عثمان صالح - ذكريات ... (هنود السعودية في تركيا)

في سنوات اغترابي الأول في السعودية،
في التسعينيات ...
وانا ذلك الشاب (الوجيه
😀
) النضر صاحب الشعر السبيبي الغزير الأسود المنسدل بجانبي رأسي.. تفاجأت في البدايات.. وسعدت جداً فيما بعد تلك البدايات بأن السودانيين جميعا هناك والكثيرين غيرهم كانوا ينظرون لي ويتعاملون معي في الوهلةِ الأولى علي الأقل علي أساس إني (هندي)! ..
وما كانوا غلطانين، وكنت اعذرهم كل صباح واضحك عميقاً في سري حين أُسرِح شعري الناعم أمام المرآة قبل خروجي للعمل!! ..
أسعدني ذلك الخلط بين سودانيتي وهنديتي كثيرا، وظلت سعادتي تلك تكبر يوماً بعد يوم وانا استمتع جداً (بلعب الدور) فوراً في كل مره وايهام من يقعوا في حبائلي منهم بأني هندي حقاً وحقيقةً، مختلقاً بذلك المواقف الفكاهية المضحكة لي ولهم بعد كشفي الحقيقة أمامهم وبعد توريطهم في جملةٍ من الأقوالِ والأفعالِ المضحكةِ غالباً، والمُخجلةِ والمُحرِجةِ لهم لحدٍ كبيرٍ أحياناً!! ..
ما كان الأمر صعباً بالنسبة لي للعب دور (الهندي) .. هزتين خفيفتين للرأس يمنةً ويساراً مع ابتسامةٍ باهتةٍ للحظةٍ ثم كلمتين باردتين هادئتين من شاكلة (انا مافي معلوم سديق) أو (انت مُمكن في كلام إنقلش سديق، انا في مُمكن معلوم) فيتيقن مُحدثي - إن كان لديه شكٌ اصلاً - من ان هذا الذي أمامه هندي (غبيان، من ناقش حاجه) ويسترسل بعد ذاك في القول والفعل كيفما يراه مناسباً مع هذا المسكين!! ...
كثيرةٌ هي المواقف والطرائف التي وَقعتُ وأوقَعتُ فيها أحبتي السودانيين هناك في هذا الجانب...
دخلتُ يوماً متجراً واسعاً لبيع الاحذية بسوق البطحاء في مدينة الرياض، مرتدياً البنطلون وال "تي شيرت" الانيقين، ساكباً شعري السبيبي المُسدل بجانبي وجهي، و"قاشراً" بمركوب "الأصلَه" السوداني اللامع اسفل البنطلون، قاصداً شراء حذاءٍ لنفسي ..
أثناء تجولي وتفحصي الأحذيةِ المعروضة، دخل المعرضَ شابان سودانيان أملحان مُهندمان، لم يشك أياً منهما للحظةٍ في هويتي الهندية التي بدت جليةٌ لهما فمدَّ أحدهما يَدهُ نحو حذاءٍ بعينِهِ سائلاً إياي بنبرةٍ غليظةٍ وقد تيقن اني الهندي البائعِ بالمحل (بكم ريال هادا الشبشب يااااا سديق؟؟)....
تفجرت البهجة في الحالِ بقلبي وانا أغتنم الفرصةَ علي الفور وأضمِر في دواخلي "السوء البين" لهما وأجبته ماكراً وفي جديةٍ وهدوءٍ لم يُبقيا شكاً لديه (سديق، هاذا شبشب أنا مافي يبيع اليوم، انت لازم في يشوف شبشب تاني سديق)...
غرز عينيه المحدقتين حيرةً بوجهي للحظةً، ثم التفت سائلاً رفيقه الآخر في هدوء (سامع صاحبك "الهناي" ده بيقول في شنو؟) فرد ذاك عليه بغمزةِ عينٍ وقولٍ مختصر (سيبك مِنّو ده هندي طيره ساكت) فرد عليه صاحبنا بنبرة غضب هادئة (طيره ساكت شنو يا زول؟ في زول بيعرض حاجه ويقول دي الليله ما للبيع؟!.. امشاك لي هناك نشوف تاني عنده شنو.. ولو واصل "المنتشه" حقتُه دي انا حأورّيهُ الله واحد الليله)..
همهما معاً متقدمان نحو بقية الأحذية داخل المتجر قليلِ الرواد في تلك اللحظاتَ فتبعتهما ملاصقاً لهما كما يفعل البائعون تماماً مع الزبائن موهماً إياهما اكثر وأكثر انني الهندي البائع ..
سحب ذات الشاب (شبشباً) آخراً قد اختاره بعنايةٍ من أحد الرفوف والتفت نحوي عابساً مُمسكاً بالشبشب في يده وسائلاً إياي بغلظةٍ أشد من تلك (أها يا سديق.. سِبنا داك، ورينا ده بي كم؟؟؟)
لم اتبسم وانا ارد عليه بذات المكر والبرود والهدوء (سوري سوري سديق!!، هاذا شبشب كمان انا اليوم مافي يبيع.. ممكن انت في يشوف شبشب تاني جوه هناك سديق)!
اشتعل الغضب بركانا بجوفه ..
جحظت عيناه وانفجر صائحاً في وجهي (هووويا سديق يا رمه انت.. انت سديق "هناي" ول شنو؟؟؟.. شنو كلما نسألك من شبشب شابك لينا ده ما للبيع ده ما للبيع؟!!.. انت قاصد شنو معانا بالضبط كده الليله؟!) واقترب مني مع ذاك ماداً كفه العريض نحو عنقي مُقَطِّباً جَبينَهُ بشكل افزعني حقاً، فانفجرتُ بضحكةٍ صارخةٍ مجلجلةٍ اربكَتهُما معاً للحظةّ، تلتها لحظةٌ أخرى زدتُ فيها من إرباكهما وانا ازيح قبضةَ كفِه الغليظةِ عن عنقي بيد هادئةٍ وأشير بالأخري نحو مركوبِ "الاصلة" السوداني في قدميّ مهدئا إياه وعارضا عليه شرائه بقولي الهادئ له (صَبُر سديق صَبُر سديق.. سديق هاذا مركوب بس اليوم انا ممكن في يبيع.. لو انت يبغي يشتري هاذا أنا ممكن هاذا في يبيع سديق.. مافي مشكل سديق، مافي مشكل سديق)..
صُدِم الشابان معاً صدمةً اسكتتهما تماماً وقد بين لهما "المركوبُ" جزءا من الحقيقة عني...
وقفا مذهولان ينظران إليٌّ ملياً للحظةٍ، ثم اختلطت في وجهيهما نفخة الغضبِ مع الرغبةِ في الضحكِ معاً للحظةٍ أخرى، ثم انفجرنا بعد لحظةٍ معاً ضحكاً واحتضاناً متمماً بتعابيرِ تحيةٍ مني لهما بسودانيتي "الأصلية الفصحى" التي أكدت لهما المقلب الكبير الذي اوقعتهما فيه ...
مرت لحظاتٌ علينا في ذاتِ وقوفِنا الضاحكِ بوسطِ المتجرِ وكلاهما غير مصدقٍ الأمر ينظر تارةً نحو وجهي وتارةً أخري نحو مركوب الاصلة الذي في قدميّ ...
ضحك أحدهما عالياً وهو يقول لي مع انصرافي من المتجر (يا زول والله إلا اكّان تلبس مركوبك السمح ده في يدينك وترفعهم لي فوووق وانت ماشي حتى بعد داك يعرفوك سوداني)!! ..
ثم افترقنا ضاحكين ....
..
وفي موقفٍ آخر ....
وانا عائدٌ نهار يومٍ من العمل، مهندماً في ملبسي الرسمي - بنطلوناً وبدلةً وكرفتةً - وأنيقاً في نعومة شعري السبيبي الأسود المُرسل بجانبي وجهي، دخلت بسيارتي لمجمعِ وِرشٍ لصيانةِ السيارات بمنطقة "أم الحمام" في مدينة الرياض، لغرض صغير لدىّ ..
اغلب العاملين في تلك الورش من احبتي السودانيين..
اوقفت سيارتي في مسافةٍ أمام إحدي الورش وترجلتُ منها متوجهاً لداخل الورشة...
أبصرت أمامي في مدخل الورشة شابين سودانيين في "زي الأبرول" الداكن وقد حشرا رأسيهما تحت "كبوت" سيارةٍ انهمكا معاً في صيانةٍ ما بجوفها ...
اقتربت منهما قليلا...
التفت احدهما نحوي، فابتسمت رافعا كفي بالتحية السودانية الودودة بقولي لهما (شباب، كيف؟، ان شاء الله اموركم ظابطه؟)..
رمقني الشاب بنظرةٍ صامتةٍ ملؤها التهكم ثم قال لي ماطا كلماته الساخرة مني (بالله!!! ... و دي اتعلمتها وين كمان يا سديق؟؟!.. قال إن شاء اموركم ظابه قال!! هههه) ...
رقص قلبي طرباً وبهجةً علي الفور وأنا اتأمل صيدي الثمين أمامي، فتراجعت في الحالِ عن "سودانيتي" العامية وقلت له هازاً رأسي يمنة ويساراً قليلا (انا هادا كلام في معلوم في سوق ساااد قشره، سديق) وأنا اقصد (تعلمتها في سوق سعد قشره) بالخرطوم بحري..
لم يتبين حقيقتي وقال لي بمزيد من التهكم وممطوط الكلام (بالله!!!!.. وكمان وصلوك المرحلة المتقدمة دي يا سديق؟؟.. بقيت تعرف سعد قشره كمان؟!.. والله باين عليك انت هندي تفتيحه عدييل كده!!.. تعال.. تعال نقزقز بيك شويه اصلو الحر ده نشف لينا ريقنا)! ..
ضحِك رفيقُه ضحكةً خافتةً في جواره واتبعها بسمةً ساخرةً عريضةً وهو يتأمل وجهي ملياً مع اقترابي منهما ..
تقدمت إليهما باسماً فوضع الذي يحدثني معدات المفاتيح التي بيده بجانبٍ فوق العربة والتفت باسماً نحوي يسأل (كدي تعال ورينا يا سديق.. تعال ورينا بتعرف شنو تاني في السودان؟)..
ضحكتُ سراً للفكرة الخبيثة التي دارت حينها بخلدي وقلت له (سديق إنت دحين في كلام حر مرَّه شديد.. إنت لازم في يجيب قارورة بيبسي "فاميلي سايز" انت وانا وهاذا سديق تاني في شراب سوا سوا، بعدين في كلام إيش سودان.. انا سودان كووولو في معلوم)! ...
ضحك معجباً "بفهلوة" هذا الهندي العجيب وقال لي (سديق لو إنت في كلام عشرين مكان في الخرطوم انا يجيب بيبسي نشرب سوا سوا، لو إنت مافي معلوم عشرين مكان في خرطوم إنت يجيب بيبسي) فرقصتُ طرباً في الدواخل، وقبلت التحدي علي الفور ورحت أُعدد (أول، شمبات انا في معلوم سديق)، فضحك، وضحك رفيقه.. (تاني، صهافة انا في معلوم سديق)، فضحكا معا اكثر متعجبان ..
تجمع، لضحكنا ذاك معاً عدد من الشباب المكانيكية السودانيين من الورش المجاورة، حولنا، معجبون بهذا الهندي "التفتيحه" كما راحوا يرددون ...
واصلتُ عد أحياءِ العاصمة الخرطوم لهم في تأنِ وهزِ رأس صرت أجيده تماماً مع الأيام وهم مُصغون ليّ في كامل حيرةٍ وتعجب لأمري، لا يساورهم أدنى شك في هنديتي التامة وأنا أعدد لهم بصوتي الهادئ (دروشاب في معلوم سديق.. كلاكلة في معلوم سديق.. مزاد في معلوم سديق.. سوبا في معلوم سديق.. ملازمين معلوم سديق.. بانت معلوم سديق، ..... معلوم سديق، ..... معلوم سديق، .... معلوم سديق) حتي بلغت العشرين حيا وزدتُ عليها من عندي أسماءَ مدنٍ أخرى وأسماءَ أحياءٍ "غميسة" في مدنٍ بعيدةٍ مختلفةٍ أخرى.....
بلغ الانبهار لديهم حداً بعيداً، وانهمرت بعد ذلك عليّ الأسئلة المضحكة منهم، وفيها ما يُكتَب وما لا يُكتَب!، وتدفقت ردودي عليها وعليهم بلسانٍ هنديٍ مُبين حتي وصلتْ قارورة البيبسي كولا "فاميلي سايز" الباردة من محل "التموينات" القريب، فشربوا جميعاً نخب السعادة مع الهندي "التفتيحة" الذي يعرف عن السودان كمن وُلِد وتربي فيه دون ان يراه ..
تواصل الأنس بيننا حتى حانت لحظة كشف المستور كما قد تخيرتها، فحولتُ عندها لساني للسودانية "الفصحى" في غمرة ذات الأنس معهم لكنهم، وبدلاً من ان ينتبهوا لأمري، تعجبوا أكثر وأكثر ظناً منهم انني ابالغ في إتقان العامية السودانية ..
استغرق الأمر وقتاً معي لإقناعهم بسودانيتي، ولم يصدقني احدٌ منهم حتي أخرجت لهم دفتر تصريح الاقامة من محفظتي ....
ذُهلوا جميعاً وهم يطّلِعون عليه.. وغرقنا بعد ذاك معاً في موجة ضحكٍ عميقٍ وبهجةٍ عظيمةٍ، ثم افترقنا.. واظنهم لازالوا متشككين في أمري حتى اليوم.
استرجِع ذكرياتي البهيجة هذي اليوم وأنا موغلٌ في "بعدي الثالث"، أو في غربتي الثالثة" هنا في تركيا ..
الاتراك بطبيعتهم كما قد لاحظت طيبون خلوقون، لا يسألونك ولا يهتمون كثيرا بجنسيتك..
لكنني سَمعتُ سؤالاً لي مكرراً مرتين حتي الآن من إثنين من الأجانب في تركيا (انت صومالي؟)
وربنا يستر هههه
..
عثمان صالح
فبراير ٢٠٢١م



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى