مولود بن زادي - "أوركسترا الأقليات" للنيجيري تشيغوزي أوبيوما: تصوير لألم الوحدة وعذاب الهجرة!..

ليس شك في أنّ أجمل ما تحمله جائزة البوكر الأدبية البريطانية، فضلا عن شهرتها، سعتها الجغرافية واختلافها العرقي وتنوعها الثقافي. إنها المسابقة الأدبية التي يشارك فيها مبدعون من كل الأجناس والألوان والمعتقدات والثقافات، من كل أنحاء الدنيا، وهو ما تعكسه القائمة القصيرة لنسخة 2019 التي تضم ست روايات من خمس دول من قارات مختلفة: بريطانيا والولايات المتحدة وكندا وتركيا ونيجيريا. التنوع تعكسه أيضا مشاركة كُتاب قدامى معروفين من أمثال البريطاني سلمان رشدي الفائز بها في عام 1981 عن روايته "أطفال منتصف الليل"، وأقلام جديدة من أمثال النيجيري تشيغوزي أوبيوما عن رواية “أوركسترا الأقليات”، والذي يبقى مجهولا في أوساط الجالية النيجيرية هنا في لندن رغم تألق روايته الأولى "الصيادون" ووصولها هي أيضا إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر عام 2015.


الاستهلال

الاستهلال هو فن البدايات في النص الأدبي أو مفتتح النص الأدبي أو بعبارة أخرى الكلمات الأولى التي تنير للقارئ الطريق إلى مدخل العمل الأدبي. ونظرا لدوره الحيوي في النص، فقد صارت الدراسات السردية الحديثة توليه أهمية كبيرة. وقد تضمنت رواية “أوركسترا الأقليات” استهلالا يطبعه الإيجار والتركيز والتشويق بعيدا عن الإطناب أو الوصف الممل أو المقدمات الرامية إلى تبرير العمل الأدبي من غير ضرورة. يستهل المؤلف نصه الأدبي بقول مأثور لقبيلة (الإيغبو) في جنوب نيجيريا التي ينتمي إليها بطل الرواية: "إذا لم تقدّم الفريسةُ الجانب الآخر للحكاية، فإن الحيوانات المفترسة ستكون دائمًا البطلة في قصص الصيد." يلي ذلك قول آخر قصير عن الروح التي تلازم الإنسان، حسب الطقوس الدينية والثقافية لشعب الإيغبو، ويشار إليها باسم "تشي": "بشكل عام، يمكننا أن ننظر إلى روح الإنسان على أنها هويته الأخرى في دنيا الأرواح – روحه التي تكمل كائنه الإنساني على وجه الأرض؛ لأنه لا يمكن لأي شيء أن يقوم وحده، فلا بد أن يكون هناك دائما شيء آخر يقف بجانبه."

يلي ذلك حديث عن الهوية والازدواجية وتقمص الروح أو التناسخ كهذا "الطفل الذي يكون قد رجع إلى العالم في دورة التناسخ السادسة أو السابعة أو حتى الثامنة لتصفية حساب قديم"

ونحن نتابع قراءة الاستهلال نفاجأ بمشاهدة رسمين بيانين يشغلان صفحتين من صفحات هذه الرواية ال516، عن ثقافة شعب الإيغبو، بالإمكان الاستغناء عنهما: رسم بياني لعِلْم الكونيات، وآخر لأقسام الإنسان في علم الكونيات لدى شعب الإيغبو.


الراوي (تشي)

مما لا شك فيه أنَّ الراوي عنصر هام من عناصر العمل السردي، يقدم من خلاله الروائي مادته القصصية، متحكما في العلاقات التي تجمع بين مكوناتها. وهو أيضا قناع يتخفّى المؤلِّف خلفه لتقديم عمله السردي والتعبير عن أفكاره. البنية السردية للخطاب في هذا العمل تتضمن راويا يدعى (تشي) chi في شكل روح تسكن البطل الذي يدعى" تشينونسو سليمان أوليسا". هذه الروح هي همزة الوصل بين عالم الروح وعالم البشر، ولا معنى لوجودها من غير مضيف: "لأنه على سطح الأرض، الروح من غير مضيف ليست شيئا. لا بد أن تسكن جسدا حقيقيا ليكون لها أي تأثير في كائنات العالم" لذلك فهي في بحث مستمر عن أجساد تسكنها.

الراوي في هذه القصة لن يكون إحدى الشخصيات الرئيسة ولا الثانوية وإنما شخصية خارجية تخييلية مستقلة مجسدة في (تشي). وإن لم يكن لهذه الروح دور مباشر في الرواية كبقية الشخوص، فإنها تلعب دورا غير مباشر بمساعدتها المضيف بالتواصل مع ذهنه، فضلا عن إرشاده وتوجيهه حفظا لأمنه وسلامته. يقول (تشي) في الفصل الثالث: "كنتُ أخشى أن يؤدي عبثه رفقة هذه الجماعة إلى إلحاق الأذى به، فأوحيت إليه أنّ هذه المعاشرة قد تؤدي إلى العنف، لكنّ صوتا بداخله ردّ مؤكدا أنه لم يكن خائفا."


المرأة على الجسر

الراوي (تشي) يسرد لنا حكاية تشينونسو بضمير المتكلم، مشيرا إليه باسم "مضيفي". تشينونسو، مثلما يصوره لنا (تشي)، مزارع دواجن غير متعلم يعيش وحيدا منعزلا. وفي يوم ما، بينما يعبر بعربته أحد الجسور، يشاهد امرأة تحاول الانتحار، فيهرع إليها لإنقاذها وقد "أدرك فورا أنها تعاني من جرح عميق بداخلها". إنها "المرأة على الجسر" كما جاء في عنوان الفصل، وتدعى "ندالي أوبيالور"، صيدلية تحت التدريب، تحاول إنهاء حياتها بعدما تخلى عنها حبيبها لأجل امرأة أخرى بعد علاقة دامت خمس سنوات. ندالي ضحت بسنوات من عمرها رفقة ذلك الرجل، وضحّت بكل مالها لإعانته على تحقيق حلمه المتمثل في مزاولة دراسة الاخراج السينمائي في لندن، ولم تتردد في اختلاس المال من والدها لأجل مساعدته! وبعد وصوله إلى بريطانيا، خذلها وتزوج من امرأة أخرى! وإذا بها جريحة منهارة يائسة على وشك الانتحار. لكنّ تشينونسو يصرفها عن القفز من الجسر منقذا حياتها، لتنمو بعد ذلك علاقة غرامية قوية بينهما، تصطدم بعد ذلك باعتراض أسرة الفتاة المتعلمة على هذا الرجل الذي كانت تنظر إليه نظرة احتقار باعتباره مزارع غير متعلم. فتقترح عليه الفتاة السفر إلى قبرص للتعلم ليكون بعد ذلك عند حسن ظن أسرتها. فيضطر الشقي إلى بيع كل ممتلكاته لتحمل تكاليف الدراسة في الكلية. لكن خيبة أمل تشينونسو كانت كبيرة بعد هجرته حيث يتعرض للغدر والاحتيال وسوء المعاملة والميز العنصري وحتى السجن. فهل سيكلل جهده بالنجاح في آخر المطاف وهل سيتحقق حلمه ويفوز بحبيبة قلبه؟


نسج درامي مميز

لقد استطاع تشيغوزي أوبيوما، من خلال هذا العمل، أن يرسم لنا لوحة فنية رائعة تؤثر في العواطف، وأثبت في الوقت ذاته قدرةً فائقة على التعبير عن الشخصيات وتحولاتها النفسية وأبعادها الاجتماعية التي أفرزت أحداثا ومواقف مثيرة، وسمحت بنسج توتر درامي مؤثر ومثير لدى المتلقي. حري بالذكر أنَّ الكاتب اعتمد في بناء شخصياته على إحداث المفارقات والتناقضات فيما بينها مع تركيزه على تحديد صفات كل منها، فالمزارع كان يعيش وحيدا بعد وفاة والديه وتشتت أفراد أسرته، وهذا ما نكتشفه في الفصل الثاني بعنوان (العزلة) في قوله: "عند وفاة والده لم يكن ثمة أحد". وعكس ذلك تماما ، كانت ندالي أوبيالور محاطة بأفراد أسرتها. وبينما كان يحيا حياة عبث مترددا على بيوت الدعارة، كانت ندالي تعيش قصة غرامية مع حبيبها. والمزارع لم يكن متعلما وكان فقيرا، بينما كانت ندالي متعلمة ومن أسرة ثرية. توظيف هذه المفارقات ساعد على صناعة النسج الدرامي ونمو الصراع وتصاعد الأحداث دون ضعف أو فتور نحو بناء العقدة.

حري بالذكر أيضا أنَّ المؤلف وظَّف صورا بيانية متخيّرا اللفظ الذي يرفع الذوق البلاغي من بساطته إلى تجسيد الصورة المراد التعبير عنها. ففضلا عن جمال التعبير، تضفي هذه الصور الحياة والحركة على أطوار الحكاية ومشاهدها وتساعد على تصوير الصراع الدرامي بكل تفاصيله وبقدر يسمح للمتلقـي بأن يعـيش التصـوير، ويحس بجيشان العاطفة الفوار: "فقد ألمت به الآلام في الليل والنهار وجعلته أشبه بالمنزل الخاوي، تتربص فيه ذكرياتٌ صادمة عن أسرته، كأنها قوارض."

اللافت في هذه الرواية أيضا هو إشارة الراوي (تشي) إلى بطل الرواية بعبارة "مضيفي"، وهذه الصيغة غير معهودة في النصوص الروائية. لكن توظيف (تشي) لسرد أحداث هذه الرواية كان اختيارا ذكيا، إذ أنه سمح بتصوير الأحداث والتعبير عن الأفكار والمشاعر بلغة ثرية وجميلة لا نتوقعها إطلاقا من بطل الرواية تشينونسو، هذا المزارع الذي كان يحيا في عزلة ولم يكن متعلّما.

رواية “أوركسترا الأقليات” رحلة إلى أعماق أفريقيا تحط بنا في أحضان قبيلة (الإيغبو) العريقة والتراث الأفريقي الأصيل. الرواية تزخر بالأمثال والحكم المحلية النابعة من هذا التراث والتي تناقلها الأبناء عن آبائهم: "غالبا ما يردد الآباء العظماء أنَّ الطفل لا يموت لأنّ ثدي أمه فارغ من الحليب.". الرواية تتناول مسائل الهوية والفوارق الاجتماعية والصراعات الطبقية والهجرة إلى الدول المتقدمة وما يعانيه المهاجر الأفريقي من سوء معاملة في ديار الغربة، فضلا عن العلاقات بين الرجل والمرأة وتدخل الأهل في هذه العلاقات، والغدر والخداع، والرغبة في تطوير الذات والتضحية لأجل الحبيب التي يجسدها سلوك بطل الرواية، المزارع البسيط، الذي يضحي بكل ممتلكاته ويرحل عن أرضه لأجل تحسين أوضاعه والفوز بحبيبته.

رواية “أوركسترا الأقليات” فريدة من نوعها باستخدامها راوي غير معتاد في شكل روح تنزل على البطل فتسكنه وتهتم بالتواصل مع ذهنه وإرشاده وحفظه. “أوركسترا الأقليات”، في الأخير، أوركسترا حقيقية، تجمع بشرا وأرواحا معا، تعزف في انسجام وتآلف أروع سيمفونية، تتراقص على وقع أنغامها أشباح العنف والألم والبؤس والخيبة والضياع، الملازمة لحياة البشر.



أقلام مهاجرة حرة - بريطانيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى