راضية جراد - التاريخ الشرقي في الأدب الفرنكفوني

لطالما كانت الرواية التاريخية مميزة عن باقي أنواع الروايات لما تحمله من خصوصية في كتابتها بدءًا بهدفها المتمثل في إحيائها للماضي ونهاية إلى خلق جنس متميز وعلامة خاصة بالكاتب، فهي تساهم بشكل كبير في ترميم الذاكرة الجماعية والحفاظ على الهوية والتراث المتناول في القصص بخلقها جسرًا زمانيًا ينقل القارئ لفترات ماضية يعيش أحداثها وأحاسيسها، إلى أنَّه يجب أن ننتبه إلى ذلك الخط الرفيع بين الراوي والمؤرخ؛ لأن خوض تجربة الرواية التاريخية يعرض الروائي للوقوع في عملية التسجيل والتوثيق التاريخي، وهذا يؤدي إلى تدمير العمل الروائي.

لهذا تُعد الرواية التاريخية صعبة الكتابة؛ لأنها جنس أدبي ذو حدود فاصلة بين العرض التاريخي والسرد، فالموضوعية المطلقة توقع في فخ العرض التاريخي الواقعي للأحداث، أمَّا المبالغة في عرض عناصر السرد أو “التحميض الخيالي” سيحولها من رواية تاريخية إلى فانتازيا تاريخية تشبه الأساطير والخرافات التي كنت تروى على لسان جداتنا، ولطالما كان صنف أساسي في الساحة الأدبية العالمية.

ففي الأدب الفرنكفوني المكتوب من طرف الكتاب العرب نجد أن الرواية التاريخية شغلت حيزًا كبيرًا فيه، وبرزت بصمتها الخاصة في أوائل القرن العشرين مع الكتاب الجزائرين مثل محمد ديب، مولود فرعون، وكاتب ياسين الذي اتخذ من قالب التاريخ إطارًا زمانيًا ومكانيًا لرائعته “نجمة” لتعتمد كنموذج لتدريس في كبريات الجامعات العالمية، كان أحد أهداف إبداعاتهم عرض الحقائق التاريخية والاجتماعية للجزائر، وإيصالها للآخر عن طريق لغته وثقافته ليرى وحشية الاستعمار الفرنسي، ومحاولته الكثيرة لطمس وتدمير كل المعالم التي شهدت على تاريخ وحضارات البلد في قالب سردي يشد القارئ إليه دون ملل .

إبداعات الكتَاب العرب الفرنكفونيين في الرواية التاريخية كثيرة إلا أننا سنتوقف في مقالنا هذا عند الكاتب الفرنكفو اللبناني أمين معلوف، إذ يعتبر عمودًا من أعمدة هذا الجنس الأدبي، فالتاريخ بالنسبة له مصدر أساسي في الإيحاء الروائي، فمعظم رواياته وضعها في إطار تاريخي شرقي صورت للآخر ثقافة العرب وحياتهم مثل “سمرقند”،” الأسد الأفريقي”،” صخرة طانيوس” و “رحلة بلدسار” حاول من خلالهم البحث عن الذات القومية، وأسباب الصدمات بين الديانات والطوائف لأنه من منظوره الخاص فإنَّ معرفة ماضينا الحقيقي له علاقة مباشرة لمعرفة مشاكل حاضرنا، وسنبرز ما سلف ذكره باستحضار ملخص لبعضٍ من الروايات السابق ذكرها والتي تدور في فلك التاريخ.

نبدأ برواية “سمرقند” التي هي عبارة عن سيرة الشاعر عمر الخيام تحكي الظروف التي أحاطت بكتاباته لرائعته “الرباعيات” وفي سياق السرد، ينقلنا الى حياة الصحراء والبدو أين يجلس بنا في ليلة مقمرة على جانب خيمة أوقدت بجانبها نارًا هادئة …

“الأسد الافريقي” لا تختلف عن سابقتها كونها تصب في نهر السيرة الذاتية لشخصية ما استلهمت من حياة الرحالة حسن الوزان حيث نقلنا إلى فترات مختلفة من الزمن: ابتداءً بسقوط الأندلس إلى صعود الدولة العثمانية والنهضة الأوروبية فيها وقد أثبت أنَّ العالم الشرقي والغربي لا يمكن فصلهما ولا يوجد حل إلا التعايش السلمي.

“رحلة بلدزار” أبرزت الإمكانيات الأدبية في السرد التاريخي لأمين معلوف، حيث نقلنا فيها إلى القسطنطينية رمز التقاطع بين الشرق والغرب ومرة أخرى يبرز أنَّ التقاطع بين العالمين وثيق لا يمكن فصله.

بالرغم من تأخر ظهور الرواية التاريخية في الأدب الفرنكفوني المكتوب من طرف الكتَّاب العرب إلا أنها أثرت في أدب المنطقة، وكونت رؤيا جديدة للقارئ في العالم الغربي لهذا الجنس الأدبي الذي تفرعت أهدافه بين المحاولة للحفاظ على الهوية في ظل سياسة التغريب التي تواجهها المنطقة وبين عرض الثقافة الشرقية للآخر كي تجعل أدب المنطقة حَيًّا عبر الأزمنة ومرآة عاكسة لتراث وهوية المنطقة؛ لتكون سببًا في تصدره المراتب الأولى في قائمة الإبداعات العالمية ونموذجًا يُقتدى به في الكتابة والتدريس.


راضية جراد / الجزائر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى