محمد اليعقابي - بين الجابري وطرابيشي

المتتبع للحياة الثقافية في المغرب لا يفوته حضور الجابري في المقالات التعميمية في الصحف، والتي تشكل غالبا المصدر الوحيد للقارئ غير المختص. وغالب هذه المقالات تقريظية، رغم أن كثيرا من الباحثين المغاربة والعرب تحفظوا على كثير من أطروحات الجابري في مجال اختصاصهم، لكن هذا التحفظ بقي محصورا في المجال الضيق للاختصاصيين. فلم يصل للقارئ غير المختص صدى المفكرين الذين عارضوها، وأهمها كتب جورج طرابيشي التي لم تحظ بالتعميم الذي تستحقه بضرب من المراقبة الذاتية التي تهدف إلى الحفاظ على مكانة "بطلنا الوطني". وهو وضع قد يترتب عنه ترسيخ لقراءات متعسفة للتاريخ الفكري العربي الإسلامي بسبب الحضور الاعلامي الوازن للجابري.
وقبل التطرق لنقد طرابيشي، أود أن أتحدث على مرافقتي الفكرية للجابري. فكتلميذ درست في قسم الباكالوريا مقرر الفكر الإسلامي الذي شارك في تأليفه (باقي دروس الفلسفة كانت بالفرنسية وتم تعريبها في السنة الموالية 1972/1973). وكأستاذ للفلسفة كنت أستعين بالكتب المدرسية التي ألفها، وكانت ذات مسحة ماركسية. وكقارئ كنت اتتبع "حوار المشرق والمغرب" الذي جمعه بحسن حنفي على صفحات "اليوم السابع". وفي نفس الفترة أصدر كتابه "نحن والتراث" الذي أعجبت به كثيرا، والذي كان بداية مشروعه الضخم لنقد العقل العربي. وكمهتم بالفكر المغربي المعاصر قرأت جل مؤلفاته.
ورغم إعجابي العام بالمشروع لأنه كانت عندي ثقة مسبقة بالمؤلف، إلا أني كنت متحفظا على المنحى المعادي للصوفية وللفرس الذي يرشح من مؤلفاته. فموقفه من الصوفية لا يراعي خصوصية مقاربتها للمتعالي، والذي لا يقل مشروعية عن المقاربات الأخرى لأن موضوعها الاعتقاد، وليس هناك معيار للقول أنها اقل عقلانية من المسلمات الدينية بصفة عامة. أما موقفه من الفرس فتطبعه نزعة تبخيسية تجعله ينظر بعين الارتياب لكل ما يأتي من عندهم.
وحتى لو تغاضينا عن هذه المواقف - التي تنم عن موقف مسبق وجه قراءته، مناقضا بذلك القواعد المنهجية التي وعد باستعمالها في قراءته للتراث – يبقى أننا عندما ننتهي من قراءة كل كتبه نخرج بخلاصة أنه لم يتجاوز الرشدية. أي أنه لم يتجاوز سقف "فصل المقال" الذي جعل من الشريعة والحكمة طريقين للوصول للحقيقة الواحدة. ألا وهي الحقيقة الدينية في آخر المطاف وإن صبت في قالب أرسطي. وإذا كانت الحقيقة في الوحي، فما الداعي لسلوك طريق الفلسفة الملتوي للوصول للخلاصة نفسها؟ وهذا ما قد يفسر موقف ابن خلدون الذي لا يرى جدوى منها. وإذا أردنا تحديد موقع الجابري الرشدي ضمن المثلث الابستمولوجي: عرفان، بيان، برهان؛ يمكن أن نقول أنه لم يتجاوز البيان، لأن البرهان يقتضي مقدمات برهانية وليس بيانية، أي استقلال العقل وليس تبعيته للإشكالية الدينية. وفيما يتعلق بالحلول الراهنة، فكأن الجابري يقول لنا أنه يكفي تخليص الإسلام من الغنوصية الصوفية؛ والسياسة من تأثير "أخلاق الطاعة" ذات الأصول الفارسية حصرا، وكلاهما دخيلان على الإسلام كما يدعي، حتى تستقيم الأمور.
فالجابري، بعد طوره الماركسي، لا يحاور إشكاليات الفلسفة المعاصرة، وقارئه يدرك هذا من فقر المراجع الغربية في كتبه. والمطلع على الفكر المغربي المعاصر يلمس هذا عندما يقارنه بعبد الله العروي أو الحبابي أو الخطيبي، مثلا.
ورغم هذا التحفظ كانت عندي ثقة في قراءة الجابري للمفكرين والتيارات الذين ورد ذكرهم في كتبه، إلا أن هذه الثقة نفسها تزعزعت بعد قراءتي لنقد طرابيشي.
أما نظرتي لطرابيشي فبقيت لمدة طويلة حبيسة صورته في السبعينات عندما كان مترجما للأعمال الماركسية، وكأن جزر هذا التيار قد جرفه معه في ذهني. ومع كل الأسف لم أعد اكتشافه إلا مؤخرا عندما قرأت كتابه "نظرية العقل"، فسارعت لقراءة ثمانية كتب أخرى، لأكتشف أحد أكبر المفكرين العرب المعاصرين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى