عبد القادر رابحي - من التعرية إلى التفكيك، الستشراق الرقمي و نهاية الإيديولوجيات الوطنية - ( الجزء الثاني و الأخير)

.../...

-4-
هل يمكن لعاقل أن يشتري الحداثة بالاستسلام ؟ وهل لمتبصّرٍ أن يبيع التخلّف مع الأرض بثمن العيش فقط بسلام داخل ما أجاد 'جورج أورويل' توصيفه في'مزرعة الحيوانات'؟ وهل يمكن لمقايضٍ نبيهٍ أن ينظر بعقلانيةِ مَا يستوجبُه شرطُ الوجود ومصلحةُ الصيرورة، إلى الخسارة كما لو أنها ربحٌ، وإلى الهزيمة كما لو أنها انتصارٌ، وإلى الوهم كما لو أنه حقيقةٌ؟ وكيف تمكّن الغرب الأمريكي أن يستكمل، في غفلة من ديريدا وبإيعاز من إجرائه، أركانَ معركة تفكيك الشرق جغرافيًّا من خلال زرع قنبلة الكيان الصهيوني في قلبه النابض بتعدد الديانات وبروح التسامح حتى قبل أن تنتبه إليه العلمانيات المفرغة، على عكس ادعاءاتها، من قيمتها الإنسانية، ثم تفكيكه سياسيًّا من خلال تصفية الزّعامات المتبقيّة من عهد الدويلات الوطنيّة المعتزّة باستقلالها الشكلي، ثم تفكيكه إيديولوجيًّا من خلال محو المرجعيات وتقويض قدراتها الشاحنة للوعي الجمعي بما يطرحه العصر على الشعوب الشرقية من إشكالاتِ حريةِ وجود، ووحدةِ مصير، وعلاماتِ هوية، ومعالمِ طريق.
ربما كانت مرحلة تفكيك الإيديولوجيات الوطنية في الشرق هي آخر المهام وأخطرها على الإطلاق في أجندة الانتهاء من تحييد الجينات المتمردة في الجسد الشرقي العليل بما مكَّنتْ منه نظريّةُ 'الفوضى الخلاقة' من استدعاء مصيريٍّ لعناصرِ التفرقة المتروكة، منذ خروج الاستعمار، قنابلَ موقوتةً في الباحات الخلفية للتاريخ الثوري الذي طالما استعملته الدويلات الوطنية ورقةَ توتٍ بلاستيكية لتغطية ضعفها المنهجي في بناء أركان الدولة الوطنية السيدة بعدالتها وبحرية مصيرها. إنها المرحلة التي أرّقت مُنظِّري الهجمة الغربية الشرسة على الشرق المكتفي بلاءات الخرطوم الثلاثة التي كان يُشهِرها في وجه الأعداء التقليديين. وهي كذلك مرحلة من أعقد مراحل التفكيك تنفيذا على أرض الواقع الجغرافي والبشري للشرق، نظرا لما تتّسم به من حِيَلٍ رهيبة مكّنتْ الغرب، أخيرا، من كشفِ 'شيفرة' الشرق السرّية، والدخول بكلّ أريحية إلى الخدر السياسي للأنظمة التي تتشبّث بحكم الشعوب الشرقية ، وذلك بإشهار بطاقة برنامج ضرب الشرق بالشرق واستعمال مُفاعِل قوّتِه التي هي إيديولوجيته المختلفة بنيويًّا عن الإيديولوجية الكولونيالية في النظر إلى العالم وإلى مفاهيمه وقضاياه ومشكلاته التاريخية والحضارية، وذلك لأجل تصفية إيديولوجيته باختلاق أزمات العرق والهوية والجِهَة لتقويض فكرة وحدة المصير واستبدالها بفكرة العيش المشترك، ولزرع الهويات المصطنعة في قلب الذات الشرقية من خلال التأكيد على فكرة هيمنة الأقليات الساحقة، ولتقسيم المخيال الموحَّد جغرافيا ووجوديا وتاريخيا في ما سمّاه 'مالك بن نبي' بـــ'محور طنجة- جاكرتا' لأجل تجزئة الشرق إلى حوزات مذهبية وقرى إيديولوجية وعشوائيات جغرافية تسبح في 'مناطق الظل' على هامش الفعل الكوني بما هو اعتراف بمركزية التوغل الغربي في الذات الشرقية واختلاق مبررّات 'حوادث مروحة' كثيرة لإيجاد دواعي التأسيس لمفهوم 'الحق في التدخل' بدعوى حماية الشرط الإنساني، ثمّ التأسيس لمفهوم التعايش لتمرير أجندة التسامح كأداة إجرائية للقبول بالأمر الواقع، وذلك كلّه من خلال فرض الاعتراف بالكيان الصهيوني المزروع بقوة الواقع في قلب الأرض المقدسة كشرط ضروريٍّ للدخولِ إلى بيت الطاعة والذوبان في السّائل الإنسانويّ لمنظومة كونية خاضعة فلسفيا ووجوديا للأطروحات الكولونيالية في صورتها الاستشراقية الجديدة المدعومة بسطوة 'الرقمية' كسلاح إخضاع فتاك للشعوب المستعمرة سابقا.
لقد كان اختلاق أساطير الإرهاب عاملا حاسما في تطبيق عملية التفكيك المنهجي للذات الشرقية والاستيلاء على خدرها الفكري والفلسفي والإيديولوجي الذي عرّاه الاستشراق الفني في ما حملته كولونياليةُ القرن الثامن العشر من مبدأ تعريةِ الجسد الشرقي، وذلك عبر التسلّل إلى الثغور الهشة المتروكة لصفير الرياح الأربعة بفعل المعركة غير المتوازنة حول التحديث والتأصيل بين الرؤية البرغماتية الغربية والتصورات العاطفية للنّخب الشرقية طيلة ما يقارب القرنين من الزمن.
-5-
هل كان مجرّدَ صدفةٍ أن تسير أحداثُ التاريخ الكبرى، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، بهذه الخطيّة الدقيقة وبهذه المنهجية الصارمة؟ وهل من عادة التاريخ، الضليع بخرجاته غير المتوقعة وبمفاجآته المُزلزِلة، أن يقبل بالتخطيط لحركته، من وراء ظهره، وفق استعمالِ زمنٍ لا يعلم مآلاته؟ وكيف يصبح التاريخ لعبةً يتبادل فيها المخطِّطون الأدوارَ بحسب برامج الأحزابِ التي تصل إلى السلطة، ويواصلون تنفيذها كأنهم مبعوثون مكلفون بمهام دقيقة إلى جبهة الشرق المفتوحة على كل الاحتمالات من طرف قوى خفيّة تتحرك خلف الستار، ولا يعرف العالم وجهها الحقيقي؟
لم يكن ثمّة من أمرٍ متعلق بالمصير وبالحياة وبالوجود مجانيًّا في يوم من الأيام. ويبدو أن مصير الشرق ووجوده صارا متعلقين بجملة من المقايضات التي تتمّ بعيدا عن رأي الشعوب المستضعفة وعن موقفها من أنظمتها المستبدة التي نشأت على هامش ما حقّقه الزخم الثوري الذي دفع ثمنه الملايين من الشهداء خلال قرن كامل من النضالات والمكابدات التي انتهت ظاهريا بانتصار الدولة على القبيلة، وبغلبة السياق التاريخي على النسق المرجعي الذي حكم دكتاتوريات الدويلات الوطنية.
ولَإنْ كانت المعركة الأولى لتحرير الذات المستلبة من النسق الكولونيالي تتمثّل في افتكاك الحرية بدفع ضريبة الدماء درءا للعبودية، فإن ما تلاها من معارك وصراعات داخل البنيات السياسية الهشّة للدويلات الوطنية قد حجّم المعركة المصيرية للتحرير النهائي وحوّل استراتيجياتها إلى مجموعة من المقايضات غير المتكافئة التي انتهت بتصديق أكذوبة الأرض مقابل السلام في محاولة فاشلة لدرء الهزيمة، ثم بالقبول المُذِل لمهانة الغذاء مقابل النفط في محاولةٍ يائسة لدرء عار المجاعة، وأخيرا الخضوع الإجباري لخرافة الاستسلام مقابل التحديث، في محاولةٍ جبانةٍ لدرء معرّة التخلف. وفي كل هذه العورات الثلاث، كان التفكيك يأخذ مجراه بكل رفق داخل الوعي الجمعي للنخب السياسية والمثقفة المتلهية بمناقشة ما اصطلح عليه بمشاريع المجتمع في محاولة دمَقْرطَة ظاهرية أنيط فيها لهذه النخب دورُ التفريج عن مكبوتات ما تنتجه الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في الحياة الواقعية للشعوب، وذلك بالعودة إلى مناقشة مجمل الإشكاليات التي سبق لمثقفي عصر النهضة مناقشتها في بداية القرن التاسع عشر، وإعادة تدوير موضوعاتها المقتولة بحثًا بما راكمته من خطابات منزوعة الروح عن الحداثة والتخلف، والديننة والدنيوة، والعلمانية والدكتاتورية، والظلامية والتنوير وغيرها من الموضوعات المستهلكة التي عملت على تشتيت القوى الفكرية والثقافية الفاعلة، وزرع مفاهيم الخيبة واليأس والأطروحات الإقصائية والتوجهات الانفصالية والنزعات العرقية والقبلية والعشائرية داخل بيت الشرق وداخل مخياله الفكري والحضاري.
-6-
هل للمثقف الشرقيّ أن يقف مشدوها أمام 'رسالة' متنبئٍ مزيّف جديد اسمه يوفال نوح هراري، يحاول فيها محو كل الإرث الفكري لما اصطُلح على تسميته بدراسات ما بعد الكولونيالية، في كتاب/نبوءة يتناسى فيه مأساة الإنسان الفلسطيني في أرضه التاريخية،ويدعي اختصارَ ما يقارب العشرين ألف سنة من التاريخ البشري، لا مكان فيها ولا مكانة للإنسان الشرقيّ ولا لخصوصياته ولا لثقافته ولا لحضارته، غاضًّا الطرْفَ عن جرائم الكيان الصهيوني في حق الأطفال الفلسطينيين، ومبشرا بعوالم جديدة تنمحي فيها خصوصيات الذوات، وتتجلى فيها صورة 'الإنسان/الإله' في نسخته الرقمية المتحكم فيها عن بعد من طرف الفاعلين الإيديولوجيين والاقتصاديين بلوحاتٍ وشرائح الكترونية من صنع مخابر الشركات الأمريكية؟ وهل من ضرورة ملحّة لمعاودة الإصغاء إلى صرخات فرانز فانون، وتأملات مالك بن نبي وتوليدات هومي بابا، وتشريحات أدوارد سعيد؟ وهل يحق للشعوب الشرقية أن تيأس نهائيا من كل إمكانية للخروج من حجر الكولونيالية بكل أشكالها المتجدّدة إلى نور الحرية المشمس؟ أم أن هناك بريقَ أمل في بقيةٍ باقيةٍ من الأمل يفاجئ بها التاريخُ العنيدُ خصومه ومناصريه معا، ويعطي للشعوب الشرقية المستضعفة حق صناعة فرصة الانبعاث من رحم المعاناة لتعيد عقارب الساعة الكونية إلى دورانها في الفلك الشرقي، كما كانت في أزمنة سابقة، بما يبعثه فيها التاريخ من علامات الطريق الواثقة، وإرادة الفعل النافذ، وعزيمة انتصار الإنسان الشرقي على هزائمه المتتالية، وتحويل خيباته إلى فتوحات معرفية بخوض معركة التحرّر النهائي من عوالق الجهل والأمية والتخلف والتبعية والاستبداد؟


سعيدة في: 13/12/2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى