عبدالرحيم التدلاوي - قراءة تحليلية في رواية "الثلج الأحمر" لمحمد شيكي

عن دار الوطن بالرباط، صدرت للمبدع المغربي محمد شيكي رواية بعنوان: "الثلج الأحمر"، وتقع الرواية في 120 صفحة من الحجم المتوسط. و"الثلج الأحمر" نافذة مشرعة لانتقاد مرحلة سنوات الرصاص ومحنة اليسار خلال تلك الفترة.
والكاتب المغربي محمد شيكي، شاعر وروائي وفاعل جمعوي من تيفلت، عضو اتحاد كتاب المغرب، عضو اتحاد كتاب العرب، حائز على جائزة مفدي زكرياء المغاربية للشعر بالجزائر، شارك في عدة أمسيات ولقاءات شعرية، و"الثلج الأحمر" هو الإصدار الرابع بعد ثلاث دواوين شعرية: "أنثى البهاء"، "كأني أطير بلا موعد في الفراغ"، "رغوة الغيب".
عن الماء:
منذ فجر التاريخ أدرك الإنسان قيمة الماء في حياته، كما أدرك أنه غير قادر على العيش دونه، ولذا، عده العنصر الأساس الذي ينبغي التوفر عليه وإلا ضاعت حياته؛ ولعل الرجل الصحراوي كان أكثر إدراكا لقيمة هذا العنصر الحيوي، فندرته جعلته يمنحه بعدا تقديسيا، وفي الجزيرة العربية كانت الحروب من أجله، وكأن قبائلها أدركت منذ الباكر أن الحروب في عصرنا ستكون حوله وبسببه.
كما أن الحضارات القديمة جلها إن لم تكن جميعها قد قامت بالقرب من ضفاف الأنهار، وحضارة الرافدين، والفرعونية في علاقتها بالنيل، لخير دليل.
وقد أكد القرآن هذه القيمة التي يمتلكها الماء، فقال: "وجعلنا من الماء كل شيء حي" صدق الله العظيم.
والشعراء كانوا من الذين عرفوا أهمية الماء، حتى في أشعارهم، فالقصيدة دونه عجفاء، لا قيمة لها، لذا، فأفضل الشعر ما كان ذا رواء وماء.
الماء في أعمال محمد شيكي:
وبالعودة إلى دواوين الشاعر، محمد شيكي، سنلمس حضور الماء فيها، وعناوينه المختارة والمنتقاة بعناية تدل على وعيه بحيوية الماء، وحرصه الشديد على أن تكون كل قصائده ممجدة للماء؛ وهو دليل آخر على هذا الوعي.
ما ينبغي الإشارة إليه، هو ربطه بين الماء والمرأة، وهو ربط ذكي يدل على معرفة عميقة بالرابط الجامع بينهما..
ولعل التجانس الصوتي غير التام بين المرأة والماء دليل على الاندماج بينهما، والتداخل العميق بين الاثنين؛ كما أن المرأة لا يمكن أن تنجب دون ماء الرجل الذي عد ماء الحياة، والمرأة كالأرض بحاجة إلى السقي لتنبت، والحضارات القديمة أنتجت احتفالات بطقس الربيع كموسم اخضرار معبر عن الحياة.
قداسة الماء:
والملاحظ أن التعميد " أو طقوس الاغتسال، يجب أن يسبقه الحديث عن الماء ودوره التاريخي في روحية وأفكار الأقوام والشعوب. لأن ما بين التعميد والماء (واللذان يشكلان وحدة طقسية مهمة في ممارسات الأديان عموما) علاقة رمزية صميمية حياتية لا تقبل الفصل، ولأن الماء الوسيلة الوحيدة لإقامة طقوس الاغتسال الديني أو ما يعرف بالتعميد، كما لا يمكن إقامة الصلاة دون وضوء. ولا يخلو أي مسجد من مصدر للمياه النظيفة السائلة يستخدمه المسلمون لهذا الطقس خمس مرات في اليوم. .ونعثر في متن رواية "الثلج الأحمر" لاحظوا كلمة "الثلج" ربطا روحيا بين الماء والمرأة، فقد منح لتلك العلاقة بعدا قدسيا، يتجلى في سحب العنصر الديني والموسيقي عليها، والواضح أن العنصرين متواشجين، ويمكن لمس هذا التواشج في الكنيسة، كما في ترتيل القرآن. كما لا تكاد تخلو عقيدة دينية إلا وكانت تقدس هذا العنصر، بطريقة معينة سواء فكرا أم طقسا. 2
الماء في العنونة:
"ما بين الرغوة والغيب الكثير من التلاشي، الرغوة رضاب يطوف وفقاعات تعلو ورهان على زمن ينزلق سريعا نحو الانطفاء، لكن سمتها الابتهاج والالتذاذ والتسويغ. والغيب، ما توارى عنا قسرا وما لا نعلمه يقينا وهو ما وراء الطبيعة، سمته المفارقة والإيمان به ضرورة لأهل اليقين، وسمته الخفاء والمجهول والاقتراب منه بصيرة يحقق التفيؤ بالرهان المستحيل". إسماعيل هموني، جريدة القدس.
والديوان الذي يحمل العنوان التالي: "أنثى البهاء"، يجمع بين المرأة والماء، فوصف الشاعر الأنثى بالبهاء ينهض دليلا، فالصفة تحمل معاني الرونق والجمال والحسن والطراوة والنضارة، ومعظم تلك الكلمات ذات ارتباط بالماء، والمرأة الحسناء لا يمكن أن تكون كذلك إلا بفعل هذا العنصر الحيوي، فإذا جف منها صارت عجفاء متيبسة.
الماء في رواية الثلج الأحمر:
أما عنوان النص الروائي "الثلج الأحمر" الذي يشكل عتبة النص فقد جاء الماء فيه عنصرا جامدا؛ فهو غير سائل، أما المفارقة التي يحملها فتقوم بين لونين مشبعين بحمولات دلالية تؤسس ثنائيات عديدة: البرودة مقابل الحرارة، والجمود مقابل الحركة، والصفاء مقابل العكارة، والسلم مقابل العنف...**
وإذا بلغنا الصفحة 40 من الرواية، سيتبين لنا الربط بين المرأة والقداسة عبر الماء، يقول السارد:
هدى ماء وضوئي،
ودفئها سجادة معبدي،
أناملها الراعشة، الراجفة
أوتار لعودي الحزين...
وقد ارتأيت ولوج الرواية من أربعة مداخل، وهي على التوالي، البعد التسجيلي، والبعد العجائبي، والمحكيات الصغرى، وعنصر التساوي من خلال لفظة: سيان، ذات الدلالة.
بناء الرواية:
يتكون النص الروائي من أربعة فصول، ولكل فصل عدد من المشاهد. الفصل الأول لا يحمل عنوانا، ويتشكل من أربعة عشر مشهدا، أما الثاني فيحمل عنوان "لغزك الأول، ظلمة الدهليز"، ويتكون من ستة مشاهد، في حين، يحمل الثالث عنوان "لغزك الثاني الطوق " ويتكون من فصلين. أما الفصل الأخير، فيحمل عنان "لغزك الثالث، ذو اللحية البيضاء" ويتكون هو الآخر من فصلين. الأمر الذي يدفع إلى الملاحظات التالية: إن الفصل الأول هو المرتكز والأساس في بناء الرواية، كونه يشتمل على أكبر عدد من المشاهد. إنه الفصل الذي حمل بياضات، وأسئلة مقلقة ومحيرة للسارد والقارئ معا، إن بقية الفصول ما هي سوى مسلاط ضوء على البؤر المعتمة، تكشف البياضات، وتملؤها بما يقنع الذات الساردة، ويبعد عنها حيرتها الوجودية والفكرية، إنها الفصول التي تقدم إجابات عن الأسئلة المعلقة، وتزيل الغموض التي اكتنفت الفصل الأم. وهي إذ تفعل ذلك، فإنها تعمل على استحضار القارئ أيضا، فترفعه مرة إلى درجة الحيرة، وتنزل به مرة ثانية إلى أرضية الاطمئنان، لكنها لا تملأ كل الفراغات، ولا تجيب عن كل الأسئلة، إذ لو فعلت، لصارت عبئا على العمل، ولتحولت إلى بيان توضيحي لا علاقة له بالفن الروائي، والحق أنها فصول ضرورية لتكوين فكرة شاملة عن مجمل النص.
والفصول الثلاثة ليست رجع صدى، بل هي امتداد تؤكدها الأرقام التي كللت هامة المشاهد؛ فقد جاءت تصاعدية ولم تتكسر، مما يشي بأنها تتمتة وتابعة للأحداث في تسلسلها. وأنها وإن جاءت لتلقي الضوء على نقاط الفصل الأول المعتمة، فإنها حملت في طياتها أحداثا جديدة، وشخصيات لم يتم التعرف عليها في البداية، هذا فضلا عن أن السارد صار شخصا آخر، وهو أمر ذو جميالية، إذ تعدد السراد يمنح القارئ تنوعا في وجهات النظر..
التساوي:
فلفظة سيان، تفيد التساوي بين طرفين، وأن لا تفاضل بينهما، وبالتالي، يمكن تشبيهها برمانة الميزان، تعدل بين الكفتين، بأن تساوي بينهما، فلا ترجيح لواحدة على الأخرى، والمتابع للرواية سيجد توظيفا ظاهرا ومضمرا لهذه اللفظة العجيبة، مما يرسخ فكرة تعادل بين شخصيتي النص، والدفع إلى عدهما وجهين لعملة واحدة، فكل من السارد والجثة لا يخرجان عن الإطار نفسه، بالرغم من أنهما يعتمدان خلفية معرفية مضادة، حداثية وسلفية، فالصراع بينهما بقصد الدفع بالمجتمع إلى الأمام، أو جره إلى الخلف، فهما معا يراهنان على هذا الجانب، وإن كانت الكفة الراجحة واقعيا، تميل للفئة المحافظة، والتي رسمت ملامح مجتمع منطو على نفسه، رافض لأي تحديث أو تغيير، فهي ترى أن محفزات التغيير موجودة في ما تركه السلف، ناسين أن الأحداث قد تجاوزت ما بنوه، لكنها الرؤية الضيقة التي لا ترى أبعد من أنفها. ولشدة هلعها من انفلات المجتمع من قيدها، ترسم دوائر الجائز والمحظور، معتبرة الأفراد هملا لا يمكن أن يفكروا بأنفسهم
وارتباطا بهذين المرجعين، نجد حضورا دالا للونين، الأسود، والأحمر، فلكل مرجعية لونها الدال عليها، فصاحب المرجعية السلفية يمتشق السواد، ويرفع بيارق تمجده وتمجد الغزو في الوقت ذاته، ولا ترى بديلا عن الصراع مع المختلف، وفي حين، يتشح صاحب المرجعية الشيوعية باللون الأحمر، ولهذا اللون دلالات التضحية بالنفس لتحقيق أهداف نبيلة للمجتمع..
والصراع بين هذين المرجعين هو استعادة معاصرة للصراع القديم بين أصحاب العقل وأصحاب النقل، صراع دموي انتهى بترجيح كفة النقل، وهيمنته على الحقل الثقافي إلى اليوم. أمام بؤس الواقع؛ واقع الاستبداد الذي يعيشه كلاهما؛ تقدمي ورجعي.. وعوض مواجهته معا حسب المشترك يتجهان نحو مواجهة بعضهما ونسيان الواقع الذي يعيد نفسه بكيفيات مختلفة شكلا وواحدة مضمونا..والحق أن المستفيد من هذا الصراع هو السلطة التي تديم وجودها به: الحاكم العسكري ورغبته في توريط طرف بدفع إلى قتل الطرف الآخر.
وما يقوي فعل التساوي بين الطرفين، ارتباط كل منهما بفتاة تحمل الاسم نفسه: هدى، وحتى تصويرهما لها يتشابه، إلى درجة التماهي، فاللغة الشعرية واحدة، والعلاقة هي نفسها، فهما معا يريانها مقدسة، بالأصابع ذاتها، ما ورد عنها في الصفحة 40 يقارب ما ورد عنها في الصفحة 63.
ثم إذا كان السارد يطارد الطفل بحثا عن البراءة الداخلية، فإن صاحب الجثة وهو يخاطبه، يشير إلى هذا الجانب فيه، حيث يقول: تهمتك أنك قتلت الطفل الذي يسكنني. ص 63
هما معا يعانيان من غياب البراءة، وغياب الطهر، وهي القيم المبحوث عنها في عالم متدهور، يسير بخطى ثابتة نحو التردي.
عن العجائبي:
.
العجائبي هو الذي يخرق منطق السببية، باعتماده الأحداث فوق الطبيعية، كما يخرق المتعارف عليه، ليبني عوالمه الخاصة. وقد اعتمد الروائي على هذا البعد لقراءة الواقع الأشد غرائبية؛ وهو واقع لا يمكن التعامل معه، أو تفسيره إلا بواسطة أداته تلك، فالعجائبي الحاضر في الرواية يتخلل الواقعي ليتمكن من فهمه بغاية تجاوزه. ثم إن الحكي هو فعل يهدف إلى التغلب على القوة في صراع أبدي تم رسم معالمه في الملحمة الرائعة، والتحفة الخالدة: ألف ليلة وليلة، فما قامت به شهرزاد هو تهذيب لشهريار المتعطش للدم نتيجة ترسخ فكرة غياب الصفاء لدى المرأة؛ فقد رآها تميل بغريزتها نحو الشهوة مدمرة بها خصلة الوفاء التي يؤمن بها الرجل الشرقي، لكنها، بفعل سطوة سردها، تمكنت من مسح دماغ شهريار من الأفكار الملوثة عن المرأة، وأعادت برمجته بأن قدمت له نموذجا جديدا، مانحة إياه فرصة رؤية العالم من زوايا متعددة؛ فقد أخرجته من ضيق الرؤية إلى رحابة الرؤيا؛ وهذا الاحتفاء بالمرأة، والحكاية معا، نجده حاضرا ليس في الرواية فقط، بل يستغرق كل أعمال المبدع، محمد شيكي.
ما يثير الدهشة أن القاص يتميز بخيال خصب، جعله يوظف البعد العجائبي المنفتح على الفانطاستيكي الخارق للمألوف، لصوغ عمله بغاية قراءة عميقة لواقع لا يني يبتعد، ولا يني ينفلت من كل ضبط، قراءة لا تقف عند سطحه المضلل، بل تمتد إلى أعماقه، كاشفة تناقضاته، وما يعج به من مفارقات.
وما العجائبي إلا فرصة لمغالبة الواقع والتفوق عليه بنسج نص أدبي يتجاوزه جمالا، كما يحمل رغبة في مقارعته بتصفية الحساب معه، عبر كتابة فنية تناصر الجمال، بدل القبح الذي يعتري مفاصل الواقع.
منذ البداية، وبعد جملة افتتاحية تخبر بتغير في الأحداث، وانقطاع حقيقي بين اللحظة السابقة واللحظة الراهنة، نجد أنفسنا مقذوفين في جوف مكان يعج بالغرابة، وتتصاعد لهجة الجانب الغريب بوقوف السارد قبالة كلب ناطق، مما يذكرنا بقصص ألف ليلة وليلة، كما بقصص كليلة ودمنة. ويتواصل صبيب هذا العجائبي حين تقوم صورة ذي اللحية بالكلام طالبة السارد بالنهوض، وتزيد قوة في ملاحقة السارد للصبي، والعثور عليه وقد شكل حلقة من الناس لتتابع أفعاله السحرية؛ ومن تلك الأفعال تحويل المنديل طوقا. هذا الطوق الذي يعد من بين ألغاز الشخصية الثلاثة، الدهليز، وصاحب اللحية، وستتكفل الفصول الثلاثة التالية أمر إضاءتها.
ولا يقف العجائبي عند هذا الحد، بل سيفيض كما فاض مداد السارد الأزرق، ليطوق صاحب اللحية البياض، وصاحب الوجه الوسيم، ويحملهما على الغرق، كونهما من أصحاب الهرولة باتجاه المصلحة الشخصية الضاربة غرض الحائط بكل الشعارات الثورية، وكما سيغرق رواد المقهى الذين يسبحون في سلبيتهم المطلقة، ناسين أنهم معنيون بواقعهم المتردي، ومساهمون بسهوهم في تأبيده.
لقد قدم لنا القاص رواية نلتمس فيها نوعا من الكفكاوية، وقد تجلى ذلك في تقديمه صورة عن الإنسان المقهور والمحاصر بالقلق والخوف، واللاهث وراء السراب،و الأمل المستحيل، والباحث عن الخلاص، لكنه لا يجد مخرجا إلا بطي الصفحة، والبحث عن بديل، تمثل، أساسا، في الجري وراء صورة الطفل الذي كان بكل عنفوان البراءة، لأن تلك الصورة هي خلاصه من الزيف الذي طوقه، وكاد يخنق أنفاسه.
عن البعد التسجيلي في الرواية:
إن وصف رواية على سبيل التمثيل، بأنها رواية شعرية أو سير ذاتية قد تتضمن سمات تحيل القارئ على بعض الجوانب المرجعية سواء أكانت اجتماعية أم تاريخية. لذا سوف نقتصر على الاستشهاد بفقرات مبثوثة في النص الروائي لوضع الأصبع على تلاحم التسجيلي والتشكيلي في الصوغ الروائي.
من ذلك:
أولا: موت الملك ووقعه على المناضلين وعامة الشعب: أعضاء القيادة الحزبية يهرولون في وجوم،أصوات الهواتف النقالة لا تنقطع عن الرنين. كان وجهها أول ما طالعني وأنا أرقب مشهد الهرولة.
نظرت إليها في ذهول وأنا ألملم السؤال الشارد في ذهني:
....
لم تمهلني:
كارثة.. لقد مات الملك. ص 12 و13.
واضح أن الهرولة، والذهول، والشرود، والكارثة، من المعجم الدال على الصاعقة التي نزلت بسرعة ومن غير ميعاد. ثم إن ما جاء بعد هذا المقطع، يضفي مزيد قوة على هول الكارثة التي ضربت بجناحيها المغرب قاطبة.
ثم سيأتي الحديث عن تمزق الخارطة العربية من خلال الإشارة إلى حرب الخليج، ودور المستبدين، والمتنعمين بعائدات النفط في إشعال النيران في المنطقة حفاظا على مصالحهم. ص 16.
ولا ينسى السارد وضع الإصبع على دور العولمة في هذه اللعبة الخبيثة والمدمرة. مع انتقاد للشارع العربي السادر في سلبيته.
وفي الصفحة 76 ستتم الإشارة إلى الدور الأمريكي التخريبي للمنطقة العربية، وأنها هي التي تقف وراء مقتل هدى صديقة وعشيقة صاحب الجثة.
قد يبدو أن النص، من خلال هذه المقاطع وغيرها، جاء حافلا بالمباشراتية ؛ لكن الهدف من ذلك كان بغاية ضخ دماء واقعية في النص لتنبض الحياة فيه ولكنه اقترب من البيان السياسي أحيانا . ورغم ذلك فالنص فيه معاناة حقيقة. ولغتة مثقلة بعصارة تجربة إنسانية حقيقية؛ وقد امتلك القاص قدرة عالية على التحكم في اللغة وإخراجها إخراجا فنيا .
والإشارات أعلاه ما هي إلا إشارات تاريخية تعبر عن نقطة حاسمة في تحول مجريات الأحداث الوطنية والعالمية التي انعكست سلبا على الأوضاع الداخلية ببلادنا...
وهي أحداث تحمل في العمق أبعادا اجتماعية ونفسية وسياسية تتصل، بشكل أو بآخر، بلحظات ومشاهد من تاريخ المغرب...
ومن هنا يمكن القول: إن رواية "الثلج الأحمر" مزيج من الشعر والسيرة والشهادة...
فالذات تركز على تشغيل الذاكرة لاستحضار المسارات السردية المنفلتة، وهذه العملية تستدعي تأمل السارد لذاتين وموقعين تاريخيين يتأرجحان بين اللحظة الحاضرة ومخلفات الماضي. ذلك أن الذات تكشف عن هويتها المتمثلة في شخصية السارد، المناضل اليساري الذي يسعى إلى الانفلات من أشكال المضايقة والحصار باللجوء إلى منافذ ومسارب تمكنه من تحقيق التواصل، وكأن هذه الشخصية الخيالية تمثل، في واقع الأمر، المعادل الصنو أو القرين الملتصق بشخصية الكاتب بخلفياته وتصوراته ومواقفه المتنوعة. هذه الأسباب وغيرها تجعل الرواية تتجاوز البعد التسجيلي في محاولة لإعادة تشكيل منظومة الأفكار والقيم بطريقة ساخرة تبحث عن توصيف المنحى الكارثي للمنطقة باللجوء إلى التقابل الثنائي بين لحظة الماضي المفعمة بالحيوية والنبل وصفاء المقصد، والحلم الزاهي بإمكانية تحقيق التغيير، وبين لحظة الحاضر العاجة بكل عناصر الفشل والمرارة. فطبيعة التخييل أخذت بعين الاعتبار تصوير فظاعة الخراب المهول الذي أصاب الذات والمحيط وما يرتبط به من وقائع ومواقف لا يغرب عنها النسيان.
يستعين الروائي بتسجيل بعض الوقائع التاريخية ليُعيد خلق بناء فني خيالي، يتحول فيه ذلك الواقع إلى جزء لا يتجزأ من هذا الخيال،
ورغم أنه يستند إلى العديد من الوقائع والأحداث التاريخية، إلا أنه لا يستسلم لها، بل يُعيد تشكيلها وفق هوى الرواية ووجهة نظره. إن سير الروائي بعمله في هذا المنحى يخبرنا ألا خوف على الجنس الروائي بما هو تخيل من التسجيلية التي تقوم على الرصد والتدوين والتقرير والإخبار، فقد تمكن الروائي من رفد نصه بأنفاس شعرية، ويظهر أنه نسج
عالمه التخييلي بكل دقة وإحكام، حيث تحضر العين الشعرية لتخدم السرد، وتسمو
بإيقاع الكلمات والجمل، وما يثير الانتباه في هذا النص الروائي الشعري هو شغف
الكاتب بالألوان، كما أن التأثير
الشعري يسكن الكاتب ، ويوجهه أحيانا.
فعشق الألوان ملمح أساسي يؤثث فضاء النص الروائي:"لوحة قزحية الألوان" "ثريات بلورية"أدراج
رخامية تشع بياضا" "لماذا ترتدي المعطف الأحمر؟" وفي خضم هذا العشق، ينسى أنه يكتب رواية فيسقط في غواية الشعر مع غياب علامات الترقيم:أيتها الأدغال الآثمة..صبي أرق الشر على جموح البحر لا تقتلي عطش الفراش إلى الرحيل...هاأنا أدق مسمار التوبة أحتمي بالصحراء أرقص على حبال الرمل...**
إضافة إلى قيامه بكسر عمودية الأحداث بالاستبطان، والتأمل، والاسترجاع، كما بالوصف والحوار بنوعيه: الداخلي "المونولوغ"، والخارجي "الديالوغ".
عن شخصيات النص:
تجدر الإشارة إلى أن معظم شخصيات النص تجد لها سندا في الواقع، فبعضها يمكن إيجاد مقابل موضوعي لها، كما هو شأن ذي اللحية، والفتى الوسيم، وباهي... إضافة إلى أن معظمها هي شخصيات ذكورية، ولا تحضر الأنثوية إلا في شخصية هدى مضاعفة الحضور، فهي عشيقة السارد وصاحب الجثة. قد تكون مختلفة الشخصية والدور، وقد تكون ثنائية الفعل والدور والحضور.
شخصية باهي:
باهي صوت آخر من الأصوات التي يتقاطع السرد فيها على مستوى الذاكرة. هو صوت المثقف العضوي المناضل. من خلاله تحضر كيمياءات الصراع في ما بات يعرف بسنوات الرصاص. لم يكن أبدا ممكنا القفز على المرحلة دون استحضار هذا الصوت بأبعاده الفكرية والسياسية وحسه النضالي. باهي إذن هو صوت المرحلة التي عاشها المناضلون الشرفاء من موقعهم الحالم بالحرية والانعتاق من أحبولة الديكتاتوريات.
بقي مخلصا لقضايا وطنه. لعب دورا كبيرا في نشر الفكر النير والثقافة التي تخدم قضايا الإنسان وتنير طريق التحرر والتقدم، تقول عنه هدى في مرافعتها: الأرض التي لا تنجب رجلا يشبه باهي، لا تستحق الحياة. ص84، لماذا؟ تضيف في الصفحة نفسها: لأنه رجل يسقي بدمه الصحراء حتى تتدفق أنهارا وحقولا خضراء يانعة...فهو من انشق عن حركة التحرر والاشتراكية بإنشاء تيار جديد؛فقد كان مؤمنا بالثورة الديمقراطية، وحتميتها التاريخية، يقول: إن الوعي بالايديولوجيا الاشتراكية أساس لقطع الطريق في وجه الأوليغارشية المتعفنة. ولن يتنامى نشيد الفقراء بغير انتمائهم إلينا نحن _التحرريين التقدميين الاشتراكيين...ص 68
شخصية السارد:
هو سارد يحكي خارج اسمه .لكنه هو الاسم كله عبره تتقاطع الأصوات الأخرى. إنه صوتنا، أو لأقل: إنه صوت ضميرنا المستتر، يرفعه السارد إلى مقام الظهور، ويجعلنا نصطدم به في كل عريه الفاضح، ليخرجنا من سلبيتنا المقيتة.
و الرواية تهجس بمخاوفه ومعاناته وآلامه، فضلا عن غضبه من مسيرة ضالة امتدت من أيام النضال في الجامعة، وفي مقرات الحزب، وصولا إلى لحظة الدعاية لصاحب اللحية، حيث تتكشف له الفجوة السحيقة بين الخطاب والواقع المر.
والسارد يعرض علينا سيرة حياته في هذا الخضم، من فترة حمل أمه به، وزرع بذرته في رحم صديقته ناتاشا، إلى لحظة حمله الجثة والسير بها في الأنفاق والدهاليز المعتمة، والخروج من الظلمة التي سار فيها زمنا لصعود منصة متوجا بالانتصار على الموت، باعتماد شعار يستقي حضوره من فكر البقاء للأقوى: إما أن تقتل وإما أن تقتل. علما أنه لم يرتكب الجريمة التي يحملها على ظهره. مع إشارته إلى ملاحقته للطفل المراكشي صاحب الطاقية ذات الألوان الزاهية؛ وما كان يلاحق سوى طفولته في لحظة براءتها قبل أن تلوثها السياسة العقيم.
والسارد بهذه الرحلة والغوص في ذاته متسائلا، وباحثا عن أجوبة محتملة، سيصل إلى لحظة تنوير تمكنه من محاكمة يسار مخادع، تمكن بفعل براغماتيته من الحصول على منافع تسير على النقيض من شعاراته التي حملها وخادع بها الناس، وكان من نتائج هذا الاكتشاف العزوف عن السياسة، دون أن يعني ذلك نقده لكل اليسار، فقد آمن أن بعض الشخصيات ظلت طيلة مسيرتها النضالية تحمل الجمر وتعاني جراء الإقصاء والحصار، ولم تستسلم البتة؛ ومن تلك الشخصيات، باهي كما تم ذكره آنفا.
ناتاشا:
شابة موسكوفية تعرف عليها السارد فكانت رفيقته، وصانعة بهجته السريرية، تمكن بتلك العلاقة من زرع رحمها بنطفته.
تمثل وجه السارد المستعار وقناعه في وجه لهيب الشمس بين كثبان صحاري إفريقيا. تعرف عليها ذات إلقاء شعري، ومن يومها وهي تلازمه كظله.
هدى:
وهي شخصية محورية في الصراع بين الاتجاهين، ونقطة التلاقي والاختلاف بينهما، إنها الحبيبة والأرض والوطن، لكل طرف تصوره الخاص لها؛ فهي بالنسبة للسارد المرتكز، والعون، والهادية للطريق الناجح القادر على منح البلاد قفزتها باتجاه مجتمع العدل والمساواة؛ فهدى تحمل في روحها التوثب، والنظر إلى بعيد، وتمتلك قدرة الإدراك والنقد، ولا يعجبها التنميط، والشعارات الجوفاء. وهي بالنسبة لصاحب الجثة الحبيبة والهادية، لكونها من أب متدين، يمتلك سلطة ونفوذا، وله القدرة على تسيير العباد وفق ترتيباته الخاصة. سينتقم منه حين تسقط ابنته ضحية مغامرة يقف وراءها طيف الدولة العظمى. وما سقوطها إلا دليل على التبعية، وفقدان السيادة.
صاحب الجثة:
هو ابن الحاج السوداني مريد الحاج إسماعيل، كان عضوا بحزب يساري قبل أن يرتد لينضم إلى حزب يميني ذي يافطة دينية، سيتم اغتياله لأنه رفض الانضمام لتيار الحاج إسماعيل الديني المتشدد، فالخيمة التي أقيمت كانت من اجل إقناعه، وأصحاب اللحي ما جاؤوا إلا من أجل هذا الهدف؛ كما أن حبيبته هدى التي عثر عليها بعد غياب؛ وقد لاحظ ما اعتراها من تغيرات على مستوى اللباس والسلوك، سعت إلى إقناعه بالالتحاق بصفوف أبيها؛ وقد يكون رفضه القاطع، إضافة إلى مقتل هدى، وراء تصفيته، وإلقاء جثته بالصحراء.
الحاج إسماعيل:
صاحب حقول وضيعات ومال كثير، وظفه من أجل تشكيل تيار ديني متطرف، ذو قامة طويلة ممتلئة، يتقلد سبحته الصفراء التي تبدو حباتها من تحت سواد لحيته الكثيفة، ومن فوق عباءته البيضاء الناصعة... ص 78. تمكن من إقناع سكان القرية الأميين، وضم إلى دائرته الحاج السوداني، ومكنه من أداء فريضة الحج، وبذلك ضمن إخلاصه، فصار أحد مريديه.
هو أبو هدى، صديقة وحبيبة صاحب الجثة، سعى إلى إقناع ابن الحاج السوداني، بالانضمام إليه، لعلمه بتكوينه الحزبي والثقافي. قام بتصفيته لما أحجم ورفض.
ذو اللحية البيضاء:
هو الشخصية المهمة في حياة وفعل السارد، إنه المحرك الأساس في تحريك عجلة الأحداث، وقيام السارد بالاستجابة لطلباتها، وهي من قامت بدفعه إلى قتل الرجل السلفي، ولم تكن تنتظر انتصاره، بل كانت تنتظر قاتلا ومقتولا، فالأمر بالنسبة لها سيان أن يكون القاتل صاحب اللون الأحمر أو اللون الأسود.
ستسوء العلاقة بين الطرفين حين سيلاحظ السارد تغيرات الرجل، وتهافته، وابتعاده عن هموم الطبقات السفلية: وسار الرجل يسترسل في الكلام، عيناي على شفتيه اللتان تتحركان بسرعة وتحولان الحركة إلى شظايا صوت يعبر أذني ...لم يكن تركيزي قادرا على مجاراة صوته، ظللت واقفا شاخصا ببصري إلى وجهه الغارق وسط لحيته البيضاء، أسترجع ذكرى الطوق والدهليز، وأمر على أوداجه بشعاع رقيق من بصري الواهن، لعلي أجد العلاقة بيني وبينه، لم أر غير مزغة من ضباب تحيط قامته الطويلة...ص 110.
ففي هذا المقطع نعثر على غياب رابط بين الرجلين، وإدراك السارد المسافة التي تفصله عن ذي اللحية البيضاء، فحين مرر أشعة عينيه الكاشفتين على وجه الآخر، لم يجد رابطا، بل وجد مسافة ضوئية تفصل بينهما. فما السبب؟
مع توالي الأحداث ستتبدى للسارد شخصية ذي اللحية الفعلية، وسيكتشف أمورا ستباعد بينهما، ففضلا عن انفصال الشعارات المرفوعة عن الواقع المزري للناس وبخاصة في تلك المناطق المنسية من مغربنا الجميل: "أبناء الوطن هنا كما في أكثر قرى البلاد ، يتنفسون هواء آخر"
مقطع من الرواية يكشف عن عمق الفجيعة بسبب الإحساس بالقطيعة بين " الثوري" والواقع المستهدف بالتثوير، سيعرف أنه كان مدفوعا لارتكاب جريمة في حق مناضل من فصيل آخر، وبعدها سيكتشف تهافته على مصالحه الخاصة.
المحكيات الصغرى:
ويتضمن النص في ثناياه محكيات صغرى، منها: حفلة الدم التي يصورها السارد بكامل عنفها، فالجذبة تلهب حماس الجماعة، فتنقض مفترسة معطفه الأحمر، وتدمر الرسالة. ومنها حكاية أبي هدى، ودوره في تكوين وتنظيم جماعته السلفية، ووقوفه خلف مقتل صاحب الجثة. ومنها قصة الرجل القادم من الكويت بصحبة الرسالة، وعيرها. الأمر الذي يمنح الرواية نفسا، وتنويعا سرديا ضروريا لتجنيب العمل النمطية، وكتنويع يعمق من دور التكسير السردي.
على سبيل الختم:
من الملاحظ ميل الشعراء إلى جنس الرواية؛ والبين أن هذا الإقبال يحمل في طياته مخاطر كثيرة، أهمها طغيان الشعري على السردي؛ فالشاعر قد لا يتحكم في جموح شعره على حساب ركض السرد حيث يضمر الفعل لصالح الصور الشعرية، فيتوارى السردي مفسحا المجال للمجازي. والظاهر أن الشاعر وهو يقبل على كتابة الرواية يدرك هذه المطبات، فيعمل على كبح جموح اندفاعات الشعر، وتقليم أظافر سطوته، بسعيه إلى خلق مزاوجة مثمرة، وتحقيق المعادلة الصعبة بين الأسلوبين: السردي والشعري، بجعل الثاني في خدمة الأول، لا على حسابه. وقد أفلح شعراء كثر في مراودة جنس الرواية، فقدموا أعمالا جديرة بالاحترام، منهم من نال جوائز، ومنهم من حظيت أعماله باحترام النقاد والقراء، من أمثال، على سبيل الذكر لا الحصر: سليم بركات، ومحمد الأشعري، وعبد الحميد شوقي.
ومن الشعراء الذين وقعوا في غواية السرد بعامة، والرواية بخاصة، محمد شيكي، بروايته: "الثلج الأحمر".
ولم أكن في قراءتي المتواضعة أهدف إلى إبراز مناحي القوة والضعف في العمل، فذلك متروك للنقاد المختصين، هدفي هو الإشارة إلى ما يميز، في اعتقادي، أبعاد النص الفنية والجمالية، فتطرقت إلى العجائبي، والبعد التسجيلي والشعري، والعلاقة بينهما، إضافة إلى فعل التسوية، مع الإشارة إلى شخصيات النص وأدوارها في تفعيل الأحداث وتطورها.
**
1_ محمد شيكي: الثلج الأحمر، دار الوطن ص 1 سنة 2013
2_ الترميذا علاء النشمي: أسطورة الماء في الأديان، فكرا وطقسا. http://www.mandaeanunion.org/…/268-legend-of-the-water-in-t…
3_ عبدالإله قيدي: الروائي والتشكيلي في الرواية العربية. http://www.aljabriabed.net/n55_11kaydi.(1).htm
. ** من تعليقات القراء على النص الروائي وقد نشر بموقع إلكتروني، من ضمنهم: احميدة بلبالي وغيره.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى