رمزي العبيدي - الضرورة الشعرية والخطأ اللغوي

إنَّ الضرورة الشعرية هي : ما اعتاد النحاة القدامى أنْ يطلقوه على ما ورد في شواهـدهم الشعرية ـ التي يريدونَ منها إثبات صحَّة قاعدةٍ نحوية أو فرعٍ منها قد يكون نادراً أو شاذاً ـ من الشواذ والنوادر التي وردَتْ في شعر العرب الأقدمينَ من الجاهلية حتى بشار بن برد ( 65 ـ 167هـ ) ـ ( 713 ـ 783م ) ، فقد كان آخر الشعراء الذين استشهد سيبويه بشعره ، ذلك بعد أنْ هدَّده بشار بأنَّه سيهجوه شعراً وينال منه إذا لم يستشهد بأشعاره ، ففعل سيبويه مرغماً ، ولأنَّ سيبويه فعل ، فقد استشهد غيره بشعرٍ لبعض شعراءٍ غير ابن برد من الذين سبقوه ، وانتهى الاستشهاد الشعري به ، وكانتْ نيَّة سيبويه أنْ يوقف الاستشهاد حتى شعراء النقائض ـ جرير والفرزدق والأخطل والراعي النميري ـ لذا فلا ضرورة لشاعر بعد بشار بن برد ، وما ورد في أشعار مَن توفي بعد عام ( 167هـ ـ 738م ) فإنَّه يقع في باب الخطأ اللغوي .
فقد عاب النقاد على أبي نؤاس قوله في بيت من بحر مجزوء الكامل العروضي :
نبِّهْ نَدِيْمَكَ قَد نَعسْ = يَسْقِيْكَ كَأسَاً فِي الغَلَس

والصحيح أنْ يقول : ( يَسْقِكَ ) بجزم جواب الأمر بحذف حرف العلة الذي هو الياء ؛ وعابوا عليه قوله :

كَمَنَ الشَّنْآنُ فِيهِ لَنَا = كَكُمُونِ النار فِي حَجَرِه

والصواب أنْ يقول : ( حجرها ) ، لأنَّ النار مؤنَّثة ، وقد أخطأ في رأيي غير المتواضع مَن أوَّله على وجهٍ لا ضرورة فيه ، بأنْ قال بأنَّ أبا نؤاس يقصد أو يريد أنْ يقول : ( كَكُمُون النارِ في حَجَر الكمون ) باعتبار أنَّ ( الكمون ) هو مذكر مضاف إلى النار ، وقد كذب أبو نؤاس نفسه على الناس وعلى نفسه عندما فسَّر هذا البيت على وجهٍ ليس فيه ضرورة ، بأنْ قال :
( ردَدْتُ التذكير إلى النور )
بمعنى أنَّه قصد ما يلزم من النار والذي هو نورها ، فقد أخطأ ورفض الاعتراف بخطئه واستخدم ذكاءه في التأويل والتبرير ؛ وتسألني لمَ ترفض التأويلينِ اللذين يبدوان للوهلةِ الأولى مقنعينِ ؟ ، أقول : لقد حكمته القافية فالبيت من قصيدةٍ له مطلعها :

أيُّها المُنْتَابُ عَن عُفُرِه = لَسْتَ مِن لَيْلِي ولا سَمَرِه

لاحظوا أنَّ أبا نؤاس لزم في هذا المطلع ما لا يلزم في التقفية ؛ وعابوا عليه في نفس القصيدة ، قوله :

كَيْفَ لا يُدنِيْكَ من أمَلٍ = مَن رَسُولُ الله مِن نَفَرِه

وما نقدوه إلا لأنَّه قلب المعنى بسبب القافية التي حكمته وتحكَّمَتْ به ، فالمعنى الأصلي هو : ( مَن هو من نفر رسول الله ) ، ودافع عن أبي نؤاس بعض النقاد بأنْ توهَّموا أو حاولوا إيهامنا بأنْ قولته هنا ليس فيها خلل ، بأنْ ادَّعوا أنَّه مَن كان من نفر رسول الله فرسول الله من نفره ! ، ففي هذا عندي مغالطة كبيرة وقلبٌ للمعاني أيضاً ، ولا أريد التفصيل وأكتفي بالإشارة إلى هذه المغالطة وأصفها بالكبيرة ، حتى لا يكفِّرونني ! ؛ والأبيات من بحر عروضي هو مجزوء الكامل .
وعابوا عليه في البحر الطويل قوله :

شُمولاً تَخَطَّتها المَنُونُ فَقَد أَتَتْ = سِنُونٌ لَهَا فِي دَنِّهَا وَسِنُونُ
تُرَاثُ أُنَاسٍ عَن أُنَاسٍ تخَرَّمُوا = تَوارَثَهَا بَعدَ البَنِينِ بَنُونُ

قالوا رفع نون الجمع ، وقد أجاز النحاة لغيره من الشعراء ذلك في الضرورة الشعرية ، وليس لأبي نؤاس ضرورة شعرية كما شرحْتُ وبيَّنْتُ ، لكنَّ بعض العرب يجرونَ النون الزائدة مجرى الأصلية فيعربونها في الشعر وغيره ، ويجعلونها بمثابة كلمة واحدة مع ما اتصلتْ به ، فإذا كان أبو نؤاس من هؤلاء فلا خطأ عنده ، وهذا الموضوع ـ موضوع النون الزائدة ـ فيه خلاف وفيه نظر ؛ وعندي : إنَّ أبا نؤاس أخطأ وتمادى في الخطأ .
وعابَ نقاد الشعر على أبي تمَّام قوله :

مِن كُلِّ أَظمَى الثَرَى وَالأَرضُ قَد نَهِلَتْ = وَمُقشَعِرّ الرُبَا وَالشَمسُ فِي الحَمَلِ

البيت من بحر البسيط العروضي ، والصحيح أنْ يقول : ( ظمآن الثرى ) لا ( أظمى الثرى ) ، لأنَّ الواحدة ( ظمأى ) كـ ( عطشان وعطشى ) ، ولا ضرورة فيه إذا قصد أبو تمَّام بـ ( أظمى ) معنى آخر هو : ( أسود ) ، فكأنَّه أراد سواد التراب أو سماره ، فـقد قـالتِ العرب : ( رمحٌ أظمى ) إذا كان أسمر ، و ( فتاة ظمياء ) إذا كانت كذلك .
وعابوا عليه قوله :

أَظُنُّ دُموعَها سَنَنَ الفَريدِ = وَهِي سِلكَاهُ مِن نَحرٍ وَجيدِ

فقد أراد أنْ يقول : (أَظُنُّ سَنَنَ دُموعَها سَنَنَ الفَريدِ ) ، فـ ( السَنَن : الطريق ) ، فهو يشبِّه تتابع الدموع بتتابع الفريد النادر ، وكان الصحيح أنْ يقول : ( أظنُّ دموعها الفريد ) لأنَّه هو الذي يشبه الدموع لا طريقه ، ولو قال ذلك لاختلَّ عنده البحر العروضي الذي هو الوافر .
أمَّا المتنبي ـ مالئ الدنيا وشاغل الناس ـ فقد عابوا عليه قوله :

خَلَتِ البِلادُ مِنَ الغَزَالَةِ لَيلَهَا = فَأَعَاضَهَاكَ اللَهُ كَي لا تَحزَنَا

هذا البيت من البحر الكامل ، وهو آخر بيتٍ من قصيدةٍ للمتنبي مطلعها :

الحُبُّ مَا مَنَعَ الكَلامَ الأَلسُنَا = وَأَلَذُّ شَكوَى عَاشِق ٍ مَا أَعلَنَا

ختم المتنبي هذه المطولة الرائعة ببيت فيه ضعفٌ في التأليف ، فقد وصل الضميرينِ اللذينِ كان يجب عليه فصلهما في قوله : ( فَأَعَاضَهَاكَ ) ، ليس هذا فقط بلْ قدَّم فيهما الواجب تأخيره ، وهو الهاء ، فالصواب أنْ يقول : ( فأعاضكَ الله إيَّاها ) ، ولو قال كذلك لتهدَّم عنده بحر الكامل العروضي .
ومن نفس البحر عابوا عليه في قصيدةٍ أخرى قوله مكرِّراً الضمير :

جَفَخَتْ وَهُم لا يَجفَخُونَ بِهَا بِهِم = شِيَمٌ عَلى الحَسَبِ الأَغَرِّ دَلائِلُ

فقد لجأ المتنبي إلى التعقيد اللفظي ليُسَوِّي أو يستوي عنده البحر العروضي ، فقد كان كلامه خفيَّ الدلالة على المعنى المراد ، فالألفاظ غير مرتبة وفق ترتيب المعاني ، والسبب تكرار الضمير ، فقصده أو أصل الكلام عنده : ( جفخَتْ بهم شيم دلائلٌ على الحسب الأغرِّ ، وهم لا يجفخونَ بها ) ، وبهذا البيت شوَّه رائعته التي ورد فيها ومطلعها :

لَكِ يا مَنازِلُ في القُلوبِ مَنازِلُ = أَقفَرْتِ أَنتِ وَهُنَّ مِنكِ أَواهِلُ

ومن بحر الكامل أيضاً عابوا عليه قوله :

هَذي بَرَزْتِ لَنا فَهُجْتِ رَسِيْسَا = ثُمَّ اِنثَنَيْتِ وَمَا شَفَيْتِ نَسِيْسَا

فقد أخطأ بأن أسقط حرف النداء ( يا ) مع المبهم الذي هو ( هذي ) ، فالصحيح أنْ يقول : ( يا هذي ، أو يا هذه ) .
وعابوا عليه من بحر الكامل كذلك قوله :

جَلَلاً كَمَا بِيَ فَليَكُ التَبرِيحُ = أَغِذاءُ ذَا الرَشَأِ الأَغَنِّ الشِيحُ

فالصحيح أنْ يقول : ( فليكنْ التبريحُ ) ، فنون ( كان ) المحذوفة عند الجزمِ يجب إعادتها إذا لاقَتْ الألف واللام ، وهنا أخطأ المتنبي خطأ نحوياً شنيعاً .
وعابوا عليه أيضاً قوله :

أُحَادٌ أَم سُداسٌ فِي أُحَادِ = لُيَيْلَتُنَا المَنوطَةُ بِالتَنادِ

فقد أخطأ في هذا البيت الذي هو من بحر الوافر في ثلاثة مواضع ، أولها : أنَّه صرَّف ( أحاد ) الممنوع من الصرف ، وثانيها : قوله ( سداس ) والعرب لم تجاوز في العدد ( رباع ) ، وآخرها : إنَّه حذف الياء من آخر تصغيره لـ ( ليلة ) ، فقد قال : ( لُيَيلَتُنَا ) ، والصحيح أنْ يقول : ( لُيَيلَيتُنا ) ؛ هذا ما قاله عنه نقاد الشعر ، وفيه أقول : إنَّه أخطأ في صرف ( أحاد ) الممنوع من الصرف في موضعينِ ، وأخطأ في تصغير ( ليلة ) ، لكنَّه لم يخطأ في قوله ( سداس ) لأنَّ القياس لا يمنع ، ولا يعتدُّ بأنَّ العدد ( رباع ) هو أعلى ما ورد في قرآن المسلمينَ ، لأنَّه ورد في تحديد أعلى عدد للزوجات التي يحقُّ للمسلم الواحد أنْ يجمعها على ذمَّته في وقتٍ واحد ، والقياس لا يمنع كما قلنا ، جاء في شعر الكميت بن زيد الأسدي ما لمْ يعترضْ عليه النحاة ، أو يعتبروه من الضرورات الشعرية ـ باعتبار أنَّ للكميتِ ضرورة ـ قولة في بيت من بحر المتقارب :

فَلَمْ يَِسْتَريثُوكَ حَتَّى رَمَيْـ = تَ فَوقَ الرِجَالِ خِصَالاً عُشَارَا

وعابوا على المتنبي أيضا ً قوله :

واحَرَّ قَلبَاهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ = وَمَن بِجِسمِي وَحَالِي عِندَهُ سَقَمُ

البيت من بحر البسيط العروضي ، أخطأ فيه المتنبي بأنْ وصل المندوب وحرَّك الهاء الساكنة التي تدخل في الوقف ، كما أنَّه أسقط الياء من المضاف إليه ، فالصحيح أنْ يقول ( واحرَّ قلبياه ) .
وعابوا عليه من بحر البسيط نفسه قوله :

إِبعِدْ بَعِدْتَ بَياضاً لا بَيَاضَ لَهُ = لأَنتَ أَسوَدُ فِي عَينِي مِنَ الظُلَمِ

الصحيح أنْ يقول : ( أشدُّ سواداً ) ، فلا يصحُّ لغة أنْ تقول : ( هذا أسود من هذا ) ، بل : ( هو أشدُّ سواداً ) ، وفي التعجب لا يصحُّ قولك : ( ما أسودَه ) ، بلْ تقول : ( ما أشدَّ سواده ) ، وقد استغرب نقاد الشعر من المتنبي وأنكروا عليه قوله هذا وهو في معنى التعجُّب .
ومن البحر الطويل عابوا عليه قوله :

حَمَلْتُ إِلَيهِ مِن لِسَانِي حَديقَةً = سَقَاها الحِجَى سَقيَ الرِيَاضَ السَحَائِبِ

فقد فرَّق المتنبي بين المضاف والمضاف إليه وخفضه ـ أي أبقاه مجروراً ـ فالصحيح والصواب أنْ يقول : ( سقيَ السحائبِ الرياضَ ) أو ( سقيَ الرياضَ السحائبُ ) ، والأمران لا يتناسبان ولا يلائمانِ البحر العروضي وقافيته .
لمْ يقتصر نقد نقاد الشعر العربي القدامى على هؤلاء الشعراء الثلاثة ـ ( أبو نؤاس وأبو تمَّام والمتنبي ) ـ الذينَ مثَّلْتُ لهم ، لكنَّني اخترتهم لأنَّ كلَّ واحدٍ منهم من يمثِّل قامة شاخصة من قامات الشعر العربي ، فأبو نؤاس ( 146 ـ 198هـ ، 763 ـ 813م ) هو أوَّل مَن خصَّ الخمرة بقصيدة منفردة ولم يسبقه إلى ذلك غيره ، وأبو تمَّام ( 188 ـ 231هـ ، 803 ـ 845م ) هو رأس الشعراء المولِّدِينَ أو هو الأبرع في توليد المعاني ، أمَّا المتنبي ( 303 ـ 354هـ ، 915ـ 965م ) فهو مالِئ الدنيا وشاغل الناس بأشعاره ومعانيها ؛ وربَّما اقتصر اختياري لهم أو عليهم لأنَّني وجدْتُ معظم شواهدهم التي نقلتها مجموعة في كتاب واحد هو : ( ما يجوز للشاعر في الضرورة ) لأبي عبد الله محمد بن جعفر التميمي النحوي المعروف بالقزاز القيراوني ، بتحقيق الأستاذينِ الدكتورينِ : رمضان عبد التواب وصلاح الدين الهادي ، نشرته لهما دار العروبة بالكويت ، بإشرافٍ من دار الفصحى بالقاهرة ، التي طبعته بمطبعة المدني التابعة للمؤسَّسة السعودية بمصر في العام 1982م .
وبإمكان القارئ الكريم أنْ يكتشف بعد أنْ يضع هذا الكتاب بين يديه أنَّني ردَدْتُ رواية الأبيات إلى صيغتها التي جاءَتْ بها في دواوين شعرائها ـ ( أبو نؤاس ، وأبو تمام ، والمتنبي ) ـ وكتبْتُ عليها تعليقاتي ورأيي الذي هو خاصٌ بي ، والذي ليس بالضرورة أنْ يتطابق مع رأي المصنِّف ورأيي والمحققينِ ، وقد كثر الاختلاف معهم أو قلَّ توافقي معهم جميعاً ، وقد أضفْتُ على تلك الشواهد شاهدينِ للمتنبي أحفظهما في ذاكرتي وتحققتُ منهما لدى مراجعتي لديوانه ، وأعرف غيرهما لكنَّني لا أريد الإطناب والإطالة أكثر ممَّا أطنبْتُ وأطلْتُ .
***
وقد برع نقاد الشعر في جانبٍ آخر هو نقدهم للمعاني ، وبرع الشعراء كذلك في التأويل والتبرير والأمثلة على ذلك كثيرة وعديدة أكتفي بسوق بعضٍ منها :
* قال أحدهم لبشار بن برد : إنَّك لتجيء بالشعر المتفاوت ، قال بشار : وما ذاك ؟ ، قال : ( تقول شعراً ثير به النقع ) ـ أي الغبار ـ في قولك :

كَأَنَّ مُثَارَ النَقعِ فَوقَ رُؤُسِنَا = وَأَسيافَنا لَيلٌ تَهَاوَى كَوَاكِبُه

وتخلع به القلوب ، مثل قولك :

إِذا مَا غَضِبْنَا غَضبَةً مُضَرِيَّةً = هَتَكْنَا حِجَابَ الشَمسِ أو تُمطِرَ الدَمَا
إِذا مَا أَعَرْنَا سَيِّداً مِن قَبيلَةٍ = ذُرَا مِنبَرٍ صَلّى عَلَينا وَسَلَّما

إلى أنْ تقول :

رَبابَةُ رَبَّةُ البَيتِ = تَصُبُّ الخَلَّ في الزَيتِ
لَها عَشرُ دَجاجاتٍ = وَديكٌ حَسَنُ الصَوتِ

فقال بشار : لكلِّ شيءٍ وجهٌ وموضع ، فالقولان الأوَّلان جِدٌ ، وهذا الأخير قلته في جاريتي ربابة ، لأنَّني لا آكل البيض من السوق ، وربابة هذه لها عشرُ دجاجاتٍ وديك ، وهي تجمع البيض منها وتحفظـه لي ، وهذا القول عندها أحسنُ من قول : ( قِفَا نَبْكِ مِن ذِكرَى حبيبٍ ومنزلِ ) عندك .
* واجتمع الفرزدق وجرير عند عبد الملك بن مروان في مجلسه ، فقال الفرزدق : النوار بنتُ مجاشع ـ زوجته ـ طالقٌ ثلاثاً إنْ لم أقلْ قولاً لا يستطيع ابن المراغة ـ لقب أم جرير ، لقبها به الفرزدق ، والمراغة : الأتان ، أو أنثى الحِمار العادي والوحشي ـ أنْ ينقضه أبداً ولا يجد في الزيادة عليه مذهباً ، فقال عبد الملك ما هو :

فَهَل أَحَدٌ يَا ابنَ المرَاغَةِ هَارِبٌ = مِنَ المَوتِ ؟ ، إِنَّ المَوتَ لا بُدَّ نائِلُه
فَإِنِّي أَنَا المَوتُ الَّذي هُوَ ذاهِبٌ = بِنَفسِكَ ، فَاِنظُر كَيفَ أَنتَ مُحاوِلُه ؟

سكت جرير قليلاً ، ثمَّ قال : أمُّ حرزة ـ زوجته ـ طالقٌ ثلاثاً إنْ لم أكن نقضته وزدْتُ عليه ، فقال عبد الملك : هاتِ فقد والله طلَّق أحدكما لا محالة ، فأنشد :

أَنا البَدرُ يُعشِي طَرفَ عَينَيكَ فَاِلتَمِسْ = بِكَفَّيْكَ يَا ابنَ القَيْنِ هَلْ أنتَ نَائِلُه ؟
أَنا الدَهرُ يُفنِي المَوتَ وَالدَهرُ خَالِدٌ = فَجِئْنِي بِمِثلِ الدَهرِ شَيئاً يُطَاوِلُه

بين بيتي جرير ثلاثة أبيات أخرى حذفتهما لأركِّز على المعنى المنشود ؛ وابن القين هو : الفرزدق لا غيره ، والقينُ هو الحداد ، وكان جرير لصعصعة جدِّ الفرزدق قيون ، منهم : جبير ووقبان وديسم ، فلذلك جعل جرير قوم الفرزدق قيوناً ، وكان جرير أيضاً ينسب غالب بن صعصعة والد همام الفرزدق إلى جبير القين .
فقال عبد الملك للفرزدق : فضلك والله وطلَّق عليك ، فقال الفرزدق : فما يرى أميرُ المؤمنينَ ، فقال الخليفة : وأيم الله لا تريم ـ يقصد : لن أدعك والله تربح المكان ـ حتى تكتب إلى النوار بطلاقها ، فتأنَّى الفرزدق وحاول التهرُّب ، فزجره عبد الملك ، فكتب بطلاقها وقال في ذلك :

نَدِمْتُ نَدَامَةَ الكُسَعِيِّ لَمَّا = غَدَت مِنِّي مُطَلَّقَة نَوَارُ
وَكانَتْ جَنَّتِي فَخَرَجْتُ مِنهَا = كَآدَمَ حِينَ لَجَّ بِها الضِرَارُ
وَكُنْتُ كَفَاقِئٍ عَينَيهِ عَمْدَاً = فَأَصبَحَ مَا يُضِيءُ لَهُ النَهَارُ
وَلا يُوفِي بِحُبِّ نَوَارَ عِندِي = وَلا كَلَفِي بِها إلا اِنتِحَارُ
وَلَو رَضِيَتْ يَدايَ بِها وَقَرَّتْ = لَكانَ لَهَا عَلَى القَدَرِ الخيَارُ
وَمَا فَارَقْتُهَا شبعَـاً وَلَكِنْ = رَأَيْتُ الدَهرَ يَأخُذُ مَا يُعَارُ

والكسعي هو : غامد بن الحرث الكسعي ، من أمهر الرماة وأحسن الصيادين ، قالتْ عنه العرب في أمثالها : ( أندم من الكسعي ) ، لأنَّه اتَّخذ قوساً وخمسة أسهم ، وقصد مورد حمر وحشية وكمن لها ، فمرَّ به قطيع منها ، ورمى واحداً فنفذ فيه السهم وجازه ليصيب الجبل وأورى ناراً ، فظنَّ أنَّه أخطأه ، فرمى ثانياً وثالثاً ورابعاً وخامساً ، وهو في كلِّها يظنُّ خطأه ، فعمد إلى قوسه فكسرها ، ثمَّ باتَ ، ولمَّا أصبح الصبح فإذا الحمر مطروحة مصروعة وأسهمه بالدم مضرَّجة ، فندم ندماً شديداً ، وعضَّ إبهامه حتى قطعه .
* وعابوا على الأحوص قوله لعمر بن عبد العزيز :

وأَرَاكَ تَفعَلُ مَا تقولُ وَبَعضُهم = مَذْقُ الحديثِ يَقُولُ مَا لا يَفعَلُ

لأنّ َالملوك لا يُمدحونَ بما يلزم عليها فعله أو القيام به ، بل تمدحُ بالإغراق والتفضيل بما لا يستطيع غيره فعله .
* وعاب نفرٌ من النقاد على كثيِّر عزَّة قوله :

أُريْدُ لأَنسَى ذِكرَهَا فَكأنَّما = تَمَثَّلُ لِي لَيلَى بِكُلِّ سَبِيلِ

فقالوا : إذا كان يحبُّها لماذا يريد أنْ ينسى ذكرها ؟ .
* وعابوا على يزيد بن مالك الغامدي قوله :

أكُفُّ الجَهلَ عَن حُلَمَاءِ قَومِي = وأَعْرِضُ عَن كَلامِ الجَاهِلِينَا
إذا رَجُلٌ تَعَرَّضَ مُسْتَخِفَّاً = لنَا بِالجَهلِ أَوشَكَ أنْ يَحِيْنَا

لأنَّه أوجب لنفسه في البيت الأوَّل الحلم والإعراض عن الجُهَّال ، ونفى ذلك بعينه في البيت الثاني بتماديه في معاقبة الجاهل بأقصى عقوبة وهي القتل .
* وقف أبو نؤاس بين يدي الفضل بن يحيى البرمكي ، مادحاً إيَّاه وآله ـ آل برمك ـ بقصيدة مطلعها :

أَرَبْعَ البَلى إِنَّ الخُشُوعَ لَبَادِي = عَلَيكَ وَإِنِّي لَمْ أَخُنْكَ وِدَادِي

ولمَّا وصل إلى قوله في آخرها :

سَلامٌ عَلى الدُنيَا إِذا مَافُقِدْتُمُ = بَنِي بَرمَكٍ مِن رائِحِينَ وَغَادِي

اشمأزَّ منه الفضل وكشَّر في وجهه واغتاظ منه وكرهه ، ثم أطرق قائلاً له : ويحك نعيْتَ إلينا أنفسنا يا أبا نؤاس ، فما كان من أبي نؤاس إلا أنْ استطرد قائلاً مرتجلاً مكمِّلاً لتلك القصيدة :

بِفَضلِ بنِ يَحْيَى أَشرَقَـتْ سُبُـلُ الهُدَى = وَأَمَّنَ رَبِّي خَوْفَ كُلِّ بِلادِ
فَدُونَكَهَا يَا فَضْلُ مِنِّي كَرِيمَةً = ثَنَتْ لَكَ عَطْفاً بَع~دَ عِزِّ قِيَادِ
خَلِيلِيَّةٌ فِي وَزنِهَا قُطرُبِيَّةٌ = نَظائِرُها عِندَ المُلُوكِ عَتَادي
وَمَا ضَرَّها أَنْ لا تُعَدَّ لِجَرْوَلٍ = وَلا المُزَنيِّ كَعْبٍ وَلا لِزِيَادِ

فغطى على فعلته ، وأسكت الفضل البرمكي عنه فنال عطاياه ، ولم تمضِ على هذه الحادثة إلا مُدَّة قصيرة حتى أوقع الرشيد بآل برمك كلِّهم ، فصحَّ فأل أبي نؤاس فيهم ! .
* واستهجنوا قول أبي محجن الثقفي في وصف جاريةٍ مغنية :

وتُرْفِّعُ الصَوتَ أحيَانَاً وَتخفضُهُ = كَمَا يَطِنُّ ذبَابُ الروضَةِ الهَزِجُ

فقالوا أيُّ قينةٍ هذه التي تحبُّ أنْ تُشبَّه بالذباب ؛ وقالوا بأنَّه سرق بيت عنترة بن شداد العبسي في وصف ذباب الرياض فقلبه مفسداً المعنى ، وهذا البيت المسروق هو :

وَخَلا الذُبَابُ بِهَا فَلَيسَ بِبَارِحٍ = غَرِداً كَفِعلِ الشَارِبِ المُتَرَنِّمِ

* كذلك استهجنوا قول محمد بن أحمد بن حمدان المعروف بالخباز البلدي ـ نسبة إلى مدينة ( بلد ) العراقية ـ ذلك الشاعر الأميُّ المتوفى سنة ( 380هـ ـ 990م ) ، والذي قال عنه أبو منصور الثعالبي صاحب كتاب ( يتيمة الدهر ) : ( كان أمياً وكان حافظاً للقرآن يقتبس منه... ، ومن عجيب شأنه أنَّه كان أميَّاً وشعره كلُّه مُلحٌ وتحفٌ ، وغررٌ ولُطف ، لا تخلو مقطوعة له من معنىً أو مثلٍ سائر ) ، قلتُ : ومع ذلك استهجنوا قوله :

كَأنَّ شَقَائِقَ النُعمَانِ فِيهِ = ثِيَابٌ قَد رُوِيْنَ مِن الدِمَاءِ

مع أنَّ تشبيه الشاعر هنا هو تشبيه مصيب ، إلا إنَّ فيه بشاعة في ذكر الدماء .
* واستقبح قول الداهية بشار بن برد :

وَجَدَّت رِقَابُ الوَصلِ أَسيَافَ هَجرِنَا = وَقَدَّت لِرجْـلِ البَينِ نَعلَينِ مِن خَدِّي

فقالوا : ما أهجن ( رجل البين ) وأقبح استعارتها ولو كانتْ الفصاحة بأسرها فيها ، وكذلك قالوا عن ( رقاب الوصل ) .
* أمَّا أبو تمام فقد نال نصيبه من استقباح النقاد واستهجانهم وتعييبهم شعره ، ومن ذلك قوله :

فَلَوَيْتَ بِالمَوعُودِ أَعنَاقَ الوَرَى = وَحَطَمْتَ بِالإِنجَازِ ظَهْرَ المَوعِدِ

فالمعنى في غاية الرداءة ، وفي ( حَطْم ظهر الموعد ) استعارة قبيحة جداً ، فالإخلاف هو الذي يحطم ظهر الموعد لا الإنجاز .
وقوله :

تَحَمَّلتَ ما لَو حُمِّلَ الدَهرُ شَطرَهُ = لَفَكَّرَ دَهراً أَيُّ عِبأَيهِ أَثقَلُ

قالوا : ليس هناكَ معنىً أبعد من الصواب من هذه الاستعارة المَكنيَّة ، بأنْ جعل للدهر عقلاً وجعله مفكِّراً في أيِّ العِبأينِ أثقل .
ومثله قوله السابق في نفس القصيدة :

بِيَومٍ كَطُولِ الدَهرِ فِي عرضِ مِثلِهِ = وَوَجدِيَ مِن هَذا وَهَذاكَ أَطوَلُ

فمن المحال أنْ يكون للدهر عرضٌ .
كذلك استهجنوا إلباسه الزمان صوفاً بعد أنْ كانوا رداءً له ، في قوله :

كَانُوا بُرُودَ زَمَانِهِم فَتَصَدَّعُوا = فَكَأَنَّمَا لَبِسَ الزَمَانُ الصُوفَا

ولم يستحسنوا تشبيهه الظُلم بالبعير ووصفه له بأنَّه بارك ، في قوله :

كُلُوا الصَبرَ غَضَّاً وَأَشرَبُوهُ فَإِنَّكُم = أَثَرْتُم بَعِيْرَ الظُلمِ وَالظُلمُ بَارِكُ

* وكان الآمدي صاحب كتاب ( الموازنة بين الطائيينِ ) قد استهجن واستقبح قول أبي عبادة البحتري في مدح الخليفة المعتزِّ بالله :

لا العَذْلُ يَردَعُهُ وَلا الـ = ـتعْنِيفُ عَن كَرَمٍ يَصُدُّهُ

فقال : وهذا عندي من أهجن ما مُدِح به خليفة وأقبحه ، مَن ذا يعنِّف الخليفة أو يصدُّه ؟ ، إنْ هذا بالهجو أولى منه بالمدح .
***
وهناك نوع أخيرٌ من نقد الشعر العربي لن أتطرَّق إلى نماذجه حتى لا تطول هذه المقالة أكثر ممَّا طالتْ ، وهو ما استحسنوه منه وأثنوا عليه ، علماً أنَّ عندي منه شواهد كثيرة ، كما أنَّ عندي شواهد أخرى كثيرة ممَّا عابوه واستهجنوه واستقبحوه غير التي ذكرتها لم أتطرَّق إليها لنفس السبب .
لم يبقَ لي في هذه الأكتوبة إلا أنْ أشير إلى أنَّها رسالة إلى كلِّ مَن يتصدَّونَ لكتابة الشعر ويضمِّنونه أخطاءً لغوية بادِّعاءٍ باطل أنَّها ضرورات شعرية ، فلا علاقة للخطأ اللغوي بالضرورة الشعرية التي توقفتْ عند بشار بن برد المتوفى سنة ( 167هـ ـ 783م ) ، كما شرحتُ وبيَّنتُ قبلاً .
أمَّا شويعري ما يسمُّونها أو يطلقونَ عليها ( قصيدة النثر ) ، فأقول لهم : أنا لا أعرف أنَّ للنثر قصيدة ، وقد كتبْتُ عن ذلك في مقالة سابقة لي ، وعندي عن النثر وقصيدته المزعومة بحثٌ طويلٌ ضافٍ سأنشره يوماً ما على صفحات جريدة ( الزمان ) إذا راق القائمينَ على النشر فيها واستحسنوه ، وسأناقش فيه بالتفصيل المُمِلِّ موضوعَ ترجمة أشعار الشعراء الغربيينَ الذين قلَّدهم شويعرونا ولبسوا ثوبهم ، ومنهم ابتدعوا بدعتهم التي سمَّوْها ( قصيدة النثر ) ، وخلطوا بينها وبين الشعر الحرِّ ، من دون معرفةٍ ودرايةٍ ، وللأسف ساعدهم بعض نقَّادنا على ذلك كلِّه بأنْ أثنوا عليهم ومدحوهم أو سكتوا ، حتى لا يُتَّهمونَ ـ أو لا يتهمونهم ـ بالرجعيَّة والانغلاق ؛ وسأبتعد فيه عن ذكر أسمائهم حتى لا أجرح مشاعرهم ، وربَّما أبتدع لهم نصوصاً قريبة من كتاباتهم بتغيير بعض المفردات أو إضافة أخرى من عندي ، حتى لا أقتبس نصوصهم التي سأسفِّه عباراتها وأطعن ببيانها وأفكِّك تراكيبها المفكَّكة أصلاً ، فأحزنهم على أنفسهم ، وأغضبهم منِّي .
وأخيراً وليس آخراً : هذا ما عنَّ لي اليوم من ملاحظاتٍ ، آملاً أنْ ألتقيكم في مناسباتٍ أخرى أعرض لكم فيها نماذج نقدية أخرى عن نقد شعر العرب ونثرهم .

رمزي العبيدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى