سعد عبد الرحمن - التمرد الميتافيزيقي في الشعر العربي المعاصر ( أمل دنقل نموذجا).. الجزء الأول

إلى روح أمل دنقل في ذكرى ميلاده..


التمرد سلوك إنساني طبيعي يمكننا أن نحمده أو نذمه كشأن أي سلوك آخر بمقدار ما يصب مضمونه في صالح ارتقاء الإنسان أو ارتكاسه على سلم القيم ، و لكن ما يميز التمرد أن مضمونه شيء و نتائجه شيء آخر بمعنى أنه لا يمكننا تقييم التمرد من خلال ما يفضي إليه من نتائج فنصفه بالإيجابية أو السلبية بناء على طبيعة تلك النتائج ، نقول ذلك لأن نتائج التمرد كسلوك في الأغلب الأعم ذات ضرر قد يكون بالغا بذات المتمرد .
و ما يميز التمرد أيضا أنه سلوك مرتبط بالوعي ارتباطا وثيقا فلا يتمرد في الواقع إلا الإنسان الواعي ، و كلما كان المرء واعيا كان تمرده حقيقيا و إلا فإن التمرد يكون شكلا من أشكال الغباء الذي يصل في حالة الدرجة الدنيا من الوعي إلى درك الحماقة التي أعيت من يداويها ، التمرد بدون وعي هو بمثابة القفز من حالق إلى هوة لا قرار لها ، و الوعي مفهوم مركب يختلط فيه النزوع إلى رفض الواقع بالرغبة في تغييره مع قدر كبير من التحفز و الجراة و الحمية و الذكاء الحاد الذي يستبطن خبرة نواتها الحدس الصادق و من ثم فهو يختلف من فرد إلى فرد و من جماعة إلى أخرى بحسب نسب هذه العناصر و غيرها في تشكيله ، و التمرد كسلوك إنساني سواء كان فرديا أو جماعيا هو في كلتا الحالتين مع الأسف سلوك ذو سمعة سيئة ؛ و يتماهى في سوء سمعته مع أقرانه كالفسوق و المروق و العصيان ، لذلك يقول الشاعر مدينا التمرد عبر ربطه بخلق مشين هو اللؤم :
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته .. و إن أنت أكرمت اللئيـــــم تمردا
الشاعر في البيت السابق يقيم مقابلة بين تصرفين : تصرف من تصنع معه معروفا فيظل ممتنا ليدك البيضاء عنده حافظا و مقدرا حسن صنيعك معه و تصرف من تصنع معه معروفا فيقابل معروفك بالنكران و الجحود أو ما يسميه الشاعر بالتمرد ، من وجهة نظر الشاعر فإن مرد تصرف الأول أنه كريم و مرد تصرف الثاني أنه لئيم و هذا ما نعترض عليه ، لأن للبيت من وجهة نظرنا وجها آخر في معناه هو أن تمرد المرء على المعروف قد لا يكون جحودا و نكرانا لحسن الصنيع و إنما رفض و احتجاج على نير العبودية الذي سيعلق في رقبته باسم المعروف حتى لو قيل إنها عبودية مجازية لا حقيقية ، رفض و احتجاج من المتمرد على فكرة أن يتملكه أحد تحت أي عنوان براق أو لافتة جذابة ، و إذا كان المتمرد قبل تمرده قد تحمل لأسباب معينة الكثير مما لا يرضاه لنفسه و لا يطيقه فلحظة تمرده - كما يقول ألبير كامو فيلسوف التمرد - تعني أن " التحمل استمر أكثر مما يجب و أن ثمة حدا لا يمكن تجاوزه " ، و لذلك " فلابد للمتمرد من أن يكون في أثناء تمرده شاعرا بأنه على حق بصورة ما في مجال ما " و أنه في سبيل الحصول على هذا الحق قد تهون الحياة .
و التمرد كسلوك في تعارض دائم مع السلطة أي سلطة سواء كانت دينية أو اجتماعية أو سياسية أو أخلاقية أو غيرها لأن السلطة تخشى حدوث أي تغيير في العناصر أو الظروف التي أسهمت في وجودها فهذا من شأنه أن ينذر بتدهورها و التدهور يفضي إلى الانهيار ، إن السلطة دائما خشية الانهيار في حالة توتر مستمر و كأنها سائل أفعم كوبا أو كأسا فهو في حالة " توتر سطحي " خشية الانسكاب ، الفرق بين الظاهرتين أن توتر السلطة يتجاوز السطح إلى العمق .
و ما دام الوعي هو وسيلة الإنسان الأساسية لرؤية أمور الحياة على حقيقتها و فهمها و تقدير جوهر كل أمر يعالجه منها تقديرا موضوعيا متزنا بعيدا عن مظهره الخادع ، وما دامت محاولات الإنسان لفهم و استيعاب بعض تلك الأمور غالبا ما تنتهي بالإخفاق و خيبة الأمل فلا مناص إذن من أن يصيبه ذلك بالضجر و القلق و عدم الرضا ، و هذه الدواهي الثلاث هي التي تشكل من وجهة نظري نواة التمرد لدى الإنسان الواعي .
و لأنه كلما ارتقى المرء في درجات الوعي زاد ضجره و عظم قلقه و قل رضاه فلا غرو إذن أن يكون الفلاسفة و المفكرون هم أكثر الناس المؤهلين للتمرد لأنهم أكثر الناس نصيبا من الضجر و القلق و عدم الرضا و من ثم فهم أيضا أكثر الناس المؤهلين للشقاء في حياتهم فـ " ذو العقل يشقى في النعيم بعقله " كما يقول الشاعر ، و لكن كما يتمرد الفلاسفة و المفكرون يتمرد أيضا الشعراء و يأخذ تمردهم عدة أشكال أفاض في الحديث عنها و التمثيل لها د . محمد أحمد العزب في أطروحته للدكتوراه التي قدمها إلى قسم اللغة العربية بالقاهرة في منتصف السبعينيات تقريبا من القرن الماضي و كان عنوانها " ظواهر التمرد في الشعر العربي المعاصر " و أخرج لها ملخصا جيدا في أحد أعداد سلسلة " اقرأ " التي تصدرها دار المعارف بعد ذلك بعدة سنوات ( العدد 441 الصادر في ديسمبر 1978 ) .
و التمرد في الشعر بصفة عامة قديم و لكن جهد د . العزب في أطروحته كما يفصح العنوان انصب على ظواهر التمرد في الشعر العربي المعاصر ، و مما هو جدير بالذكر أن كثيرين لا يفرقون بين مصطلحي ( الحديث modern ) و ( المعاصر contemporary ) فيتعاملون مع المصطلحين بوصفهما مترادفين و هذا غير صحيح فمصطلح " الحديث " يشير إلى العصر الحديث الذي اتفق غالبية المختصين على أنه الحقبة الزمنية التي تبدأ بتولي محمد علي باشا زمام السلطة في مصر عام 1805 حتى الآن ( بعض أساتذة التاريخ يرون أن العصر الحديث يبدأ مع قدوم حملة نابليون بونابرت على الشرق العربي الإسلامي التي أحدثت لوعينا صدمة يطلقون عليها صدمة الحداثة ، و لكننا لا نحبذ رأيهم إذ لا يصح تأريخ بداية عصرنا الحديث بغزو أجنبي ) ؛ أما مصطلح " المعاصر " فيعني المدة الزمنية التي توازي متوسط عمر الإنسان الفرد أي خمسين أو ستين سنة إلى الوراء بدءا من الآن ، لذلك فكل معاصر حديث و ليس كل حديث معاصر ، إذن فما يتجاوز ستين سنة في الماضي لا يسمى معاصرا ، و بناء على تلك التفرقة فإن الشعر العربي المعاصر هو ما أنتجته قرائح الشعراء العرب خلال ستين سنة إلى الوراء لا أكثر بدءا من الآن .
صنف د . العزب ظواهر التمرد إلى ثلاثة مجالات رئيسية هي : الشكل و المضمون و اللغة ، ففي هذه المجالات تتجلى ظواهر التمرد الشعري ، و تبرز في مجال المضمون ثلاثة أشكال للتمرد هي : التمرد الاجتماعي و التمرد السياسي و التمرد الميتافيزيقي ، و الشكل الأخير هو موضوع اهتمامنا في هذا المقال .
و يدور التمرد الميتافيزيقي أساسا حول ثلاثة محاور هي :
أولا - تمرد " التساؤل " الذي يواجه الظاهرة الإنسانية و الوجودية و الميتافيزيقية كلها أو بعضها بنوع من اللا أدرية الشاملة ، من أين ؟ و إلى أين ؟ و لماذا ؟ و كيف ؟ و هو حين يلقى هذه الظواهر بتساؤل شامل فإن تساؤله ليس تساؤل البادئ الساذج و إنما تساؤل الباحث الذي اصطدم بالحائط الأخير و لم يصل بعد إلى اقتناع نهائي ، إنه تساؤل يتضمن تمردا على استعصاء هذه الظواهر على الفهم و الجدوى و معقولية الحلول ، و لكن هذا النوع من التساؤل يعني أيضا - حتى ضمنيا - أن ثمة قوة أعلى تملك جوابا على هذه التساؤلات .
ثانيا - تمرد " الموقف " و هو الذي يواجه مناطق معينة من تلك الظواهر الإنسانية و الوجودية و الميتافيزيقية بالرفض الشامل أيضا ، و لكن ما يميزه من تمرد التساؤل هو عمله في مناطق معينة من تلك الظواهر لا يتجاوزها إلى مواجهة الظاهرة كلها ، بمعنى أنه قد يتمرد على " قضية الموت " في موقف ، و قد يتمرد على " قضية الشر " في موقف ثان ، و قد يتمرد على " قضية الوجود الإلهي " في موقف ثالث و هكذا ، إنها في نظر الدكتور العزب مواجهة ليست شاملة و لكن التمرد من خلالها أيضا لا يجيء إلا بعد معاناة البحث و مداومة الحوار .
ثالثا - تمرد " الرفض " و هو الذي يواجه مجموع تلك الظواهر بالمصادرة الكاملة من أول الأمر ، أي أنه لا يلجأ إلى التساؤل المتضمن إقرار الاعتراف بوجود قوة أعلى قادرة على الإجابة عن تساؤلاته ، و لا يلجأ كذلك إلى انتخاب مناطق أو مفردات من مجموع تلك الظواهر الإنسانية و الوجودية و الميتافيزيقية ليمارس فيها تمرده ، و لكنه يدينها جميعا - بعد يأسه من الحصول على أمل في الفهم - بالعبث و خطل القوى الكامنة من ورائها و ركاكة كل ما يربط بينها من وشائج و علاقات



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى