عبدالرحيم التدلاوي - رواية الزاوية والعتبة لمحمد اعويدات: نقد الأمية لدورها في صنع الشخصية الضعيفة

الكثير من الشعراء والنقاد وحتى الأكاديميين تحولوا إلى كتابة الرواية، كل بنفسه الخاص ورؤيته التي يسعى من خلالها إلى ترسيخ بصمته في هذا الجنس الأدبي المفتوح.
وما ذلك إلا لكونها تحتل مكانة مهمة في الأدب العالمي، فهي الجنس الأدبي الذي يحظى باهتمام النقاد والدارسين كغيرها من الأجناس الأخرى، وقد صارت الرواية المعاصرة تهتم بقضايا الإنسان من آلام وآمال على مختلف أصنافها وكاتبها.
ثم إنّ الرواية هي عبارة عن رصد دقيق لأنظمة التفكير المجتمعية يعبر عنها بواسطة الشخصيات.
ملخص رواية الزاوية والعتبة:
تحكي الرواية قصة شابة لها حظ من الجمال تتحدر من أسرة بسيطة متوسطة الحال ومحافظة، تتكون من أب متدين يمارس التجارة، وأم هي ربة بيت تقوم بتهييء كل ظروف الراحة لأفرادها، غير أن الشابة فاطم كانت غير راضية عن وضعها وتسعى إلى ما هو أحسن، ينقذها من وضعها ويحقق لها أحلامها رغم أميتها وجهلها، وكان هذا أحد معوقات هذه الشخصية التي أبانت عن تمردها الجنيني برفض وصاية أبويها حين اختارت عزيزا زوجا لها، بيد أنها صارت خنوعة وطيعة لما قبلت السكن بالبادية مع حماتها المتسلطة، ولما رضيت بوضعها البئيس حين انتقلت إلى المدينة لتعيش في بيت خال من كل اللوازم الضرورية، ولتبقى أسيرة هذا الوضع تطلب الطلاق وتحصل عليه بشكل مهين، لتنتقل من هذه التجربة الفاشلة إلى أخرى أمر حين تقبل بالزواج من رجل متزوج يريد الخلفة، وكانت ضحية مؤامرة محبوكة من طرفه وزوجته؛ إذ أنها كانت تعيش في الحرام دون علمها لتلفظ لما خافت ضرتها على مكانتها فتخلصت منها بتجريعها سما حصلت عليه من مشعوذها الذي استغلها جنسيا وماديا، وحين تسقط فاطم مريضة يحملها الزوجان إلى بيت أهلها ويلقيان بها هناك وكأنها سقط متاع، وتكون النهاية مرض الأب صحبة الأم والبنت عديمة التجربة والشخصية.
إذا كان الملخص أعلاه قد أشار بشكل سريع إلى أهم الشخصيات التي تؤثث فضاء النص، وتحرك أحداثه، ومن خلالها يطل الراوي ومن خلفه المؤلف على العالم الواقعي مشير إلى الكثير من الاختلالات التي يعرفها؛ فإن الحديث عن تلك الشخصيات بشكل ضاف سيفضي بنا إلى الحديث عن أهم القضايا المطروحة والتي تناولها المؤلف بالنقد والتشريح.
والبداية ستكون مع الأسرة الصغيرة التي اتخذها المؤلف منصة للانطلاق باتجاه طرح القضايا التي تشغل باله وبال المجتمع.
الأب: رجل تجارة يعمل طوال اليوم لتوفيق اللقمة الحلال لأسرته، رجل متدين لا يفرط في أداء صلواته في أوقاتها، نراه يستيقظ باكرا لصلاة الفجر، وبعدها يعود إلى فراشه بانتظار طلوع الشمس ليتوجه إلى محله بعد تناول طعام الإفطار. يتميز بقوة الشخصية وله هبة وسط السوق. سيعيش أزمة ستؤثر فيه حيث ستتفسخ علاقاته بمحيطه الذي عكر صفو مزاجه والمشاكل التي تعيشها ابنته التي قهرته وحطمت حلمه بتزويجها برجل يحقق سعادتها، ويمنحه فرصة إملاء اشتراطاته عليه؛ وقد يكون مرد تحطم تلك الأحلام سلبيته المطلقة وبغيابه الدائم في الدكان. رجل فرط في تعليم ابنته لاقتناعه، ربما، بأن المرأة خلقت للمنزل. ورغم ذلك نجده متسامحا ومحبا لأهله، لا يبغي منح نفسه فرصة تسلط، يظهر ذلك من خلال ترك الحرية لابنته من أجل قبول ورفض عزيز الذي تقدم لخطبتها، علما أنه كان رافضا له حين علم تعاطيه لتجارة المخدرات.
الأم: ربة بيت تفكر في مستقبل زاهر لابنتها بتزويجها لرجل مسؤول وميسور. تعامل ابنتها بقسوة مرة وبلين مرة. تصدم حين تتزوج من عزيز ضد إرادتها وإرادة أبيها، وتبتلع غيظها، وحين تزورها وقد غيرت محل سكناها، تصدم ثانية وهي ترى بؤس عيش ابنتها، ما كانت تريده حصل ضده...ام تتفانى في التصميم والتنظيم وعدم الإسراف..
فاطم: الابنة الوحيدة والتي لم تنل حظا من التعليم، تبلغ مرحلة تجد نفسها راغبة في الزواج من شاب يحقق لها طموحاتها ولا يهم مصدر ثورته، وتجد هذه المواصفات في عزيز تاجر المخدرات، تقبل به لأنه الوحيد الذي تجرأ وخاطبها في الشارع وأقبل صحبة أمه لخطبتها، وتصرف معها بنبل حين غادرت منزلها عصيانا؛ فلم يستغل الفرصة لنيل وطره بل ذهب إلى أبويها يخبرهما بمكان وجودها، وأنه مصر على الزواج منها. ويتحقق الزواج، ولا تتحقق الأحلام؛ إذ تصطدم فاطم بالواقع المر؛ العيش من الحماة في البادية حيث تغيب شروط العيش الكريم، والأمر أنها تعيش هلع المطاردة والتفتيش.
تنتقل لتعيش في بيت مع الجيران، دون أدنى شروط الحياة الزوجية، تقبل بمرارة، وتسعى إلى التكيف مع الوضع؛ وهنا تكتشف واقع اسر فقيرة اضطرتهم الظروف إلى العيش في وضع مهين يمس بالكرامة.
وفي لحظة تأزم، ومن غير المتوقع، يطلقها عزيز هو الذي يحبها وكافح من أجل الحفاظ عليها. لتخوض تجربة جديدة وتعيش انتكاسة أخرى أمر، حين تقبل، رغم رفض أبويها، الزواج من جزار متزوج. ستعيش حياة بئيسة، تحت سلطان الزوجة الأولى وسلبية الزوج، وحين تشعر الضرة أن مكانتها مهددة، ستتوجه إلى مشعوذها طلبا للمساعدة، وكان قبلا قد قدم لها مساعدات مقابل المال والجنس. تحصل على سم تدسه لفاطم، فتسقط هذه الأخيرة مريضة، لتحمل إلى منزل أبويها، وترمى هناك، لنكتشف والأسرة معا أن عقد الزواج كان مزورا.
تسقط الأسرة بكاملها مريضة، معبرة بذلك عن مرض المجتمع ككل.
عزيز: شاب في مقتبل العمر، يتاجر في الممنوعات، يعيش حياة الرفاهية، وحين يتزوج بفاطم يجد نفسه في ورطات مع السلة التي ستحتجز بضاعته وتحاصر نشاطه ليجد نفسه في وضع متأزم يفضي به إلى تطليق زوجته دون علمها، ويمارس معها حياته إلى حين توصل فاطم بطلاقها. وهو سلوك يعبر عنه وعن قيمه السلبية بخلاف موقف الأول قبل الزواج.
ويظل عزيز وسما جميلا، وحبا عميقا في قلب فاطم التي بقيت تحبه رغم تصرفاته المشينة، وعنفه غير المقبول:
..جلست وبدأت تشهق، كان بكاء حارا، حاولت أن تغسل قلبها بدموعها لعلها تتخلص من بقايا عزيز العالقة به، لكنها كانت خدوشا عميقة بل جروحا غائرة والدموع لا تداوي الجروح بل تثخنها، لم تقو على الانتحار ولم تقو على البعد عن والديها وبالتالي تورطت مع عزيز، لا زالت تحبه، لكن طريقته في العيش وتواكله سببا لها نفورا من جهته إنها قادرة على إعادة تجديد صفحاتها وإياه شريطة أن يتغير لكنها كانت تدري أنه لم ولن يتغير، فكل شخص استطاع الحصول في يوم ما على أموال طائلة دون عناء سهل عليه إنفاقها بل صعب الحصول على القليل منها بالكد وبالاجتهاد...ص 67.
وهي في مناجاتها نسيت أنها عاندت أبويها ورغبت في الزواج من عزيز رغم علمها أن مورد رزقه حرام، بل أصرت على الاستمتاع بتلك الأموال لتحقيق أحلامها.
المعطي: رجل قوي البنية ذا مهابة بين الناس، يزاول الجزارة التي درت عليه ثراء أخرجه من فقره المدقع بفعل اعتماده على الذبيحة السرية وغيرها من المحرمات. تزوج خدوج المطلقة التي مهدت له الطريق نحو الثروة بأفكارها الشيطانية؛ ولأنه لم ينجب منها فقد فكر في الزواج بثانية لكن من اختيار خدوج التي وقع اختيارها على فاطم لعلمها بضعف شخصيتها. لكنه في محطة تأزم علاقته بزوجته الأولى التي أدرك سطوتها عليه، سيحملها بعد مرضها إلى بيت أبيها ويصفعه بحقيقة زواجهما الباطل.
خدوج: امرأة أمية وجاهلة، تؤمن بالشعوذة وتلتجئ إليها في الملمات، مطلقة تمكنت من الزواج من المعطي ظنا منها أن المشعوذ هو من يقف وراء ذلك؛ هذا المشعوذ الذي استغل ضعفها فنال منها جنسيا وماديا؛ وهو نفسه من سيمدها بالوصفة التي ستبعد فاطم عن زوجها؛ وصفة سامة أثرت فيها وأرقدتها في الفراش لتحمل إلى بيت زوجها لتنضاف أعباء جديدة على كاهل الزوج بعد أعباء مرض زوجته، ولينتهي مريضا هو الآخر.
هذه المرأة تتميز بقوة شخصيتها وسلطتها على زوجها لأنها تدرك أسراره، وتعلم خباياه التي لا يود أن تشاع، لذا، يبقى تحت سطوتها خانعا.
وقد رصد المبدع، من خلال هذه الشخصيات بالأساس، أعطاب المجتمع، من ثقافة بالية تذل المرأة، ولا تعتبرها سوى قنية للمتعة، ومن فساد، واتجار في الممنوعات، وتسلط..
ففي ص 81 نجد الراوي وفاطم معا ينتقدان، وبشكل لاذع، الفكر الذكوري السائد..كما نعثر في ص 93 على تساؤلات فاطم عن التحرش وكيفية إيقافه، وتدخل الراوي بفكره وتفسيره معبرا عن أميتها كعائق منعها من معرفة السبل.
تعتبر هذه الرواية كتابة تنخرط في مسألة الالتزام بالقضايا الاجتماعية، التي تخص مجتمعنا الذي لم ينفصل البتة عن ماضيه بحمولته السلبية وأعطاب تقاليد الجاهلية رغم احتضان القرن الواحد والعشرين. لم يقم المجتمع بدفن الماضي بل يعيد إنتاج قيمه السلبية من خرافة ونفاق ودجل.. والنظرة الدونية للمرأة المطلقة التي ماهي في النهاية إلا ضحية مجتمع ينخر فيه سوس الأمية والجهل. ولهذا فهي رواية تنتمي للواقعية الاجتماعية...
وتعتمد الرواية، وهي تقليدية لكونها اعتمدت الراوي كلي المعرفة والحضور، وعلى التتابع السردي المتجه من نقطة بداية إلى نقطة نهاية بشكل متتابع، لا يعوق مجرى سير أحداثها سوى استرجاعات يسيرة، على الوصف والحوار وعلى تسلسل الأحداث زمنيا مع تدخل السارد أحيانا لتوضيح الحدث... إضافة إلى كشف سيكولوجية الشخصية عن طريق التداعيات أو المونولوج.
وتجدر الإشارة إلى إقحام المبدع قضيتين يمكن حذفهما دون أن يختل ميزان الرواية ألا وهما القضية الفلسطينية التي تمت الإشارة إليها في سياق متابعة الأم للأخبار، واعتبار تضامنها معها طبعي، وفساد المنتخبين من خلال سلوك بليد لمستشارين يتخاصمان على تعلم قيادة شاحنة الأزبال في الصباح الباكر. إذ الحديث عن المخدرات والذبيحة السرية والشعوذة كافية بدل إضافة أعباء أخرى على كاهل الرواية.
** الزاوية والعتبة، محمد اعويدات، مطبعة انفو_برانت، فاس، الطبعة الأولى سنة 2015



1604093066734.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى