عثمان صالح - الدَرس الأخير..

في سنواتِ الغُربة، في السعودية ..
منتصف عام 2005م...
احتفلنا، مجموعةُ الشبابِ الأصدقاءِ السودانيين في المدينةِ، بصديقنا الموظف البنكي المرموق (النزير) محبة منا له وسعادةً عظيمةً بتعديلِ عقودِ عملِهم في البنك الأكبر بالبلاد والترفيع الوظيفي له والترقيةِ والتعديلِ الراتبي الكبير الذي ناله، والحوافزِ والفروقات المالية الكبيرة جداً التي صُرِفت له بأثر رجعي، دفعةً واحدةً، رافعةً إياه مقاماً مالياً ـ بلغ فيه مصافي الثراء بيننا هناك وبين الأهل في السودان ـ مثلما قد وصفناه في بحرِ التندرِ والأنس البهيج معه في ذلك اليوم الجميل ...
أسبوعين بعد ذاك، تحرك (النزير) مع صديقين آخرين لنا بسيارتِهِ الفخمةِ (الجديدةِ) لأداء العُمرة ...
إجتمعنا، مجموعة الأصدقاء، في بيته العامر في قصيرِ أنسٍ لطيف ووداعٍ ودود لهم، وانطلقوا بعد وقتٍ قليلٍ من ذاك مغادرين في دعابةٍ وضحكٍ ولطيفِ أمنيات منا لهم ...
صُعِقنا مُزَلزَلين بعد ساعاتٍ قليلةِ من انطلاقهم بالخبر الأليم بتعرضِ ركبِهم لحادثٍ مروريٍّ مروِّع ومدمّر في الطريق، تحطّمت على إثرِه السيارةُ الجديدة وتوفي فيه أحدُ المرافقين له ونجى الآخر، وأصيب هو بكسرٍ خطيرٍ في العنقِ وقطعٍ في نخاعِهِ الشوكي، وأعيد إلي المدينة مَشلولاً مَحمولاً في وضعٍ حرج جداً مُسعَفاً في أحد مستشفياتها الكبيرة ...
تزامن وصولُ سيارةِ الإسعافِ التي حمَلَته مع وصولي المستشفي ....
تَقدّمتُ مُسرعاً، مفجوعاً، مقترباً من "النقالةِ" التي حُمل عليها هامدا مشلولاً مدفوعاً لداخل المستشفي بين حياةٍ وموت ..
مزَّق قلبي صوتُه الباكي المخنوقُ وهو، في نصف وعيٍ، داميٍ، ينادي جاهداً طالباً إيانا معشر الأصدقاء بأسمائنا المختلفةِ في تألمٍ وحزنٍ، وفزعٍ كبيرٍ ربما (آآآه .. أنا عايز حسين .. أنا عايز حسين يا ناس .. وين عثمان؟ .. جيبوا ليّا عثمان يا ناس .. وين فيصل؟ .. وين عُمَر ... وين .... آآآه...
وقفتُ قريباً منه، في لحظةِ انتظارِ بجوارِ المِصعدِ، فميَّز على الفور وجهي وصاح مرهقاً متأوهاً من فرط الحزنِ والألمِ (آآآه يا عثمان .. أنا خلاص إنتهيت يا عُثمان .. الدنيا ما قروش يا عثمان .. آآآآآه ... الدنيا ما قروش ... إنتو فرحانين ليّا قبل كم يوم بالقروش الكثيرة الجاتني وأهو دا أنا إتشليت إتشليت خلاص يا عثمان ويمكن أموت .. ما تفرحوا بالقروش .. ما تفرحوا بالقروش يا عثمان .. الزول ما بيعرف بكره قدامه شنو يا عثمان .. آآه ... آآآه ... آآآآآه) وأندفعت به "النقّالة" في ذاتِ التأوّهِ الأليمِ الحزين ذاك لجوفِ المِصعدِ فضمّهُ المِصعدُ مع دافِعي النقّالةِ صارِمي الوجوهِ المُتعجِّلين مُغلِقاً بابَه السميكَ بِوجهي .. وكان ذاك آخِر صَوتٍ مِنه وآخِر كلماتٍ سَمِعَتها مِنه أذناي ... عليهِ رحمةُ الله.
..
عثمان ..


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى