د. عمر الخواجا - جميل أبو صـبيح وذاته الشّـــعرية

لقد تطورت النظرة النقديّة للشعر بعيداً عن مقاصده الأولى بِدءاً من ترك الأطلال وعدم الوقوف عليها ومحاولة هدم البناء الكلاسيكي للقصيدة العمودية شكلاً وموضوعاً وتأسيس أطرٍ شكلية تناسب مواضيعَ أوجدها التطوّرُ العمرانيُّ والثقافيُّ والاجتماعيُّ وصولاً للغوص عميقاً في النّفس البشريةِ وسبرِ أغوارِها وتصويرِ التّداخلِ الايجابيِّ بين الواقعِ وذات الشاعر ليس ككيانينِ مُنفصلين بل ككلٍ متكاملٍ ضمنَ إطارٍ وجدانيٍّ واحد، مما ينتجُ نصّاً شعرياً يسعى دائما للبقاءِ مُتّصلاً مع قائله وكاتبه وصانع روحه ألا وهو الشاعر .

هو الشاعرُ ( الفتى الدايمي ) الذي يعاني آلام الهجرة ووجع التّرحال ، وهو الشّاعر الذي وصف جمرَ الغربة بكل تفاصيله الدقيقة المؤلمة وتوقده داخل النفسِ وفي أعماق خلاياها المشتعلة ، وهو الشاعرُ المتحوّلُ من القصيدة الكلاسيكيةِ إلى قصيدة التفعيلة وصولاً لقصيدةِ النثرِ كي يخطّ شاعريّـته المنبثقةَ عن ذاته التواقةِ نحو التدفقِ الشّعري العابق بالأحاسيس والمشاعرِ المتداخلة ، صاعدا نحو فضاء الحريةِ بعيدا عن قيود الايدولوجيا والعروض والقافية والوزن ، نحو فضاء الإيقاع الذاتي واعتماد الصورة الشعرية ركنا أساسيا في القصيدة ، وهو الشاعر الذي هجر الصحافة كي يُخلص للشعر ، وهو الشاعر الذي عدّه شعراء (أوّل من أدخل قصيدة النثر إلى الأردن عام اثنين وسبعين من القرن الماضي في جريدة عمان المساء،)..

هذا هو الشاعر جميل أبو صبيح والذي ولد في أريحا عام 95 وأكمل دراسته الجامعية في دمشق عام 75 حيث عمل في سلك التعليم في العديد من الأقطار العربية وعمل محررا ثقافيا في العديد من الصحف والمجلات الأدبية ، من إصداراته الشعرية :

الخيل دار الحقائق – بيروت عام 1980
البحر دار الافق الجديد عمان 1980
تماثلات 1986دار الكرمل عمان 1986
الهجرات دار الكرمل عمان 1989
الخيل البحر الجسد دار الكرمل عمان 1993
البراري اتحاد الكتاب العرب دمشق 1995
الامطار المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1996
أشجار النار المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1999
قصيدة الجمر 2004
نشرت له العديد من المجلات المتخصصة : الكرمل و ابداع و أفكار و المعرفة
اهتم النقاد بشعره حيث كتب عن دوايينه وتجربته الإبداعية كثير من الكتاب العديد من الدراسات والمقالات والشهادات النقدية والأدبية
وهو عضو في رابطة الكتاب الأردنيين واتحاد الكتاب العرب

هذا هو جميل أبو صبيح ، دقيق في عباراته يختار مفرداته وعناوين دوايينه بدقة وعناية ويجعلها مشاريع دراسة شعرية ، فهو يأخذنا معه في ديوان الخيل كي نلمس اهتمامه الفريد برمزية الخيل أدبيا وثقافيا ونفسيا ثم يجذبه البحر نحوه فيحلق في عالم روحي كاتبا ديوانه البحر وصولا لقصيدة الجمر وديوان الهجرات حيث قصيدة تحمل ذات العنوان.

يختزل في كلمته المعبرة عن عنوان مجموعته أو ديوانه الشعري كثيرا من المعانيَ والرؤى ذات الصورِ الفريدة والناتجة عن عمق التجربة ( الجمر ) أو قوة التحليق والخيال والإبداع ( البحر ) ، أهو التكثيفُ كضرورة شعرية معاصرة ؟ أم هي مرارةُ التجربة ؟ أم القدرة العالية على رسم الإيقاع النفسي ؟ أم كل هذا يجتمعُ في ذات التجربة وذات الشاعر والتي تتشكل بعيدا عن التأثر بالسائد أو الجماهيري المرغوب ، وتراه جميل أبو صبيح ترى الشاعر فيه يخرج من مفردته راسما صورته الشعرية بمزيد من المفردات مكونا مقاطع مشهدية تزداد وضوحا عند التعمق في المعنى والمناسبة والحدث .. وعبارته المبنية على المفردة المنتقاة ليست صورة انطباعية تحاكي واقعا مؤلما بل هي صورة معبرة ناطقة تحمل خيالا وإبداعا محلقا في سطوة مشهدية وتعبر عن تفاعل ذات الشاعر مع الواقع المادي والمعنوي وتتراكم اثر تدفق الصور والعبارات تباعا في زخم يطول أحيانا ويقصر أخرى لغاية في نفس الشاعر لا ترهق القارئ ولا تُحمّلهُ عبئا لا يطيقه ، بل تضيء له مزيدا من العتمات وتفتح له أبواباً موصدةً نحو أفقٍ أكثرُ رحابة وألقا .. نحو أفقِ الدهشة والمعرفة والخيال.

إن شاعرا يخوض غمار تجربة النثر بعد قصيدة التفعيلة يمتلك لا بد أسبابا قوية تجعله ينحو هذا المنحى وجميل أبو صبيح كما لديه أسبابه الخاصة والشّعرية فلديه في قصيدة النثر موسيقاه وإيقاعه الخاص الداخلي حيث تنساب العبارات تباعا وكأنها تخرج متسلسلة دون حشوٍ أو مبالغة مشكلة جملاً تفيض بالمعنى والإيقاع والصورة.

ولا بد ان قصيدة النثر بابتعادها عن الجماهيرية ومخاطبة العواطف تنحو نحو العمق الداخلي الإنساني مستبصرةً البواطنَ الخفيةَ للنفس البشرية وصاعدة نحو تخوم النخبوية في الوعي والإدراك ولكن جميل أبو صبيح يبتعد عن الغموض المتعمّد عند اغلب فرسان قصيدة النثر رغم التجائه للرمز بالكلمة والحكاية والصورة ولكنه ترميز ضروري يأتي دائما في مكانه بعيدا عن التعقيد المرهق والغلو الذي لا طائل منه.

وحينما تقرأ إشعار أبو صبيح فأنت تسافر معه في مدى من الألم والأمل ، ألمُ الهجرة وأمل الوطن ، ألم الغربة وأمل العودة ، ألم الموت وأمل الحياة ... وهو في الصورة الشعرية يعرف كيف يأخذكَ للألم وكيف ومتى يعيدك للأمل ، فلديه المقدرة على إدراك الوقت المناسب لاكتمال الصورة الشعرية وإحساس القارئ والمستمع بها فيتوقف منتقلا نحو صورة أخرى ورؤية إبداعية جديدة.

سأختتم قائلا : ان مشروع جميل أبو صبيح الشعري لم يكتمل بعد فلديه مازال كثير من التجربة وكثير أيضا من المغامرة الشعرية دون تردد أو تعثر أو توقف ، فلديه المفردة المنتقاة القوية ، ولديه الصورة الشعرية المحلقة ، ولديه أيضا إيقاعه الدّاخلي الخاص والذي يضبطه على وقع الصورة والكلمة كي يبقى ممسكا بأطراف القصيدة دون تهاون ، وكي يبقى من خلال حروفه وموسيقاه هو هو ذاته ذات الشــــــــاعر جميل أبو صبيح




kN4pjngZshXvztN6Sp93o6B_csX6l2bqqyh04lU5d3etvuq-4WB7PYM1u6_19jIgl27zrpEOahNQFjLwsO9UVvfNioR_E6uUqQ86eT7oDUxqlgmryE6JVRLuB3PBdc-_bbIatJwWpQ4tJ7Vz4tDABD8Pfg28DQMX3ZzbxldhFwfixm69lXy5MrmfAH1AzrQZ3A















تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى