عبد الكبير الخطيبي - العلم والتقنية والفلسفة

كنا قد تساءلنا منذ أزيد من خمسة وعشرين سنة عن مستقبل الفيلسوف بالمغرب.
كل هذه الأسئلة كانت مشروعة وكان لزاما علينا وعلى جامعتنا الفتية التباحث بشأنها. أن نكسب الحق في ممارسة الفكر والتفكير كان هو طموحنا الكبير ورهاننا بالنسبة للمستقبل. ثم إن هذا الطموح وهذه الرغبة الأكيدة في أن يصبح للمغرب تقليد معرفي جديد، لم يكن يهم فقط الفلسفة في حد ذاتها؛ إنه كان يهم العلوم الإنسانية بوجه عام. فهل حظيت الفلسفة وعلم الاجتماع في حد ذاتهما بالوقت الكافي لكي يصبح لهما حظوة ونفوذ على المستوى الأكاديمي ومشروعية لا جدال فيها؟ ثم إن هذين الجنسين المعرفيين الذين يهدفان إلى المساءلة والمجادلة والمباحثة، ألم يعانيا على المستوى الفكري والمؤسسي؟

ولكن بما أن كل فكر ينمو ويتطور بمواجهة العوائق والموانع، فإنه من واجد هذا الفكر أن يعتمد على قوته وأن يستمد منها ما يحقق استمراريته، وإلا فسيصبح مجرد معرفة جامدة، بدون صيرورة، معرفة سرابية. وإذا منعت الجامعة من نقل معرفة معينة، أو إذا تم تهميشها بسبب أو نتيجة سياسية غامضة، فإنها ستفتقد المسؤولية التي تضطلع بها وستلج ظلام المعرفة.

ومع ذلك، تجب الإشارة إلى أنه في إطار الظروف الغامضة التي نمت فيها جامعتنا وبالذات، ظهرت أبحاث ذات مستوى علمي رفيع في العلوم الإنسانية وذلك في مجالات التاريخ والجغرافيا واللسانيات وعلم الاجتماع والاقتصاد والفلسفة والنقد الأدبي.

وهذه الدراسات والأبحاث، لم تخلق، كما قيل، مدارس وطنية في هذا العلم أو ذاك، إلا أنها ضمنت الاستمرارية وأنشأت جسرا يصل بين جامعتنا إبان نشأتها والفكر العالمي. فإذا كانت رسالة الفكر تتمثل في التلقين ونقل المعرفة، فقد يكون من المشروع أن نعتز، وبتواضع، بالأبحاث التي تم إنجازها في مجال العلوم الإنسانية، وذلك لسببين اثنين: أولا، أن هذا الإنتاج يشكل رصيدا معرفيا لن تنمحي فائدته؛ وثانيا، أنه بالرغم من وسائل مادية هزيلة إن لم تكن منعدمة، فقد أسست هذه الأبحاث تقليدا جديدا أفرز نصوصا وأسماء يرجع إليها نظرا لمكانتها العلمية؛ لقد أسست ذاكرة فكرية.
.....

نعم، لقد كنا نتساءل بخصوص مهنتنا ومدلولها وفائدتها وعلاقتها بالمجتمع؛ وكان كل واحد منا يجيب حسب طريقته وأحيانا بأسلوب خاص، في حين كانت المعرفة، على المسرح العالمي، تتجه، وبقوة متزايدة، نحو عالم جديد، هو عالم العلم التقني. (techno-science) فالحوار القديم القائم بين الفلسفة والعلوم الإنسانية قد حل محله حتما حوار آخر، حوار أصبح العلم التقني يفرض، بسرعة اختراعاته، سيطرته فيه (من الإعلاميات إلى الجراحة الوراثية مرورا بجميع المعارف العلمية الجديدة). إن مفهوم العلوم الإنسانية أصبح اليوم تغير.

هناك باحث كان يشتكي مؤخرا من قلة المراسلات بالجامعة المغربية. والسبب في ذلك هو أن حركة التبادل تمر حاليا عبر شبكات معلوماتية. إن الطريقة التي نعتمدها حاليا في تنظيم مناظراتنا أصبحت اليوم متجاوزة: أن نجري حوارا بيننا، هذا جيد، لكن التطور المتوازي للإنسان والآلة، يضعنا أمام أشكال وأنماط أخرى للاتصال؛ فلم يعد الباحث، في عالمنا اليوم، ذلك الإنسان الذي يهتم بالعقل والمفاهيم والخطاب والكتاب؛ إنه أصبح عقلا معلوماتيا، متصلا بالشبكات. لقد حلت محل المفاهيم التي تعتبر أساسا لكل فكر فلسفي، تأليف عناصره الحرف، والرقم والصورة والصوت. إننا نعيش حضارة العلامات البينية (civilisation de l’intersigne) التي أخذت تكتسي طابع العالمية وتقوم بتقسيم البشرية إلى مجموعتين مجموعة المنخرطين في النظام المعلومياتي ومجموعة المتخلفين معلوماتيا.

وينعكس هذا التباين على المستوى الفكري للجامعات؛ فجامعتنا تفتقر إلى ما يمكنها من الانصهار في هذه الحضارة الجديدة ومن مواكبة هذه الذاكرة في تطورها السريع. لقد حدث تصدع في هوية الباحث الثقافية والوطنية واللغوية والخيالية. ومن هنا أتت الصراعات الإيديولوجية التي تمزقها. لكن نحن، فمن نحن؟

وإذا تقدمت إليكم من جديد مؤكدا بأنني باحث مغربي، فإني أفترض إما أن تنحصر إنسانيتي في مغربيتي (التي تصبح بالنسبة لي علامة، علامة هوية)؛ وإما أن تعتبر مغربيتي كمفهوم وكتعبير عن العالمية، الشيء الذي يجعلني قريبا من أي إنسان، حيا كان أو ميتا، في كل زمان ومكان؛ وإما أن أحمل مغربيتي بصفتها تصورا دقيقا نسبيا، بصفتها صورة لما هو مفروض أن أكونه كأحد أعضاء المجموعة التي أنتمي إليها.

لنتابع. وإذا تقدمت إليكم أولا بكوني مسلما، يمكن أن يكون ذلك بصفتي وحدة دينية أو وارثا لرسالة عالمية. آنذاك سيتأرجح تحليل هويتي الدينية في اتجاه أو في آخر.

لو كنا نتوفر على وقت كاف، كنت تابعت هذا الحديث في شكل حوار هو من صميم الديمقراطية ومعرفة الآخر. ذلك أنه يجب، في الحوار، أن نبتدئ بالإقرار بأن محاورنا مصيب شيئا ما فيما يعبر عنه. وهكذا، فإن العقل يغتني ويقوم بإغناء المحاورين معا. وبينهما، يوجد مجال الحوار والمعرفة وممارسة الفكر والتسامح.

فهنا يكمن الدور النظري للفلسفة. إلا أنه يجب عليها أن تنفتح على العلوم الأخرى وأن تهتم بالثالوث المعرفي الذي يتمثل في العلم التقني والعلوم الإنسانية والفنون. فيمكنها آنذاك أن تكون بمثابة الفكر الذي يسهر على الحداثة كإبداع للمستقبل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى