مروة التجاني - تيار الرومانتيكية - 2

كان للشاعر والمسرحي والمؤرخ ( فردريك شيلر ) تعبيرات مميزة يستعملها في كل كتاباته ليس الفلسفية فقط بل حتى المسرحية حيث كان دائم الحديث عن الحرية الروحية : حرية العقل ، مملكة الحرية ، ذواتنا الحرة ، حريتنا الداخلية ، الحرية الذهنية ، الحرية الأخلاقية والذكاء الحر . نظرية ( شيلر ) عن التراجيديا المسرحية مبنية على فكرة الحرية ، ليس موضوع التراجيديا هو المعاناة المغلوبة على أمرها ، المعاناة التي لا يستطيع الإنسان تجنبها ، والإنسان الذي تحطمه الكوارث ، فهذه مجرد مواضيع للرعب أو الشفقة والشئ الوحيد الذي يمكن النظر إليه بإعتباره تراجيديا هو المقاومة ، مقاومة الأنسان لكل ما يقمعه . يقول ( شيلر ) أن مجرد كون الطبيعة التي ينظر إليها ككلية ، تسخر من كل القواعد التي ينسبها إلينا عقلنا ، وإنها تتابع مسارها الحر والمتقلب وتعفر بالتراب ابداعات الحكمة دون أي اعتبار لها ، وتختطف ما هو مهم وما هو تافه ، ما هو نبيل وما هو شائع ، وتغمرهم بكارثة متماثلة ، وتحافظ على عالم النمل بينما تقبض على الأنسان ، أكثر مخلوقاتها مجداً بذراعها العظيمة وتسحقه ، وإنها كثيراً ما تبدد منجزات البشر بل حتى أكثر منجزاتها مشقة في ساعة عابثة بينما تمنح قروناً لأعمال حماقة لا ضرورة لها . أن ( شيلر ) يعتبر كل ما تقدم نموذجاً من قبل الطبيعة ، هذه هي تعاليمه التي ظهرت في معظم مسرحياته التراجيدية .

في مسرحية ( فيسكو ) وهي مسرحية مبكرة له يكون البطل طاغية لمدينة جينوا ، ومع ذلك ورغم أفعاله السيئة فإنه أكثر تفوقاً من الأوغاد والحمقى والجهلة والغوغاء في المدينة ، والذين هم بحاجة إلى سيد ولهذا يحكمهم ، ولعله من الصواب أن يقوم القائد الجمهوري بإغراقه كما يحدث في آخر المطاف في المسرحية ، لكننا مع ذلك نخسر شيئاً مع ( فيسكو ) إنه أنسان متفوق في صفاته على الذين يقتلونه عن وجه حق ، وتلك هي فكرة ( شيلر ) التي استلهمت فكرة الخاطئ العظيم والأنسان الفائض عن الحاجة والتي لعبت دوراً كبيراً في فنون القرن التاسع عشر . في بداية ثمانينيات القرن الثامن عشر كتب ( شيلر ) مسرحية اللصوص وبطلها شخص وقع عليه الظلم حيث أصبح نتيجة لذلك رئيساً لمجموعة من اللصوص ، يقتل وينهب ويحرق المباني وفي النهاية يسلم نفسه للعدالة ويعدم ، ومن هنا ظهر البطل الرومانتيكي في المانيا في وقت ما بين نهاية ستينيات وبداية عقد الثمانينيات في القرن الثامن عشر .

كانت رؤية ( شيلر ) الأساسية هي أن الأنسان يمر عبر ثلاث مراحل الأولى هي التي يسميها حالة الضرورة أي تلك التي تحكمها الحاجة والتي تأتي على شكل نزوعات نحو الأشياء بالمعنى السيكولوجي الحديث ، في هذه المرحلة يكون الأنسان مدفوعاً بطبيعة المادة ، إنها نوع من الغابة التي يكون فيها البشر مسكونيين بالعواطف والرغبات ولا يملكون مبادئ ويتصادمون مع بعضهم البعض . والحالة الثانية هي البربرية وهم عبدة أصنام مثل المبادئ المطلقة دون أن يعرفوا لماذا لأنها تمثل تابوهات . الحالة الثالثة هي التي يطمح إليها ( شيلر ) حيث تصور إنه كان هناك زمان يوجد فيه وحدة إنسانية ، زمن ذهبي ، لم تكن العاطفة فيه منقسمة على العقل ولم تكن الحرية فيه منقسمة على الضرورة ولكن كيف يمكن أن نعود إلى الحالة الأصلية دون الوقوع في الحالتين الأولى والثانية ؟ يقول ( شيلر ) إن ذلك ممكن من خلال الفن ، التحرر عبر الفن . اليوتوبيا التي أنتهى إليها ( شيلر ) تقول أننا إذا كنا مثل اليونان ومنسجمين وفهمنا ذواتنا ، وفهمنا الحرية والأخلاق والمتع والنعيم السماوي للإبداع الفني فإننا سنحقق علاقة متناغمة مع المبدعين والفنانيين .

الحياة لا تبدأ بتأمل محايد للطبيعة والأشياء . الحياة تبدأ بالأفعال . هذا تصور فيلسوف الرومانتيكية ( فيتشه ) ومجمل فكره هو أن الأنسان نوع من الفعل المستمر ويجب عليه الأستمرار في الخلق والأبداع ، الأنسان الذي لايبدع ويقبل ببساطة ما تمنحه الحياة أو الطبيعة هو إنسان ميت ، لا ينطبق ذلك على البشر فقط وإنما الأمم . يبدأ ( فيتشه ) بالحديث عن الأفراد ثم يسأل نفسه ماهو الفرد ؟ وكيف يمكن للمرء أن يصبح حراً تماماً ؟ لن يستطيع أن يكون حراً ما دام يمثل شيئاً ثلاثي الأبعاد في الفضاء فالطبيعة تقيد الأنسان بألف طريقة . لذلك فالكينونة الوحيدة الحرة تحتاج أن تكون أكبر مني وهو شئ داخلي على الرغم من أني لا استطيع التحكم في جسدي فأنني أتحكم في روحي . الروح بالنسبة لـ( فيتشه ) ليست روحاً فردية بل هي مشتركة بين كثيرين وهي مشتركة لأن كل روح فردية هي غير كاملة ، لأنها محجوزة ومقيدة بالجسد الذي تسكنه . لكنك إن سألت ماهي الروح النقية فهي كينونة متعالية ، نار مركزية يمثل كل منا شرارة فردية منها .

يقول ( فيتشه ) في إحدى خطبه التي كانت من قبل الألمان طيلة القرن التاسع عشر وأصبحت بمثابة الأنجيل بعد العام 1918م " أما أن تؤمن بوجود مبدأ أصلي في الأنسان – حرية ، قابلة للكمال ، تقدم لانهائي للجنس البشري ، أو أن لاتؤمن بشئ من ذلك . ربما يكون لديك مشاعر تناقض ذلك . كل أولئك الذين يحملون التسارع الخلاق للحياة داخلهم ، أو الذين يظنون أنهم حرموا تلك الموهبة ، وعلى الأقل ينتظرون اللحظة التي يغمرهم فيها التيار الرائع للفيض والحياة الأصلية ، أو لعلهم يهجسون بتلك الحرية في حيرة ، ولايشعرون إزاء هذه المظاهر بالكراهية ، ولا الخوف ، بل الحب ، فهؤلاء هم جزء من الحياة الأنسانية الأصلية ، هؤلاء يمكن أن نعتبرهم أناساً حقيقيين ، وهم يمثلون البشر الأصليين ، وأعني الألمان . من جهة أخرى ، كل أولئك الذين اذعنوا لتمثيل فقط المشتقات والمنتجات الثانوية ، والذين ينظرون إلى أنفسهم بتلك الطريقة ، فأنهم يصبحون كذلك ، وسيدفعون ثمن قناعتهم ، هم ليسوا أكثر من ملحق للحياة . ليست لهم تلك الينابيع الصافية التي تترقرق أمامهم وربما لاتزال تترقرق من حولهم ، هم ليسوا أكثر من صدى يأتي من صخرة بعيدة ، أصدره صوت أطبق عليه الصمت الآن ، هم مستثنون من البشر الأصليين ، هم غرباء ودخلاء . إن الأمة التي تسمى الألمانية لاتزال لهذا اليوم تثبت فعاليتها الأصلية والخلاقة في مختلف المجالات " .

بالنسبة للرومانتيكية الحياة هي أن تفعل شيئاً ، وأن تفعل يعني أن تعبر عن طبيعتك ، وأن تعبر عن طبيعتك يعني التعبير عن علاقتك بالكون ، وعلاقتك بالكون غير قابلة للوصف ، لكنك مع ذلك ينبغي أن تعبر عنها . تلك هي المعاناة ، هذا هو التوق اللامحدود ، هو السبب في الذهاب إلى بلاد نائية ، هو السبب في البحث عن نتائج عجيبة ، هو ما يجعلنا نسافر إلى الشرق ونكتب روايات عن الماضي ، ونترك أنفسنا لكل أنواع التخيلات . ذلك هو الحنين الرومانتيكي النموذجي .



- الحوار المتمدن-العدد: 5735 - 2017 / 12 / 22 - 23:16
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى