حاتم عبدالهادى السيد - قراءة نقدية: سيمولوجيا الحداثة لطائر الشعر الجديد قراءة في: "أبجديات مغتربة"

ما الذى يحيلنا إليه العنوان السيمولوجى الرامز : " قراءة في أبجديات مغتربة" للشاعر السعودى الكبير / صالح سعيد الهنيدى؟. ثم أى أبجديات يقصدها عبر تغريبته الباسقة الشاهقة؟! أتراه ينشد الذات وألقها؟ أم تراه ينشد الإغتراب ليحيلنا إلى أقانيم الروح، وأقاليم الذات التى أراها تَتَقصَّدَ الشعر الجديد، فنلمح روح الشعراء الكبار : نازك الملائكة، صلاح عبدالصبور، والسياب، والبياتى، وهارون هاشم رشيد، هاشم الرفاعى، وغيرهم ؟! .
إنه الشاعر الذى يسير على درب الألى سبقوا، ويجدد مسارات الشعرية العربية عبر قصائده التى تخاطب الروح، وتسترق السمع، وتنشد تشاركية القارىء لنسأل - بحسب رولان بارت – من سرق المشار إليه في النص السيمولوجى الدافق؟ عبر القصائد التى يستخدم فيها التدوير الشعرى،عبر معجم لغوى هادر بالجمال، وبالصور التشكيلية البصرية التى يصنعها بمهارة، وحذق شديدين،عبر مخيال رامز يحيلنا إلى ذواتنا لنستعيد معه سيميائية الجمال الكونى، وفيزيائية الشعر الذاتى، الرومانتيكى، والدينى ، الصوفى، الحالم، وغير ذلك ؛من أغراض وألوان الشعرية العربية ؛التى يمتاح غلالتها ، ويكشف ستور جلالها،عبر لغة نورانية تضج بالجمال والحب، وتعبر بنا جسر الذات، إلى آفاق أكثر تنويراً ، وتثويراً ،وشاعرية ؛عبر الكون والعالم والحياة !! .
إنه الشاعر الذى يمزق المستور عبر غلالة الصفاء الروحى ،والشعر الباذخ، لينير قلوبنا بالشعر فتتطهر، وكأنه يعالج جروحنا بجمال حروفه المداوية، كبلسم يصنع رتقاً للجمال الباذخ، يقول : ( تجيئين رغم انتصاف الخريف /ورغم انتصار الألم/تجيئين في لحظة من /ذهول../فتسقين صفرة /هذا الذبول ../وتأتين من غربة /قد مضت ../فيلتهم الطهر/هذي الفصول)..
ويمازج شاعرنا بين الذاتى والموضوعى،بين الحزن والألم، والفقد والوجع عبر رحلة صوفى ٍّغارقٍ في هيولى الذات، يلهج الحكمة، ويفضى إلي الله الخالق بما يشعر، فنسير معه عبر جسر الذات إلى جسر الملكوت، عبر السرمدىِّ، الأبدىّ، الواحدِ القهارِ، خالق الوجود، وكل شىء، يقول مناجيا الذات لتتطهر، ومناجياً رباً كريماً عالماً بالحال والمآل ، يقول :
(أنا إن زادت همومي/وتجلَّتْ/وتلاشتْ فرحتي /من بين قلبي واضمحلَّتْ/وإذا الأحزانُ في صدري حلَّتْ ... واكتويتُ/أنا إن ضاقت دروبي/وحياتي/وبدا يُرسَمُ في خارطتي /خطُّ مماتي/وأصاب الجرحُ قلبي /فانثنيتُ/وإذا الآلام ترعى في خَفوقي/وتبثُّ الهمَّ في أقصى عروقي/وابتُليتُ/جئت في شوقٍ/وفي توقٍ/إلى ربٍّ كريمْ).
إنه الشاعر الذى يخش إلى قلوبنا، وإلى بؤبو الروح عبر أيقونات الشعر، فيدخل إلى الروح، ونعبر معه إلى فضاءات ممتدة، وعوالم مترامية الأطراف عبر كيمياء الشعر الباذخ الجميل ، وعبر حكاية جنين طقلة فلسطين، قضيتنا القومية الممتدة ، يقول:
(يا "جنين "/يا عقود الشوق في نحر القضيَّة/يا هدايا الحب من رب البريَّة /آه ما أحلى الهديَّة
يا ( جنين ) /يا زمان الوعد بالنصر المبين /يا ثمار اللوز /في صحراء دنيانا الدنيَّة/يا بشارات الأماني في ليالي اليأس /يا نبع الأملْ/يا عيونًا طرفها من صورة /القهر اكتحلْ/وعلى وجناتها الغضة ليل الظلم حل.
فهو هنا الشاعر الذى يشير إلى ضمائرنا، يرينا مقتل الطفلة جنين، وسبى الأطفال والنساء، واحراق المسجد الأقصى، والعبث بمقدراتنا، والكل نائمون، صامتون، خائفون من ماذا ؟ . .إنه يذكرنا بعجزنا العربى القديم / المتجدد عبر التفريط في قضايانا القومية والإسلامية الكبرى، ويهرق الدمع وحيداً على الورق من أجل القضية.
وفى قصيدته الزلزال "زلزال الشعر" نراه شاعراً فحلا ، يمتلك كل مقومات الشعر ؛من جمال وقوة تعبير، وعمق تصوير، وجزالة صورة ومعنى، وقوة تعبير ومبنى، وكأنه يرصف جسر الشعر على رصيف القلب؛ فيحيله إلى جمال ساحر، وسحر عاشق، وجمال مهيب باذخ، يقول عن الشعر:
الشعر يا هذي العبارة مالها
تدنو، فتبعُد، تُستقلُّ فتكثرُ
تصحو فتغفو ، تستفيق فتنجلي
تخبو فتُشعَلُ ، تستطيل فتصغرُ
تسمو فتعذب ، تُستغلُّ فتنزوي
تلهو فتَحزِم ، تُستباحُ فتَسترُ
تَسقي فتَروي ، تُستفزُّ تثور كالـ
بركان تخمد تستحثُّ فتأسِرُ
تُبكي فتُضحك ، تستحيل حمامةً
بيضاء فوق فم المدافع تنقرُ
الشعرُ ماء المتعبين وزادهم
الشعر زيتونُ الخلود الأخضرُ
الشعر أنفاس الحنين ترقُّ في
رئة الوجود فماله لا يزفرُ
الشعر قاموس الفضائل إن سما
أنا ما عنيت عصابةً تُستشعَرُ
الشعر نفثة عاشقٍ متأوهٍ
يرنو إلى الماضي البعيد وينظرُ
الشعر ثغرٌ ضاحكٌ يستلهم الـ
كلمات يشدو والأنام تفسّـرُ
الشعر هذا الكون يحملنا إلى
مستقبلٍ فيه القوافي تزهرُ
الشعر مصباح الشعور وزيته
حسُّ ، ووجه زجاجه لا يكسرُ
الشعر في النظرات في البسمات في الـ
كلمات في الآهات حولك تُزفرُ.

وهو الشاعر الفيلسوف الذى يكسو حروفه بغلالات النور؛ فينطلق كروان الشعر صادحاً عبر المدى، بأجمل القصائد التى تجعله في مقدمة الشعراء، أميراً يتبختر عبر حديقة الشعر، وتتمشى إلى باحته الوسيعة حروف اللغة؛ والمعانى فيصهرها ، ليشكل عجينة الخلود الأثير ، يقول :
( شاعرٌ/أركب أمواج/الحياة /وأنا في زورق/الوهم/أغني للحياة/ربما يغتالني الموج/وأعماق المياه../شاعرٌ/هذا أنا/مذ كنتُ حرفًا/في كتاب/خافقي الشعر/ووجداني تملّاه الشعور).
إنه الشاعر الذى جعلت منه العبارات فيلسوفاً عبر صروف الأيام، وشكلت حروفه بالوجع الشهى العذب، والألم المضىء المزهر، فما أجمل النور من مشكاة شعره، ونحن نطل عليه من شرفة الخلود الشعرى؛ لنتملى من عبير الكلمات التى يضوع من بين ثناياها عطر الشعر الأنيق الجميل، والإدهاشى ،حيث نراه في السماء الثامنة – وحيداً – يصنع قصراً لشعره الشاهق ليصبح الشعر لديه سماءاً جديدة ؛تضاف إلى السماوات السبع المعهودة، فهو ينشد حداثة المعنى، وطزاجة التعبير، وتجديدية في الموضوع والتصوير كذلك ، يقول:
( سأرحل/نحو المدار البعيد/وأترك خلفي/هوى الشَّخصنة/سأعبر بحر الحروف/العميق/وأنفض عني/لظى الألسنة/سأحثو على الحانقين/الغبار/وأتركهم في شجا الأمكنة).
وفى قصيدته المبهرة : "نقثة عاشق"؛ نرى قمة الجمال الشعرى، وقوة التعبير، والعواطف الجياشة الصارخة التى تزعق في برّيَّة العالم، يعتريه الهَمُّ، وتكسو روحه وجبهته؛هموم متداخلة متدافعة؛كطوفان يهدر بالروح، أو يجأر للمدى، فنستشعر الخوف والهلع، والرغبة والخوف، والقوة والضعف، والصراخ والآهات المستجيرة بالرمضاء؛ على مذبح الخلود الشعرى الشاهق، وهى القصيدة التى تمثل " أم القصائد"، لديه ، والتى لو لم يكتب سواها – كما أرى – لكفاه، يقول:

لو تَعلَمِينَ بما حَوَاهُ فُؤادِي
مِن خَفقَةٍ مَكلُومَةٍ وَسَوادِ
لَو تَعلَمِينَ بِذِلَّةٍ مَوبُوءَةٍ
رَسَمتْ بقَلبي صُورَةَ اسْتِعبَادِ
رَسَمتْ خُطُوطَ القَهرِ بَينَ جَوَانحِي
وَمَحتْ بَقَايا فَرحةٍ بِفُؤَادِي
أَنَا زَفرَةُ الهمِّ الكَبيرِ تبثُّهَا
تَنهيدَةُ الأَجدَادِ للأَحفَادِ
أَنا يَا مُناةَ القَلبِ نَفثَةُ عَاشِقٍ
تَاهَتْ وَلمْ يَروِ الغَليلَ الصَّادِي
مَا زَالَ يَجلِدُني الحَنينُ بِسَوطِه
وَكَأنَّني في قَبضَةِ الجَلادِ
مَاتَتْ عَلَى سَفحِ الهُمُومِ رَغَائبي
وَانسَلَّ بَينَ شِعابهنَّ وُدَادِي
آهَاتُ قَلبي لَو جَمعتُ نُثَارَها
لَتَشكَّلتْ في صُورَةِ اسْتِنجَادِ
أَسلُو فَتَفترِسُ الهُمُومُ سَعَادتي
وَتُثيرُ أنَّاتي بِغيرِ مُرَادِي
أَرغَمتُ أَنفَ عَوَاطِفِي فَإِذا بهَا
تَبتزُّني بمِلامِحِ الأَحقَادِ
اللَّيلُ يَفرِشُ كَفَّه لأرشَّها
بِدُموعِ جَفنٍ يَرتَوي بِسُهَادِ.
ومع كل هذه الآهات وجبل الهموم، إلا انه لازال يحلم بالأمل بعد الألم، وتبّدل الأحوال، وينادى بالتغاضى عن الجراح؛ من أجل اجتراح القروح لتندمل، ومن أجل غَدٍ جديدٍ مشرقٍ للحياة، يقول عبر لغة طازجة تنداح في الروح ؛ لتستشرف كل ما هو جميل وجليل، وبديع ، يقول:
( اترك جراحك/تندمل/ودع البكاء/وارسم خيوط الفجر/في أفق المساء/وارفع أكفك/بالدعاء ../لاتجعل الجرح /العميق/يهزُّ أطراف الفؤاد/واسكب نشيد الحبّ/في أذن الكآبة/والسهاد/والثم فم الأزهار/بالثغر المعطر/بالثناء).
ولنا أن نلحظ تجديدية ؛ومرحاً للمعانى، التى تغازل الروح، عبر روحه المرحة التى تستقطب الأفئدة،عبر رحلة حبه الشعرى المتوقد، والجميل، يقول:
فارقتها مسترشدًا برشادي
وتركتها مستمسكًا بعنادي
وبعُدتُ حتى أنني من قسوتي
لم ألقِ بالاً لامتداد أيادِ
أخَذتْ تلوِّح باليدين ودمعُها
يستصرخ الزفرات من أكبادي
وظننتُ أني سوف أسلو حينها
عن حبِّها في رحلتي وبعادي
ورحلتُ والْتهم الزمان شجوننا
ومحا ملامح لحظة الميعادِ
ونسيت أيام الحنان كأنني
لم أجنِ يومًا من ثمار ودادي
وظللت أشرب من كؤوس سعادتي
ثملاً أحس بنشوة الإسعادِ .
إن الديوان يحفل بالكثير من القضايا، ويعبر بالذات إلى آفاق أكثر رحابة؛عبر رحلة الحزن والألم، والنور والنار، والآهات والجمال، وهو يرسم شاعريته بدمه ، ويعشق الحياة عبر لغة تفيض بالحب، وشاعرية تجدّد مسار الشعر العمودى، وتضىء آفاقاً جديدة للشعر بعد أزمة المخيال التى مُنيت بها القصيدة العمودية . ولقد رأيناه مجدداً، يُعْمِلُ معولَ الفكر عبر كيمياء الجمال، وفيزياء الشعر الحالم ؛ المستشرف لأفق جديد للشعر العربى المعاصر ؛ عبر قصائده التى تعبر بنا إلى براحات ممتدة جديدة، وعوالم ربما لم يطرقها شاعر، فهو في السماء الثامنة كما قال؛ يغزل بمخرز الشعر بردة الشعر الجديدة، ولنا أن نثمّن شاعريته، وتجديديته عبر المخيال الممتد، وقاموس اللغة التصويرى الباذخ، وعبر فرادة الشعر الحالم، الذى يشرق على الكون والعالم والحياة . ولنا أن نختم قراءتنا الجمالية ببيته الشاهق حين يقول :
أنا حرف مازلتُ أبحث عني
في دروبٍ من المدى تتشظّى.

حاتم عبدالهادى السيد
رئيس رابطة النقاد العرب


1604660189168.png


1604660124772.png

1604660153101.png




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى