عبدالرحيم التدلاوي - البيان القصصي لعبدالله المتقي من خلال مجموعته "آيس كريم...رجاء! 1

_ اللاكلاسيكية.
2_ الجنون.
3_ ممارسة الانتهاك.
ثلاثة اقانيم يبنى عليها العالم لإطفاء نيرانه المشتعلة.
ثلاثة أقانيم أسياسية لكل بناء قصصي.
من دونها، ستكون الكتابة باردة وباهتة كطعام بائت وبارد ومن دون طعم، وغير مثير للشهية ولا يمتلك أدوات الإغراء الواجب توفرها في كل كتابة عاشقة ومسكونة بالجنون الفني العظيم.
الكتابة التي تسير على الخط المستقيم مآلها النسيان؛ لأنها لن ترج القارئ، ولن تنتهك مسلماته، بل ستدفعه إلى الركون للسائد، ومن ثم الخضوع لطقس التحكم.
أما الكتابة الحقة، فهي التي تؤسس جمالياتها على المغامرة والمغايرة وارتياد الأراضي البكر، وقيادة الإنسان إلى المجهول اللذيذ، تعيد بناءه وفق طقس تعميدي يعلن عن ميلاد كائن جديد، غير ملوث بالعادة، ومنفتح على الحياة بعنوانها العريض: الحرية.
ثم يأتي البيان مصاغا بدقة في بنود محددة، كلها تقول: كن أنت لا غيرك، كن بخيلا واترك المائدة مثيرة لشهية المدعو، لا يلتهم سوى الضروري، حتى لا يصاب بالتخمة المضرة بالفن.
مجموعته الحالية عبارة عن قصص مختارة من إضماماته السابقة بعد أن مرت بمصفاة عينه النقدية التي لا تنام مستعملة الغربال الملائم الذي يسقط ويبقي؛ وما أبقى سوى النماذج الدالة على انتهاك القوانين الصارمة التي أرساها نقادنا بالتبعية، نماذج تقول إن الإبداع بعامة ممارسة للحرية، وبالأخص القصة القصيرة جدا التي من حقها أن تمارس جنونها بكل ما يليق بجنونها المقدس؛ إنها تقيم طقسا عابثا بشرب لذائذ ديونيزوس المحطم للأصنام المتيبسة. أو هي مطرقة نيتشوية لا تؤمن بالقواعد الجامدة والمتيبسة، لأنها تخنق الإبداع، والكتابة هي ممارسة للحرية.
الحكايا مؤلمة وحارقة وتحتاج لآيس كريم حتى تتغلب على نارها المشتعلة. وعليه، فالكاتب الحق ينبغي أن يعيش ليحكي، أن يعيش بحق الألم، أن يعاني كل ضروب الحرمان، فالعائش في الترف لا حكمة لديه، وقصه سيكون فارغا، شكليا، غير شهي.
وتأتي القصص مجدولة بفنية، تحقق الدهشة، وتحث على التأمل، من مثل قصة "اندغام" فقد مكن الالتحام بين ذات الألوان، وذي اللون الواحد من تشكيل صورة على شكل ضفيرة امرأة مجدولة بدقة وعناية.
الكتابة القصصية هي القدرة على جمع المتناقضات في لوحة أو مشهد معبر بمهارة وبراعة تنم عن ذكاء كتابي وتدعو قارئها المماثل إلى الاندغام فيه، وخوض حروفه وتحريكها في اتجاهات عدة ليصفو ماء النص، فيشرب أعذبه.
وأجمل القصص عدا طلقاتها السريعة والدقيقة أن تجعل اللامعقول معقولا، وأن يكون غير الممكن محتملا، كما في قصة "سوريالية" التي تقدم أحداثا تبدو في سطحيتها غير معقولة بل صادمة، لكنها في العمق تعبر عن صورة واقعية تتطلب عينا ثاقبة، وذهنا رائقا، ونبيها للقبض على الصورة ودلالاتها.
والأمر نفسه في قصة "جنون"، فهي ترسم جنون رجل يطلب من سائق أن يحمله إلى ثلاجة الخضر، فبالرغم من لا معقولية المشهد إلا أن الحفر سيقود إلى عقلنة جنون النص.
عليك أن تكون حامل جنون التلقي لتساير جنون القصص، من دون هذا الميثاق، ستجد النصوص خارجة عن مألوف تلقيك، وستخيب أفق انتظارك، ولن تمنحك لذتها إلا بتجديد آلياتك القرائية.
وتأتي قصة "خيانة" لنجدها عامرة بكلمة الجنون، والخيانة، في حد ذاتها جنون، وخرق للمتعارف عليه، وتدمير للمعتاد والمؤطر بالقوانين. لكنه ليس دعوة لفتح باب الخيانة الزوجية بل لخيانة النصوص. لخرق ميثاقها بكل جنون ممكن.
ففي "حانة القصة " تتبدى هذه الدعوة إلى ميثاق الخرق بجنون، فلا يمكن فهمها إلا على أساس التخييل الذي يجعل كل شيء ممكنا ومحتمل الوقوع.
دع عنك تلك القوانين، وتجنب تلك القصص المكتوبة على عجل، والتي تيسر وفق ما تم رسمه حتى تستطيع مجاراة قصص المجموعة، من دون ذلك سيخيب ظنك، وتصاب بعسر هضم.

**

آيس كريم ... رجاء، مختارات قصصية لعبد الله المتقي، صدرت في طبعتها الأولى سنة 2021، عن مطبعة المغاربية لطباعة وإشهار الكتب، والناشر: دار الكتاب، والغلاف من انجاز المغربي ادريس لعمارتي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى