سمير عطا الله - بخل العقاد

كان كثيرون يسخرون من «حرص» عباس محمود العقاد، أحد كبار رواد النهضة الفكرية والاجتماعية في مصر. وبين الذين سخروا فاطمة اليوسف، إحدى سيدات المسرح والصحافة والنهضة والحركة الوطنية. وكتبت روز اليوسف في مذكراتها عن تجربتها في الصحافة ومع عمالقتها، أنها حين طلبت من العقاد الانضمام إليها قيل لها إنه لن يقبل بالعمل في مطبوعة جديدة، فقالت للمشككين، انتظروا حتى يعرف أن الراتب 80 جنيهاً.

عاش العقاد ومات فقيراً. ولم ينفعه، في العالم العربي، أنه قرأ ستين ألف كتاب. وأنه كان عالماً في التاريخ الإسلامي. وأنه كان عالماً في مقارنة الأديان. وأنه كان عالماً في علم العلوم وفي الآداب وفي التاريخ وفي الاجتماع. وقد استكثر الناس عليه 200 جنيه و60 جنيهاً و80 جنيهاً. وكان مجموع «الأساتذة» العقاد يساوي أضعاف ثروات روز اليوسف مسرحاً وصحافة. ويوم قرر الكتابة في المجلة اتسعت سمعتها وارتفع مستواها وأقبل عليها مريدو العقاد وتلامذته وخافتها الحكومة وتهيبتها الدولة. وكان ما يقدمه يساوي ألف مرة ثمانين جنيهاً. ولكن صاحبة المجلة رأت أنها تتفضل عليه بالراتب.

الفكر في العالم العربي يولد محتقراً ويعيش محتقراً ويموت محتقراً. والناس لم تجد ما تتسلى به سوى بخل توفيق الحكيم وبخل أم كلثوم وبخل محمد عبد الوهاب. والذين لم يكونوا «بخلاء» وخافوا الألسنة ماتوا جائعين لا أحد يتطلع إليهم أو يتصدق عليهم. وكنت أخجل من نفسي عندما أفاتح الرئيس اللبناني السابق إميل لحود والرئيس الحريري بحالة فنانة أو فنان لا يملك ثمن الأدوية وربما ثمن الأكل. والذين لم يلتفتوا إلى ألسنة السوء وألسنة الحسد وألسنة السخف والألسنة التي ليست سوى ألسنة، استطاعوا أن يحفظوا كرامة السنوات الأخيرة وأن يضمنوا الستر، الذي هو أهم ما في هذه الحياة.

وبين كل مآسي الفكر العربي أرى أن قصة العقاد كانت الأكثر مأساوية لأنه كان الأكثر استحقاقاً. وكم يغبط المرء أولئك الذين عاشوا في عصر العقاد وطه حسين وكواكب الفكر العربي في مصر وسورية والعراق ولبنان في تلك المرحلة التي كانت فيها الشمس تشرق من خلف النيل لا من وراء المتوسط.

صدر قبل سنوات كتاب لباحث أردني يأخذ على العقاد أنه ترجم الكتب لحساب دار فرانكلين التي تدعمها الحكومة الأميركية. وذلك في مرحلة قبل ظهور أميركا السياسية في العالم العربي. كل ما ذكره عن العقاد أنه ترجم لفرانكلين. كأن تقول إن كل ما فعله شكسبير هو أنه لم يدفع الإيجار في سدني ستريت وإن كل ما فعله فاغنر أنه استدان من أصدقائه ولم يسدد وأن البحتري كان قصير القامة وابن الرومي كان متطيراً. لو ولد العقاد خارج العالم العربي لكان شيئاً شبيهاً ببرتراند راسل!





سمير عطا الله

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى