أحمد محمد الدماطي - الشِّعر الديني عند جميلة العلايلي - 2/1.

إضاءة:

"جميلة العلايلي" شاعرة رائدة من شواعر جماعة "أبولو" الشعرية التي تزعمها أبوشادي. وُلدتْ على ضفاف النيل بالمنصورة في 20 مارس 1907م، وربما كانت الشاعرة الوحيدة التي واصلت مسيرتها الشعرية مع "أبولو" لأمدٍ طويلٍ كاشفة عن مكنونات وجدانها وعواطفها في جرأة لا تتنافى مع الحياء الذي يسِم المرأة. وقد كان لأبي شادي فضلٌ كبير في رعاية نبوغها الأدبي، فاحتفى بقصائدها في مجلة "أبولو" خلال سنوات صدورها المحدودة، وظل يشجعها فصدّر لها ديوانها الأوّل" صدى أحلامي" بمقدمة ضافية عام 1936م، كما كتب لها عام 1951م مقدمة لديوانها "نبضات شاعرة" والذي تأخر صدوره حتى عام 1981م ليكون ثالث دواوينها صدورًا، وقد نشرتْ جميلة قصائدها في معظم المجلات الأدبية بداية من: أبولو والرسالة والثقافة وغيرها، كما أخرجت لنا ثلاثة دواوين مطبوعة، هي: صدى أحلامي 1936م، صدى إيماني 1976م، نبضات شاعرة 1981م، فضلاً عن ديوانين مخطوطين، هما: همسات عابدة، وآخر المطاف، كما كانت لها مجلة أدبية اسمها (الأهداف) والتي دوامت على الصدور قرابة ربع قرن من الزمان( 1948- 1973م)، وكان زوجها الصحفي الأستاذ سيد ندا يعاونها في تحريرها.

و"جميلة" شاعرة جديرة بالدراسة،وإن كانت تعرّضتْ للإهمال والجحود من قِبل كثير من الدارسين، فقد حاول كاتب هذه السطور إنصافها في أطروحته للماجستير بكلية دار العلوم جامعة القاهرة (يناير 2008م)، وأجد لزامًا عليّ إبراز جوانبها الإبداعية، وهذا ما دعاني للمشاركة في هذا الملتقى لعرض موضوعٍ من موضوعاتها الشعرية المميزة، وهو الشعر الديني عندها.

وتُوفيت جميلة العلايلي في 11 أبريل 1991م، وما زالت إبداعاتها الشعرية والنثرية جديرة بالدراسة والتحليل.


توطئة:

حاجة النفس البشرية إلى وجود دينٍ أو عقيدة تؤمن بها حاجةٌ ملحة، سواء أصحَّتْ تلكم العقيدة أم بطلت؛ فالإنسان لا يستغني عن التعاليم والمبادئ التي تهديه الطريق، وتحدد له الغاية من وجوده في الحياة، وإلى مَنْ تُصرَف أعماله، وما الدَّافع لها، وما الجزاء الذي ينتظره.

وقد اختص الله – سبحانه وتعالى - بلاد المشرق العربي بأن جعلها مهبط الرِّسالات السماوية، مما وَسَمَ حضارتنا الشرقية برُوحانيّةٍ عالية لا تتَّكِل على المادة اتكالاً يُفسد جانب الروح فيها، وقد دعا ذلك العربيَّ للاعتزاز بدينه وفلسفته.

ويكاد ألا يخلو ديوان الشعر العربي من تأثر بارز بالدين؛ مبادئه، وتعاليمه السامية التي أسهمتْ بشكل كبير في نشوء عدد من الأغراض الشعرية التي تستندُ إلى الدين الإسلامي مرجِعِيَّةً، ويبرُز أثرُه في نشوئها، بحيث يُتَعذَّر تناول هذه الأغراض بالدرس والتفسير بمعزل عن المؤثرات الدينية الواضحة، ومن بين هذه الأغراض: الزهد، الوعظ، الدعاء، الحب الإلهي (الغزل الصوفي)، والمدائح الدينية، وغير ذلك من أغراض تستهدف التذكير بالدين والدعوة لمبادئه.()

وسأحاول في هذه الدراسة أن أعرض للأثر الديني في أشعار جميلة العلايلي، وأوّل ما أتناولُه موضوع (الحب الإلهي في شعر جميلة العلايلي):


أولاً : الحب الإلهي

يلتمعُ أثر التصوف بوضوح في أشعار الحب الإلهي بما تحمله من وَجْدٍ وعزلة وتأمُّل وزهادة حسيّة في مُتع الدنيا ونعيمها، ومناجاة خالصة لله -عزَّ وجلّ- وتَقرُّب إليه بالطاعة والحب، وهذا ما دعا بعض الدارسين لإدراج هذا الشعر الصوفي ضمن الموضوعات الفلسفية لما يحمله من موقف من الحياة، وتنامٍ للجدل بين " الذات" وما حولها وصولاً إلى محاوراتها الإلهية، ومناجاتها للخالق- سبحانه-.

ولكنّي آثرتُ أن يكون موضوع الحب الإلهي موضوعًا دينيًا، فهو وإن شابَتْهُ لمحاتٌ فلسفية؛ فهي فلسفة دينية نابعة من صميم العاطفة الدينية، وقد دعاني هذا لأن أفرّق بين التصوف الدِّيني، والتصوف الكوني في أشعار "جميلة"، فعلاقتها في "الأول" تنعقد على سبَحَاتِ الروح، والوجْد، ومحاورات العشق الإلهي مع الخالق- عزّ وجل- تعبيرًا عن الحب والانقياد والتسليم لمشيئته، وطلبًا لرضاه، وطمعًا في جنته ونعيمه بينما في التصوف الكوني تتحاور مع الكون وقضاياه، وتناقش فلسفات الموت، والمصير والوجود، والرؤية الميتافيزيقية للأشياء والغيبيات، والموقف منها سخطًا ورضى، حيرة وترددًا، شكًا ويقينا.

وقد نال موضوع الحب الإلهي في شعر المرأة العربية حظًا وافرًا، وليس خافيًا عنّا تلك النماذج الرَّاقية من الشعر التي أبدعتها "رابعة العدوية"([ii])، وفيها حُبٌّ صادق لله، تقربًا إليه، لا طمعًا في جنته، أو خوفًا من ناره، حتى صار حبها مذهبًا تمثلته في حياتها سلوكًا. وعاش هذا النموذج دهورًا فتمثلته شواعر عصرنا، ونسجنَ على منواله، وإن لم يشابهن صاحبته في مذهب حياتها وتمسكها وزهدها.([iii])

وثمّة رأي يذهب إلى أن الحبَّ الإلهي يكون في غالب أمره امتدادًا لحُبٍّ أرضيٍّ، وتطورًا لحبٍّ إنساني؛ فكثيرٌ من العارفين ذاق في شبابه مرارة الحبّ الأرضي، وعانى معاناة العُشَّاق من منعٍ وصدٍّ وسُهادٍ ، فلمَّا هطل الفيضُ السماوي على روحه – بعد أمدٍ طالَ أم قصُر – كانت نفسه أشدّ شوقًا للسير في طريق هذا الحُبِّ الجليل المليء بالخشوع والدموع ابتغاء الفوز برضوان الله، ورحمته.([iv])

وقد اقتربت "جميلة" في أشعار حبها الإلهي النابع من تصوفها وزهدها وما فرضتْه على نفسها من عزلة في أخريات حياتها من ذلك الخط الذي اختطته "رابعة" في أشعارها المحبّة، فنّا وسلوكًا. فالصدق الفنّي والواقعي أبرز ما يميز أشعارها؛ فحبُّها نابع من فؤاد مشوق، وقلب متيّم يرى هناءته وسعادته في مناجاته لمحبوبه الأعظم، وليس هناك أعظم من الأنس بالله – تعالى- والتقرّب إليه بالحب، وهذا ما تُفْصِح عنه قصيدتها " يا رب " حيث تقول:

هيهاتَ لنْ ينسى هواكَ القلبُ
ما كنتُ ساليةً غَرَامكَ إنَّما
ما كنتُ حافلةً لفَقْرِ عَوالمي
هو ذا غَرامي في الحَشَا مُتَوهِّجٌ
ما كنتُ أهْوَى غيرَ ربِّي خَالقي
ما ذاكَ حُبٌّ إنَّما هو جَذْوةٌ
ما ذاكَ حُبٌّ إنَّما هو شُعْلةٌ
أبدًا يُناجيكَ الفُؤادُ الصَّبُّ
أخْشَى يُزَلْزِل جَانِبي الحُبُّ
ونَسِيمُكَ الحَاني علَيَّ يَهُبّ
كالنَّار بالنَّبْتِ الهشيمِ تَشبُّ
قلْبِي اللهيفُ من الغَرامِ يَعُبُّ
قُدْسِيَّةٌ في مُهْجَتي يا رَبّ
أضْواؤها بين الضُلُوعِ تَدِبُّ([v])

وحبها دائم وموصول لربها، تتلمس فيه هناءتها، وتبتغي رضاه – سبحانه- وفي إحدى همساتها تقول:

سأظل عاشقةً لربِّي وحدَهُ
لا تَبْرحُ الأضواءُ ساحةَ مُهْجَتي
ياربّ فامْنَحْنِي الرِّضَا بكَ واسْقِنِي
سأظلُّ هانِئةً بِحُبٍّ كَامِلِ
فيكَ الرَّجاءُ ورغبة المُتفائلِ
من فيضِ بِرِّكَ ذاكَ أعظم نَائلِ([vi])

وتعبر عن حبها لربها بقصائد كثيرة، أودعتها مناجاتها وتسابيحها وابتهالاتها للخالق -عز وجل- وتوسلاتها واستشفاعها به سبحانه وتعالى، فهو وحده الناصر والمعين، وفي مُقَطَّعة بعنوان "أمل" تقول:

لاح الضياءُ وليس لي
إنِّي عليكَ قدِ اعْتَمَدْتُ
وقَصدتُ بَابكَ لاجِئًا
يا ربّ ليسَ سواكَ لِي

(م)

يا ربّ غيركَ مِنْ سَنَدْ
وأنتَ نِعْمَ المُعْتَمَدْ
فاشْمَلْ بلُطْفكَ مَنْ قَصَدْ
قلبي بسَاحِكَ قدْ سَجَدْ([vii])

وهذا الحب، وتلك الابتهالات كثيرة(*) في أشعارها المستمدة من تصوفها وتدينها، فها هي تخاطب إلهها في قصيدة "إلهي" فتقول:

إلهي أنت تَعْلمُ ما بقلبي
فأيِّدْني بإيمانٍ ، ودِينٍ
إلهي إنَّني بكَ في هُيامٍ
وهذا الحُبّ حسبي في حياتي
وأنت الواحدُ الأحَدُ المُرَجَّى
إلهي كُلَّما لاحَتْ غُيومٌ
إلهي أنتَ أعلمُ بالخَفَاءْ
فإنَّّ الدِّينَ للدنيا هَناءْ
وهذا الحبُّ دِفءٌ في العَراءْ
ففيه الرِّيُّ بل فيه الغَناءْ
بتلك الأرض تُعْبَدُ والسماءْ
محاها النور نورُك، والصفاء([viii])

وقد يبدو لنا من نماذج شعرها السابقة أن حبَّها ومناجاتها لربها يُعبِّر عن إغراقٍ في ذاتيتها التي فيها جدلية المحاورة والمناجاة بينها وبين خالقها، غير أن هذا الظن سرعان ما يتبدد حين نطالع أشعارها التي تُشْرِكُ فيها وليدَها معها في دعواتها لربها, وتنداح تلك الدائرة لا لتشمل أسرتها فحسب بل لتشمل كافة الفئات المُسْتضعَفة والمُعذَّبة من الفقراء والمرضى والحيارى, وتتسع كثيرًا لتشمل وطنها مصر ثم وطن العروبة جميعا، ففي قصيدتها "إلهي" تدعو الله لها ولوليدها, فتقول:

إلهي إنني أدْعُوك حُبًّا
فبارِكْنِي وباركْ يا إلهي
لقد أهْدَيْتَه لي يا إلهي
وشِعْرِي فيكَ يا ربِّي دُعاءْ
وليدي, أنتَ حسبي والرَّجَاءْ
عطاؤكَ إنَّه نِعْمَ العَطَاءْ([ix])

وفي قصيدتها "مرضِي" تهب دعواتها لشخص لم تُسمِّه, وإن لاح أنه أحد أصفيائها ممن ترجو لهم الخير, فتقول:

يا ربّ حَصِّنْ رُوحَ من أرجُو له
يا ربّ وارْفَعْ عَنْهُ كلَّ غَشَاوةٍ
حِصْنًا يَقِيهِ بَوَاعثَ اللَّعَناتِ
ليرى ويُبْصِرَ طَاهِرَ الغَاياتِ([x])

وتكرِّس في قصيدتها "إلهي" مناجاتها ربها لأجل المتعبين في الأرض فتقول:

إلهي وامْنَحِ الفُقراءَ زادًا
إلهي وارْحَمِ المَرْضَى فَمِنْهُم
إلهي واهْدِ مَنْ يَسْري بلَيْلٍ
إلهي واشْفِ من يشكُو سقامًا
وزِدْ مَرْضى القُلُوبِ من الشِّفاءْ
فريقٌ كمْ يُعَذِّبهُ البَلاءْ
فأنتَ النُّورُ يَسْطعُ والضِّيَاءْ
فأنتَ الطِّبُّ إنْ عزَّ الدَّوَاءْ([xi])

ولا تنسى الدعاء لقومها ووطنها أن يحفظهما من الأعادي, وأن يهيئ لهما أسباب النصر, فتَرْكَن في دعائها إلى ربها القوي العزيز، فهو وحده المقصود لالتماس النصر لقومها الضعاف, فبمدده –سبحانه- لن يُرْهِبَهم عدوٌّ، فتقول في قصيدتها "دعاء":

ضياؤكَ ملءُ أرضيَ والسماء
إلهي إنَّنا قَوْمٌ ضِعافٌ
إلهي فامْحُ عن قومي الخَطايا
وسدِّد في مسيرتنا خُطانَا
وليس يُخِيفُنا حَشْدُ الأعادي
دُعائي في الصَّلاة إليكَ يَرْقَى
ومنكَ النَّصر يُرْجَى والعطاءْ
وليس سواك أقوى الأقوياءْ
ولُطْفُك يا إلهي في القضاءْ
فأنتَ لجُنْدنا نُور النَّجاءْ
فأنتَ وليُّنَا حامي السّماءْ
بجَهْري أنتَ أعلمُ والخَفَاءْ([xii])

وتختم- أيضًا- قصيدتها " إلهي" بدعاء ربها لأن يصون وطنها الكبير، وطن العروبة من شر أعاديه, فتقول:

وصُنْ وطنَ العروبة مِنْ أعادٍ
تَحِيكُ لأُمَّتِي شرّ البَلاءْ([xiii])

وعلى هذا فأشعار "جميلة" في حبها الإلهي وتسابيحها ومناجاتها لربها لم تقصرها على ذاتها وحدها , فأكثرت فيها من الدعوات لنفسها ووليدها, وللبؤساء في مجتمعها ولوطنها وقومها ووطن العروبة, فحملت إلى ربها همومها التي تؤرقها، وهموم قومها وأوطانها, في اتصال لعاطفتها الدينية بعاطفتها القومية والوطنية، فلم تنغلق على ذاتها, وهذا الامتزاج بين المشاعر الدينية والقومية لا يقتصرُ على أشعارها في حُبِّ الله ودعائه ومناجاته, بل يطَّرِد في كافة أشعارها الدينية الأخرى, وفي مدائِحها النبوية التي تمتدح فيها الرسول الأعظم وآل بيته الأطهار, وهو ما سأتناوله في العنصر التالي.


ثانيًا: المدائح النبوية

المدائح النبوية غرض من الأغراض التي أنهضَها النزوعُ إلى الدين، واعتمال أثره في نفوس الأتباع الذين اتخذوا من مدح الرسول الكريم وآل بيته وسيلة للتقرب إلى الله –تعالى- واستشفعوا بهم واستغاثوا رجاء أن تُقبل أعمالهم وينالوا الأجر العظيم.

ولذلك رأى "زكي مبارك"([xiv]) أن المدائح النبوية من فنون الشعر التي أذاعها التصوف لأنه يعبر عن العواطف الدينية, ولا يَصْدُر إلا عن قلوب ملؤها الصدق والإخلاص.

ومع أن معظم المدائح النبوية قيل بعد وفاة الرسول r, وما يقال بعد الوفاة يسمى "رثاء", فإنَّه في حقِّ الرسول يسمى مدحا , حيث رأوه rموصولَ الحياة قائما في شريعته ودينه , لذا فهم يخاطبونه مخاطبة الأحياء([xv]).

وقد ازدهر هذا الفن ازدهارًا واضحًا في فترات ثلاث([xvi]):

· الفترة الأولى: فترة بداية الدعوة الإسلامية

وذلك في حياة الرسول r, حيث ذاعت مدائح الأعشى وكعب بن زهير وحسَّان بن ثابت, وكانتْ مدائحهم سلاحًا ينافحون به عن الدِّين, ومن فرسان هذه الفترة: كعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، وعبد الله بن جحش.

· الفترة الثانية: فترة الحروب الصليبية

وفيها تهددتْ حُصون الأمة الإسلامية, ودعت الحاجة لاستنفار كل غيور على دينه، وكان العالَم الإسلامي يحتاج للتشبُّث بمعجزة تَنْتَشلُه من وهْدتِهِ, فعادتْ المدائح النبوية, وعلى رأسها بُردة "البوصيري"، ونشأ فن البديعيات, وأبرزها بديعية "ابن حجَّة الحَمَوي", وظهرت دواوين كاملة في مدح الرسول r, فكأنهم التمسوا في هذه المدائح زادًا رُوحيًا يُحيي نفوسهم، ويُقَوِّي عزائمهم.

· الفترة الثالثة: فترة العصر الحديث

شهدتْ هذه الفترة غزوات استعمرت الوطن العربي ردحا طويلا, ولم يتخلص عالمنا العربي الإسلامي منه إلا بعد عناء ونصَب, ولكنه مع ذلك لم يتخلص منه ألبتَّة , فما زالت معظم الأقطار ترزح تحت نير التبعية الاقتصادية والفكرية والسياسية. فكانت المدائح النبوية إحدى وسائل الخلاص والبحث عن قوة دَافعة ومَثَلا أعلى يتبعه السائرون.

يتضح لنا أن هذه الفترات أو المراحل الثلاث التي شهدت ازدهار المدائح النبوية كانت فترات عصيبة ومراحل مصيرية في تاريخ الأمة الإسلامية،شهدتْ صراعًا بين الإسلام والشرك، أو بين المسلمين وأعدائهم الطامعين في ثروات أقطارهم, وكان لسان حال المسلمين طول تلك الفترات الثلاث وشعارهم " نكون أو لا نكون"([xvii]) وكانت الأمة أحوج ما تكون للدعوة لقيم الإسلام ومثله ومبادئه السامية استنهاضا للهمم واستشعارا للأمان والتأييد والنصرة.

وقد هدف الشعر العربي الحديث في مدح الرسول rإلي غايتين, هما: "الدفاع عنه r" والدفاع به r"، وغالبا ما تتمازج الغايتان ويصعب فصلهما عن بعض؛ فقد عُنِيَتْ غاية "الدفاع عنه" بالتعبير عن مشاعر الحب له r والتمسك بشريعته, وبيان صفاته وشمائله, ومحاسن الدين بالنسبة للفرد والأمة، كما لجأت غاية "الدفاع به" إلى التعامل مع الواقع الاجتماعي للأمة بكل متطلباته باستلهام الرسول /الرمز في مواجهة القهر والتعسف, واستثارة الجموع لوقفة إيجابية فعّالة ضد الاستخذاء والهمود.([xviii])

وقد شهد العصر الحديث تيارات شعرية محافظة ومتجددة, وكان المحافظون أكثر وفاءً لغاية "الدفاع عنه" r, فحفلت أشعارهم ببيان صفاته, وأخلاقه r, وتوضيح ميزات الدين، وردِّ شُبُهات ودَعَاوى المستشرقين، واغتنام المناسبات والمواسم الدينية, مثل: "الهجرة" و"المولد النبوي" و"العيدين" و"شهر الصيام", وليلة القدر... إلخ للتعبير عن هذه الغاية؛ بينما كان المجدِّدون أكثر ارتكانًا إلى غاية "الدفاع به" r ([xix]), فتبدلتْ كلماتهم من الضياع والتِّيه والضراعة والأحزان إلى هديرٍ ثائرٍ, وصُمُود, وارتقاب للزحف والتفكير في مسيرة الخلاص, فلم يتخذوا من مولده rمناسبة لتأريخ مسيرته وعرض أحداثها كما فعل السابقون، بل رأوا في مولده رمزًا لموقف عربي موحَّد يربط بين الماضي والحاضر, وكانت هموم الحاضر أكبر حضورا في مدائحهم له r([xx]).

وابتعد معظم الشعراء الرومانسيين عن شعر المناسبات بصفة عامة, فلم نعد نظفر بعناوين مثل: مطلع العام الهجري, حديث الإسراء والمعراج, حلول شهر رمضان؛ فقد انكب معظم الشعراء على ذواتهم, ودأبوا يحللونها, ومع ذلك بقي ميلاد الرسول وبقيت هجرته, وظلت سيرته تثير وجدان الشاعر المسلم([xxi]).

وكانت "جميلة" من بين من استثارتهم المُناسبات الدينية، خاصة مناسبة مولد الرسول r التي أحيتْها بعدد من القصائد الحافلة بالحب والمديح والشكوى والتوسل، وطلب النُّصرة. وكانت تشجع الأدباء والشعراء على الاحتفال بهذه المناسبة، فكانت تعقد "مباراة أدبية كبرى"([xxii]) في ذكرى مولده كل عام وتنشر قصائد الشعراء الفائزة بمجلتها الأهداف.

)) أومأ الباحث الفلسطيني رجا سمرين في رسالته للدكتوراه "شعر المرأة العربية بعد الحرب العالمية الثانية من سنة (1945 – 1970م), بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر (1391 هـ- 1971م), ص 228, إلى أثر الدين في نشوء عدد من الأغراض الشعرية من بينها بعض ما ذكرته. (الرسالة مودعة في صورة مصغّرة فيلمية "ميكروفيلم" بمركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر الشريف بمدينة نصر بالقاهرة)

[ii])) رابعة بنت إسماعيل العدوية (... –180هـ =... – 796م ): أمّ الخير، صالحة مشهورة من أهل البصرة، لها شعر، ولها قبر يُزار بظاهر القُدس من شرقِيِّه على راس جبل يُسمَّى الطور، وقد اختُلِفَ في سنة وفاتها، فقيل 135هـ، وقيل 180هـ، وقيل 185هـ ، والتاريخ الأول اختاره "الزركلي "، وهو أبْعَد، لأنَّ " شيبان بن فروخ" سمع منها في حدود سنة 140هـ، كما أنَّ "ابن كثير " ذكرها في كتابه (البداية والنهاية ) ج10/193،194 ضمن [وفيات سنة 185هـ]. وللدكتور عبد الرحمن بدوي كتاب "رابعة العدوية شهيدة العشق الإلهي" [ يُنْظَر: الأعلام للزركلي ، ج3 ، ص 10، كما يُنظر: ذكر النسوة المتعبّدات الصوفيات: أبو عبد الرحمن السلمي، تحقيق د.محمود الطناحي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الخانجي بالتعاون مع مكتبة الأسرة، 1999م، تعليقات المحقِّق في هوامش ص 27-31 ].

[iii])) شعر المرأة العربية: رجا سمرين, ص 228 , 229

[iv])) دراسات أدبية: د.محمد رجب البيومي، مطبعة السعادة، ( 1402هـ - 1982م )، ج1، ص 186.

[v])) ديوان صدى إيماني: ص 9, وذكرتها أيضا في صدى ديوانها المخطوط همسات عابدة، ص 1.

[vi])) ديوان صدى إيماني: قصيدة همسات عابدة، ص 11, وهي القصيدة ذاتها التي اختارت عنوانها ليكون عنوانا لديوانها المخطوط "همسات عابدة " وأعادت كتابتها فيه, ص 5.

[vii])) ديوان صدى إيماني: ص 25.

(*) طالع قصائدها بديوان صدى إيماني: "الله طبيبي" ص17، و" لولا هيامي " ص 18، و" ألا من دواء" ص 24، وإن اختلط الحب في هذه القصائد بالشكوى والألم أحيانًا.

[viii])) ديوان صدى إيماني: ص 23.

[ix])) ديوان صدى إيماني: ص 24.

[x])) السابق: ص 151،

[xi])) ديوان صدى إيماني: ص 24.

[xii])) ديوان صدى إيماني: ص 25

[xiii])) ديوان صدى إيماني: ص 24

[xiv])) المدائح النبوية في الأدب العربي: د.زكي مبارك: مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر, ط ( 1354 هـ/ 1935 م ), ص 17

[xv])) السابق: ص 17

[xvi])) قضايا في الأدب والنقد, رؤية عربية, وقفة خليجية: د.ماهر حسن فهمي, دار الثقافة، الدوحة، قطر, 1986م، ص 93 , 94

[xvii])) قضايا في الأدب والنقد: د.ماهر حسن فهمي, ص 93 , 94

[xviii])) محمد صلى الله عليه وسلم في الشعر الحديث: د.حلمي القاعود, دار الوفاء بالمنصورة, ط1 (1408هـ – 1987م) ص 91, 92

[xix])) السابق: ص 97, 98, 100

[xx])) قضايا في الأدب والنقد : د.ماهر حسن فهمي, ص 113

[xxi])) قضايا في الأدب والنقد: د.ماهر حسن فهمي, ص102

[xxii])) مجلة الأهداف, ع نوفمبر 1954م, ص 25, إعلان عن المباراة الأدبية الكبرى بمناسبة المولد النبوى الشريف.



الابيات الشعرية المضمنة مرتبكة سنعود لتنظيمها
مع اعتذار هيئة تحرير انطولوجيا السرد العربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى