إبراهيم منصور - ديك البرابر..

يبدو أن الدكتور أحمد خالد توفيق (رحمه الله) ترك أثرا مزدوحا في شبان مصر في العقد الأخير. الأثر الأول جذبهم نحو القراءة، قراءة أدب القصة الخيالية وقصص الرعب. والأثر الثاني جذب الموهوبين منهم نحو الكتابة والأطباء منهم خاصة.
قرأت أمس كتابا لمؤلفه الدكتور هاني مهنى، الكتاب عنوانه "ديك البرابر" صادر عن ناشر اسمه دار أجيال، وهو ناشر مجهول العنوان فلا توجد على الكتاب اسم أية مدينة ولا أي شارع ولارقم مبنى، وإنما رقم هاتف محمول فحسب، ومع ذلك فقد أثبت رقم إيداع للطبعة الأولى بتاريخ 2018.
الكتاب مصنف من الكاتب وناشره "رواية"
والكاتب هو هاني مهنى طبيب القلب، عيادته في شارع الكفراوي بمدينة دمياط الجديدة. أعرف والده الدكتور مهنى غنايم أستاذ التربية، ووالدته الدكتورة هادية أبو كليلة العميد الأسبق لكلية تربية دمياط.
أما الؤلف نفسه فلا أعرفه، ولم أكن أعلم أنه كاتب، إلا حينما جاءني تاجر كتب متجول بنسخة الكتاب فاشتريتها منه.
"ديك البرابر" كتاب سهل أسلوبه ممتع يستطيع القارئ النهم الانتهاء من صفحاته ال 160 في يوم واحد. وهذا يحسب للكاتب فهو دليل موهبة، كما أنه يعني أن موضوع الكتاب مشوق للقارئ.
يتناول كتاب ديك البرابر حياة طبيب حديث التخرج يحكي عن نفسه بنفسه. فإذا سلمنا أنها رواية فهي "رواية سيرة ذاتية"
ويتناول الكتاب فترة عام عمل فيها البطل الدكتور أحمد في وحدة صحية في مركز اسمه الرياح البحري، يقع على شاطئ البحر. ويعود الراوي لفترة أسبق من زمن الحكي، ليحكي عن فترة الدراسة الثانوية، ويسترجع بعض الأحداث من زمن سنة الامتياز وقبلها الدراسة في كلية الطب. لكن الموضوع الرئيسي للكتاب هو سرد وقائع عمل البطل الدكتور أحمد لمدة عام في الوحدة الصحية، بهذا المكان الخيالي الذي يسميه "الرياح البحري" وينتهي الكتاب بنهاية هذه المدة.


قسم المؤلف كتابه إلى 14 فصلا، جعل لكل فصل رقما وعنوانا، ولا أدري لماذا جمع بين كل من الترقيم والعنوان، وكان حقه أن يكتفي بواحد منهما. وعنوان الكتاب مأخوذ من عنوان الفصل الثالث.
لجأ الكاتب للأسلوب الساخر في سرده السلس المتدفق، وقد وفق في كثير من المواضع في تقديم المواقف التي مر بها في عمله بهذا الأسلوب الساخر المتدفق.
ومن أمثلة نجاحه في تصوير الموقف، بالإمساك بالمفارقة قوله في الفصل السادس بعنوان "خير يا دكتور: "... مخلصة أم حمادة إلى أقصى درجة ممكنة، تحب أهل قريتها فعلا، وتتمنى أن تراهم في أفضل حال.
اللي بعده...
* خير يا حاجة بتشتكي من ايه؟
-أمال يعني أم حمادة بتقول عليك ضاكتور شاطر ولامؤاخذة.
* أيوه فين السؤال؟
- يعني الضاكتور الشاطر يا ضاكتور مش محتاج يسأل ولا يطقس عشان يعرف المريض عنده أيه.

* لا يا حاجة انتي تقريبا فاهمة الطب غلط انتي كده مش عايزة دكتور .
- أمال عايزة ايه اسم الله على مقامك!
* عايزة جن مخاوي .. اللي بعده.
- "أيه داه أمال فين الدكتورة ؟ مين ده يا ام حمادة؟ " ده باينه يوم مش معدي...
ما بين متقبل للفكرة ورافض للكشف، وطالب للدواء، مر اليوم الأول من العيادة بسلام دون حدوث أي خسائر تذكر"
وهكذا نجد الكاتب ينقل حوار الشخصيات باللغة الحية التي يتحدثونها في واقع الحياة بلا رتوش ولا تزويق. وهو في الوقت ذاته لا يرهق نفسه في صياغة الجمل في السرد بلغة عربية دقيقة. وقد يكون هذا هو المقصود بالأسلوب الذي ورثه هذا الكاتب وأترابه من الدكتور أحمد خالد توفيق، الذي وصل قبل وفاته إلى درجة من العناية بالأسلوب واللغة حد الإتقان.


لم يستطع مؤلف كتاب" ديك البرابر" أن يحافظ على هذا القدر من السخرية في أسلوبه الذي نقلنا منه هذا النموذج، بل كان يحاول السخرية من كل شيء وكل موقف، فتخونه براعته، ليعطبنا في النهاية حشدا من "المفارقات" تشبه ما يقدم في مسرحيات "الكباريه" من انتزاع للنكتة والسخرية بلا جدوى.
نعود لتصنيف كتاب "ديك البرابر" فنجد أنه لم يكتف بسرد حكاية الطبيب مع مهنته وممرضاته والإدارة الصحية، بل يختار"زبونا" اسمه مختار أو الحاج مختار يسرد لنا قصته بالتوازي مع قصة الطبيب نفسه.
ومختار هذا هو رجل بر وإحسان بالغ الثراء، لكن ماله الكثير يجنيه من تجارة مربحة جدا هي تجارة الحشيش، وقد استطاع الكاتب أن يصف لنا كيف جعل مختار تجارة مخدر الحشيش صناعة كاملة .
و ينهي الكاتب حياة مختار، متأثرا بإصابته بسرطان الرئة في اليوم ذاته الذي غادر فيه الدكتور أحمد بطل القصة قرية الرياح البحري.


هنا نعود لسؤال التصنيف وهو كالتالي: هل كان لابد لكتاب ديك البرابر أن يكون رواية أم أن الأفضل أن يصنفه الكاتب مذكرات، وأن يصرح باسمه وباسم البلدة التي عايش فيها الأحداث؟
أظن انه لو اختار الكاتب أن يكتب مذكرات طبيب في الأرياف لكنا حصلنا على كتاب يكمل سلسلة الكتب التي كتبها كل من توفيق الحكيم، والدكتور خليل حسن خليل، وحمدي البطران عن الريف المصري في فترات متباينة. ترصد التطور الحضاري واختلاف البيئات والظروف والمهن.

إن الدكتور هاني مهنى كاتب موهوب لكنه تعجل ظهور أول رواية أدبية له، فاتخذ من ذكرياته موضوعا لها. ونتمنى ألا يتعجل في إخراج الكتاب التالي. فقد علمت أنه غزير الكتابة على الفيس بوك، ولديه قراء بعشرات الآلاف، لكن الأدب الجدير باسم الأدب يحتاج دأبا ومرانا ووقتا طويلا وجهدا مضنيا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى