ثروت أباظة - في ميزان النقد ( أرض الخطايا).. تأليف الأستاذ أمين يوسف غراب

هي مجموعة أقاصيص للقصاص الفنان الأستاذ أمين يوسف غراب. والأستاذ أمين عريق في فن الأقصوصة خبير بأهدافها ذو قلم قوى. . . قادر دائماً على أن يظهر الملامح الرئيسية التي يريد لها الأستاذ أن تظهر. وتمتاز المجموعة أن أغلب أقاصيصها تهدف كل منها إلى فكرة اجتماعية معينة، والقصاص ذو الفكرة الاجتماعية جرئ، والقصاص الذي يستطيع أن يصل إلى هده بقصته دون أن يعلن هذا الهدف بالتصريح بل هو يعلنه بالقصة نفسها وبحوادثها وبالحوار فيها، هذا القصاص قدير. . . والأستاذ أمين صاحب فكرة اجتماعية، والأستاذ أمين يستطيع أن يصل إلى هدفه بقصته حيث يريدها غير مقيم من نفسه خطيباً اجتماعياً هو قصاص ذو فكرة إذن.

لن أستطيع أن ألم بأقاصيصه جميعاً فهي كثيرة لا تستطيع هذه الكلمات الإحاطة بها، ولكنني سأتناول بعضاً من الأقاصيص الهادفة إلى فكرة. وقبل هذا التناول لابد لي أن أذكر أن الأستاذ أمين من الذين يضعون القدر فوق كل شيء، ويلقون إليه بكل مسئولية؛ وهو بعد هذا يهاجمه أشد هجوم. ولقد ساق لنا من الأقاصيص ما يجعلنا نجزع من هول ما يصنع هذا القدر. فلقد قتل الأستاذ أمين أمامنا أرواحاً بريئة، نعلم براءتها. وقتل دون أن يهدف بقتلها إلى فكرة اجتماعية، إلا إن القدر غلاب. وأعتقد أن الإصرار على هذا يقعد بنا قعوداً كاملاً عن محاولة الإصلاح، فماذا بيدنا نحن المخلوقات الضعيفة أمام القدر الباطش السفاك؟ ما الإصلاح الذي يريده الأستاذ أمين بأقصوصته (الدم الأبيض) مثلاً. . . وما الإصلاح الذي يريده (براعي الغنم)؟ أنا لا أطلب إليه أن يجعل أقاصيصه كلها هادفة إلى غرض اجتماعي معين، ولكنني أطلب إليه وأصر أن لا يعرض علينا هذه الصور الموغلة في السواد، فالقصاص على أتم حرية أن لا يهدف إلى لإصلاح اجتماعي، ولكنه لا يملك مطلقاً الحرية في أن يلقي على أيامنا السواد. وليس على شيء من الحرية في أن يهتف بنا كلما رام أحدنا إصلاحاً: أن قفوا بالقدر من ورائكم هادم ما تريدون إقامته، مذل منكم الأعناق، أنا لا أطلب إليه أن يجعل أقاصيصه ذات هدف اجتماعي إصلاحي ولكنني أطلب إليه ألا يذكرنا بهذا القدر فتقعد همة تحاول أن تهب، وتحوز عزيمة توشك أن تثب.

وللأستاذ أمين أقاصيص بلغت من الكمال مكاناً وهي مع ذلك لم تهدف إلى إصلاح إلا أن تطمئن النفس العاملة أن لها أجرها، وإلا أن تبشر من بلاه الله بتشويه في خلقته، أن جمال الروح أثمن من جمال الوجه كما في أقصوصة (حكمة القدر) التي لابد لقارئها حينما ينتهي منها أن يشعر بأن القدر الغاشم الصلب قد يكون رءوفاً كرماً. هي أقصوصة قدرية ولكنها لا تشوه أمامنا القدر ولا تقعد بذي الهمة ولا تخير صاحب العزيمة:

لابد لي بعد هذا أن أتناول بعضاً من تلك الأقاصيص التي هدف فيها الأستاذ أمين إلى فكرة معينة. وإني لأشايعه في بعض من هذه الأفكار وأعارضه في بعض منها آخر؛ ولكنني عجبت من أربعة مواضع تعارض فيها مع نفسه تعارضاً واضحاً؛ فهو في أقصوصة (وفار التنور) يذكر مقدار الحاجة الملحة للمال وكيف دفعت هذه الحاجة الخباز حارس الفرن أن يلتهم ديكا كان يعد لأحد الباشوات ثم حرق نفسه بعد أكلته. . هو في هذه الأقصوصة جعل الرجل يدفع حياته كلها في سبيل أكلة. . الفكرة غريبة بعض الشيء لأن الجوع كان من نفسه سيؤدي بالرجل إلى الموت، كما أنني أعتقد أن سرقة ديك لا يعاقب عليها بالإعدام الذي حكم به الرجل على نفسه. على أية حال كان الرجل معدماً في أشد الحاجة إلى المال ليأكل، فسرق وأكل وانتحر. . في هذه الأقصوصة أظهر لنا عظمة المال وجبروته ولكنه في قصة أخرى هي (آفة السعادة) جعل آفة السعادة هي المال نفسه. والحياة بين اثنين، إما وجود المال أو عدمه، فإن كان وجوده تعاسة وإعدامه موتاً. فماذا يرى الأستاذ؟

أما الموضعان الآخران فهما أشد غرابة في تعارضهما؛ فهو في أغلب أقاصيصه كان يهدف - كما قلت - إلى فكرة اجتماعية جليلة، ومعنى هذا أنه يرى أن الفن أداة للإصلاح الاجتماعي، بل هو يذهب إلى أبعد من هذا فيعمل بفنه في سبيل الإصلاح الاجتماعي ولا يمكن أن يكون مصلحاً اجتماعياً إلا إذا كان إنساناً يأكل ويشرب ويتزوج. هو إذن من أنصار النظرية السائدة اليوم أن الفن للمجتمع وليس للفن، وأن الفنان من المجتمع وإلى المجتمع، ولكننا بعد هذا ثراه في أقصوصة (ثورة الآلهة) وهي أقصوصة رمزية عن فنانة إنسانة. نرى الأستاذ يوسف يحرمها الزواج ويرفعها إلى مصاف الآلهة، ويريدها فنانة للفن، وللفن فقط مثلاً في المجتمع. وهكذا التوت القصة على نفسها فهي إن كانت تعيش للمجتمع فلابد أن تحس به لتنتقل؛ وإن كانت تعيش للفن فلابد أن تنقطع عن المجتمع وتستلهم الوحي وحده - إن وجد - وهكذا أيضاً تتعارض الأقصوصة مع روح الأستاذ أمين.

وقد يقول الأستاذ أمين أنه قصاص ينقل ولا شأن له المجتمع وهذا الكلام معقول لو لم تتجه أغلب أقاصيصه إلى ناحية اجتماعية معينة. وهذا القول بطبيعة الحال لا ينطبق مطلقاً على الأقصوصة الرمزية، لأن القصة الرمزية في أصلها فكرة مجردة في ذهن القصاص، وأراد أن يعبر فعبر عنها بقصة فهو يرمز، وهي بخلاف الأقصوصة الواقعية التي هي في الأصل صورة من الحياة تنقل نقلاً، أو صورة ترسم رسماً لتشابه صور الحياة.

وبعد فالمجموعة تضم أقاصيص بلغت غاية الروعة. ولا ينقص المجموعة هذه المآخذ الهينة التي أحاول أن آخذها على الأستاذ أمين غراب، فأقصوصة (المذياع الحكيم) و (مائة دجاجة وديك) و (الفناجين الحمر) وغيرها، كلها أقاصيص تؤكد أن الاسم الذي يتمتع به الأستاذ أمين يوسف غراب إنما يدل على أن صاحبه يستحقه، ويستحق معه كل إكبار وتجلة.

ثروت أباظة


مجلة الرسالة - العدد 968
بتاريخ: 21 - 01 - 1952

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى