عبدالرحيم التدلاوي - الموت والانبعاث، قراءة في ديوان "أحمد...بالأحمر، يلغي الموت... للشاعر عبد الناصر لقاح، قراءة عاشقة غير نقدية.

يأتي عنوان ديوان الشاعر المغربي عبد الناصر لقاح " أحمد... بالأحمر يلغي الموت ... ، حابلا بالدلالات، ومكتنزا بالمعاني. ففضلا عن اللون الأحمر الذي كتب به وأكدته الكلمة الواردة بالعنوان، نجد أنه كما لو كتب على شكل بيت شعري بشطريه، إضافة إلى تكرار نقط الحذف في الشطر الأول وفي الشطر الثاني؛ فإذا كانت قد وردت وسط الشطر الأول، مفرقة بين كلمتي أحمد وبالأحمر، فإنها في الشطر الثاني قد جاءت في نهايته، فاتحة بذلك باب التأويل على مصراعيه فيهما معا.
إن بداية العنوان باسم أحمد، يعبر بقوة عن مركزيته، وأنه محور حديث النصوص بأكملها مما يشي بوحدتها رغم تعددها، فما علاقة أحمد باللون الأحمر المركز؟ وكيف يلغي الموت؟ هي بعض من أسئلة ضمن أخرى تستحث الذهن على قراءة العمل ككل بغاية القبض على بعض المعاني المنفلتة.
يقول محمد علوط: إن الألوان ليست خرساء / ” أنها تقول ” الحقيقة التي تحجبها الثرثرة السائدة في عالم يفتقد المعنى؛ عالم يتكلم لكي يلغي الكلام و الحقيقة و لا ينتج سوى الوهم.
ويناء عليه، فإن اللون الأحمر ما هو سوى رمز للدم النازف من الجسد، وتعبير عن الموت، ورمز دال على اليسار، لكنه في العمل الشعري ومن خلال العنوان، ليس موتا بل تعبيرا عن الحياة، وتؤكد هذا المعنى جملة "يلغي الموت"، وعليه، نحصل على محوين، محو أول يعقبه محو ثان، وهذا الأخير ما هو إلا دليل صمود وقوة، يزري بالمحو الأول ويؤكد فشله؛ فهو إذ يبغي محو الشخصية، لا يقوم إلا بإحيائها بقوة، ولن يكون ذلك إلا في قلوب من يحبه، ويؤمن بفكره؛ وهم كثر، وبهذا المحو يكون فعل الانتشار قد تحقق، ترى، من هي الجهة التي سعت إلى فعل المحو، وفشلت فيه؟ الأكيد أنها جهات ترفض فكر الرجل، وتمقت مواقفه، ولا ترغب في أن تتحقق أحلامه.
أما الغلاف، فتزينه صورة المناضل الشرس أحمد بن جلون، ليؤكد على أنه محور النصوص كاملة.
وعليه، فإن البرنامج الشعري سيتمحور حول تيمة واحدة أو نواة وحيدة؛ وهي أحمد، ويأتي النص/النصوص لتنسج ملامح الرجل، مقدمة صورا ترفع من مقامه وتمنحه جواز المرور إلى الشخصية الاستثنائية، صورة نموذجية تستدعي صورة شخصية أخرى خطت لنفسها مسارا نضاليا وطنيا ودوليا؛ إنها شخصية شي غيفارا.
أضفى الشاعر على موضوعه؛ الشخصية المحورية، والبطل الأساس لكل نصوصه التي صارت بفعل ذلك نصا واحدا متعدد الأبعاد والأحجام والأسطر، صفات مختلفة تصب في مجرى واحد، وهو أن أحمد إنسان استثنائي إن على مستوى دينه وإن على مستوى مواقفه السياسية والاجتماعية؛ فقد كان نعم المناضل الذي يبني المستقبل الإنساني المفعم بالمحبة والمساواة، بنكران ذات، إذ كان يعرف أن أهدافه نبيلة، وأن حياته قد صارت فداء لتلك الأهداف، وحتى وإن أريق دمه، فلن يكون ذلك سوى انبعاث جديد.
وللشخصية المركزية، كما سبق ذكره، العديد من الأبعاد، منها البعد الديني والسياسي والنقابي، والاجتماعي، وكلها تؤكد قيمة الرجل في بعده الأكبر، ألا وهو البعد الإنساني.
البعد الديني:
لم تكن إثارة هذا الجانب مجانية بل بقصدية فرضها سياق اغتيال المناضل الكبير، أحمد بن جلون؛ هذا الرجل الذي اغتالته أيد آثمة بعد أن كفرته، ورمته بالمروق عن الدين، وألبت عليه الدولة والمجتمع، فكان أن تحركت فئة من الأميين الجهلة لتنفيذ مهمة المحو، وحققت ذلك ماديا لا معنويا؛ إنه الجهة المضادة لتوجهات الرجل، والرافضة لإديولوجيته، وهي جهات متنافرة التوجه، متوحدة الغاية.
لذا، حين يؤكد الشاعر على تدين أحمد، فليؤكد تهافت برنامج الجهة الظالمة، ويفند ادعاءاتها، وبالتالي، يتهمها باغتيال الشهيد، ويحملها مسؤولية فعلها الإجرامي.
والقاموس الشعري الموظف مليء بما يدل على هذا الجانب، وعلى سبيل المثال، نجد: مدائنه، النبي، تمثل ربه، أصلي، الله، إلى غير ذلك.
يقول الشاعر معضدا هذا المنحى:
وانت الرسول
تعلمنا ما
يقول الإلاه على
الارض حتى
نحب الإلاه قريبا
ونعشق فيك
محمد. ص17
بين أن أحمد المناضل يحمل بذرة من أحمد الرسول، فدوره الرسولي يتجلى في تعليم الناس حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم. وتعليم الناس هذين الحبين هو تعليمهم محبة بعضهم البعض، ولا يتحقق هذا إلا ببناء المجتمع العادل.
بعد الانتماء السياسي أولا:
يشير الشاعر في غالبية نصوصه إما تصريحا وإما إيحاء إلى انتماء أحمد إلى صف اليسار المدافع عن الفقراء والجياع والمحرومين والضائعين:
له
مدائنه..
راية الفقراء
وصوت الجياع
وبرد الضياع... ص7
ما يشير إلى أن أحمد قائد يشير إلى المستقبل المشرق، ويسير في طريق بنائه رغم الصعاب، وما يكتنف الطريق من محن:
وأحمد رحلتنا في الجذور
على جمرة مشتهاة
إلى فجرنا الغاضب اليرتدي
دمنا
فمنا
والمحال الجميل. ص6
وقد شكل النص بصريا بطريقة لافتة للعين لتقرأ تفاصيل الفعل، وتكمل صيرورته وبناءه دلاليا ومعرفيا، بملء بياضاته، والاهتمام بتجانساته الصوتية، وإياقاع المتسارع، ومعجمه المعبر عن الصلابة وريادة الأفق، وتحقيق المستحيل.
ويقول في نص آخر:
عينان
عين يسرى
هي لك
عين يمنى
صارت يسرى
هي لك.
فالمعجم فيه محدود، ولكن التلاعب به كان بناء ومعبرا في الآن ذاته عن انتماء المناضل لليسار، بفضل التكرار والتحول.
بعد الانتماء الإنساني ثانيا:
ويحضر هذا البعد في الإهداء بشكل واضح وجلي، إذ يقول فيه الشاعر:
إلى روح شهيد حركة التحرر العالمية، أحمد بن جلون.
ولأن الرجل زاخر بأبعاده، فإن الشاعر يجد فيه نفسه، حيث يتماثلان لدرجة التوجد، يقول في هذا الصدد:
يا أحمد
صرت أخا
ورفيقا
يا أحمد
صرت لقاحيا
آخر
صرت لقاحيا
أحمر
أحمر ص14
يتم التداخل بين الشخصيتين، ويحصل عناقهما المعبر عن الانتماء نفسه، وعن التطلع ذاته، ويأتي معجم الأخوة والرفقة دالا على هذا الانصهار، كما أن التكرار يتقصد لفت الانتباه إلى الانتماء إلى اليسار، وإلى التضحية معا.
ويأتي النص الأخير، في الصفحة 30، ليصهر كل هذه الأبعاد بشكل مكثف ومعبر إذ يقول:
سألت امتدادك فينا، فقال:
وكان يجيء إلينا
وفي قلبه يرتدي الوطن المستحيل
وفي روحه يسكن الله
وفي مقلتيه
حدائق صادقة
من صلاة.
يأتي ديوان عبد الناصر لقاح "أحمد... بالأحمر
يلغي الموت..."
ليرسم معالم النضال الحقيقي والصادق من لدن فئة مؤمنة بالأفضل، وتسعى إلى بناء وطن تسوده المحبة والإخاء والمساواة، وينعم فيه الجميع بالحياة الكريمة. وكان الشعر بليغا في تعبيره، وفي صوره وبلاغة إيقاعه الخارجي والداخلي، مع تشكيل بصري طريف وممتع.



* الديوان من منشورات حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، يتكون من نصوص شعرية مكثفة تمتد على مدى30 صفحة..صدرعن مطبعة مرجان بمكناس في طبعته الاولى سنة 2017، وهو ذو حجم صغير..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى