها إلا تسلية قرائه غير معبر عن أية عقيدة من عقائده. وحسبي أن أقول معارضاً هذا الرأي أنه ليس في استطاعة أي شاعر أو كاتب أن يصف عقيدة من العقائد كهذا الوصف الدقيق المسهب دون أن يكون له أدنى تفكير وإيمان بالعقيدة نفسها. فقد اعتقد شكسبير بوجود الجنيات وسمع ما كان يدور على ألسنة أهل عصره من قصص وأساطير جلاها في رواياته مرتدياً رداء من الخيال الواسع والابتكار البديع

الساحرات

من الصور الغيبية التي رسمها شكسبير بدقة تأتي صورة الساحرات في الدرجة الثانية؛ فلم يقتصر ذكرهن على رواية واحدة من رواياته؛ بل تعدتها إلى عدد من الروايات لا يقل عن التي تبحث في الجنيات أهمية وعدداً، ولكنه اختص إحدى هذه الروايات ببحث مسهب مستفيض جعلها قاصرة على هذا النوع من المخلوقات الغيبية، وهذه الرواية هي التي يعدها كثير من النقاد والأدباء أحسن ما كتبه الشاعر ألا وهي رواية مكبث

أما ساحرات شكسبير فيقسمن إلى طبقتين مختلفتين: أولاهما طبقة الساحرات البشريات اللواتي يوصفن عادة بالذبول. وثانيهما طبقة الساحرات العلويات أو الغيبيات اللواتي امتزن عن أخواتهن بميزات أرقى وأهم

يذكر شكسبير ساحراته الأرضيات في كثير من رواياته العديدة حيث يكون لهنّ شأن ضئيل في مجرى الرواية وهيكلها. فهو يذكر في رواية هنري السادس إحدى هؤلاء الساحرات على لسان تالبوت حيث يقول: (إن بوسيل تلك الساحرة الملعونة قد سببت هذه المصيبة وتلك الأكدار التي لم نتخلص منها في فرنسا إلا بعد لأي)، وقد ذكرهن في رواية أخرى هي رواية (نساء وندسور المرحات) حيث تقول السيدة بيج (دعنا نلبسه ألبسة تشبه ألبسة ساحرة برانيفورد). وقد ذكر هذا النوع من الساحرات في رواية ثالثة هي رواية الملك ريشارد الثالث عندما يخاطبه كلوسستر قائلاً: (إن هي إلا امرأة ادورد تلك الساحرة التي نفثت سحرها في أعمالي فباءت بالفشل)

في جميع هذه الروايات التي ذكرتها نرى الساحرات البشريات يلعبن دوراً بسيطاً، بينما الساحرات السماويات تشغل قسماً أكبر من تفكير هذا الشاعر العظيم؛ فقد اختص رواية مكبث كلها بتحليل شخصياتهن ووصفها وصفاً دقيقاً مسهباً. وقد صدق مستر لويد في كتابته النقدية عن مكبث حين قال: (إن رواية مكبث تشمل الخيال المبدع والمخاوف السحرية، وكثيراً من الخرافات التي كانت تسود أقسام بريطانيا الشمالية والجزر الغربية منها)

وهؤلاء الساحرات لا أسماء لهن فهن يدعين أنفسهن بالأخوات الذابلات كما يتبين لك في مواضع عدة من رواية مكبث وقد كان الناس كثيراً ما يشتبهون فيهن فيحسبونهن رجالاً لما في ذقونهن من لحى كلحى الرجال بينما هنّ في الحقيقة إناث اكتملت فيهن صفات الأنوثة؛ ويظهر هذا جلياً في رواية مكبث عندما يقول مخاطباً آباءهن: (إنكن نساء مع أن لحاكن تجعلني أميل إلى الاعتقاد في رجولتكن)

إن هذا المظهر الذي كان يجمع بين صفتي الرجولة والأنوثة في هؤلاء الساحرات كان سبباً قوياً في ازدياد الشعور نحوهن بالكره والازدراء. وكم كان الناس يودون القضاء عليهن لولا أن في استطاعتهن أن يغيرن صورهن وأشكالهن، فتارة تراهن بصورة قطة من القطط الرقطاء، وطوراً بشكل فأر قد قطع ذنبه، وهذا يتجلى لنا بصورة واضحة في رواية مكبث عندما تظهر إحداهن في بدء الرواية بصورة هرة تدعى كريمالكين وقد وصفت إحداهن نفسها بقولها في ناحية أخرى من الرواية (سأكون بشكل فأرة عارية عن الذنب فأمتطي منخلاً وأسبح في البحر محاولة تخريب السفن وإغراقها)

وتختلف الساحرات عن الجنيات بكونهن عاملاً من عوامل الشر والدمار فهن يحملن في أنفسهن الكره الشديد لبني البشر ويسعين بكل طاقتهن لإيقاع الضرر بالمجموع البشري، وكثيراً ما يستعملن الأعشاب السامة لتنفيذ أغراضهن الشريرة، وكانت لهن ملكة تدعى هكبت اقتصرت أعمالها على إيقاع الآلام بالناس، وقد وصفها لوشيانس في رواية هملت بقوله: (انك لتخلط بين أعشاب الليل وبين الأعشاب الصفراء الذابلة التي جمعتها هكبت لتستعملها في سحرها وفي ذلك تنتهي الحياة البشرية)

وتمتاز الساحرات بأنهن أقوى أنواع هذه المخلوقات المغيبة، فهبوب الرياح والسباحة في البحار كانت من المسائل التي في استطاعتهن القيام بها بكل سهولة، وكان الليل أحب الأوقات إليهن لأنهن يستطعن الخروج فيه بكل جرأة وحرية ويتعاطين ما يشأن في أثنائه. ولنستمع إلى مكبث مخاطباً إياهن قائلاً: (ماذا تعملن أيتها المخلوقات السرية الليلية)

ولم يقتصر زمن ظهورهن على الليل فقط بل كان بإمكانهن التجول أثناء النهار فقد اتفقن في الفصل الأول من رواية مكبث أن يقابلنه قبل مغيب الشمس. وكان في استطاعتهن أن يختفين أو يظهرن حسب إرادتهن. فقد ظهرن لمكبث وبانكو في الفصل الثالث من الرواية لكنهن ما عتمن أن اختفين بعد أداء مهمتهن التي قصدنها وقد استولت الدهشة على بانكو فصاح قائلاً لما اختفين: (إن للأرض فقاعات كما أن للماء فقاعات أيضاً، وهذه المخلوقات هي من فقاعات الأرض، في أي مكان اختفين؟)

حاولت الساحرات إظهار قوتهن وسلطتهن على البشر فصدرت عنهن تلك النبوءات التي تم تحقيقها في نهاية رواية ومبث، وكل ما في هذه الرواية من ابتكار وابتداع يرتكز على محور واحد ذلكم هو النبوءات، ففي بدء الرواية يخبرنه عن المستقبل فيتنبأن بصيرورته سيداً على كادور ثم ملكاً على اسكتلندا، وكلتا هاتين النبوءتين يتحقق، وفي نهاية الرواية يتنبأن بنبوءات جديدة، فيخبرنه أنه لن يصيبه مكروه من إنسان عادي بل من رجل لم تنجبه امرأة، وإن هذا الأمر لن يتحقق إلا إذا انتقلت غابة برنام من مكانها وسارت مسافة لا تقل عن الخمسين ميلاً، وكل هذه النبوءات تتحقق ويتبين صدقها في نهاية الرواية ونظراً لهذه الشرور والآثام التي كان الساحرات يرتكبنها كان الناس على اختلاف مللهم ونحلهم ينظرون إليهن بعين الكراهية والسخط، فكانت لهن عادات مستهجنة غريبة كميلهن إلى الأعداد الغريبة وخصوصاً الثلاثة منها، فلا يخطون إلا ثلاث خطوات عند رقصهن، والقط لا يموء إلا ثلاث مرات؛ وقد اعتقد شكسبير أن السبب الذي حدا بهن إلى هذا الميل الغريب هو اعتقادهن أن الأعداد الغريبة تنبئ عن الحظ الحسن والفال الجيد

وكان العقاب الشديد دائماً في انتظارهن يهدد حياتهن، فكل امرأة كان يشك في كونها ساحرة من النوع الخطر كانت تشد إلى قطعة خشبية مصلبة تتوقف بواسطتها الحركة الدموية، وتتشنج الشرايين فتحدث ألماً شديداً قل أن يحتمله إنسان. وقبل أن تتوقف الحركة الدموية بهذه الطريقة كان الساحرات يربطن لمدة لا تقل عن الأربع والعشرين ساعة حتى تعترف بسحرها. وهناك طريقة أخرى كان الساحرات يعذبن بواسطتها ألا وهي طريقة نزيف الدم بقطع أحد الشرايين

وللساحرات فصل معين من فصول السنة لا يظهرن فيه أبداً، وقد ذكر شكسبير ذلك في رواية هملت بقوله: (يقول البعض إن الفصل الذي ولد فيه السيد المسيح هو فصل سعادة وحبور، ففي أثنائه تظل الطيور مغردة على الأفنان، وتختفي الساحرات والأشباح من عالم البشر). وكان الناس يخافونهن ويسعون في مرضاتهن فيستعيذ المتدينون من الرجال منهن ويبتعدون عن شرورهن وآثامهن

وإني لأعتقد من جرّاء هذا الاهتمام الذي أبداه شكسبير بهن، وهذا التدقيق في البحث في مسألتهن وتصويرهن، أن شكسبير كان يؤمن بوجودهن وقدرتهن الإيمان كله، فقد اعتقد أن لهن من القوة والجبروت ما تستطعن بواسطته إخضاع النوع البشري لسلطتهن وسيطرتهن، وهذا ما أظهره جلياً في كتابته عنهن في كثير من رواياته.

خيري حماد


مجلة الرسالة - العدد 120
بتاريخ: 21 - 10 - 1935

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى