أحمد كفافى - رمضانيات (2) الصوفية اليوم

ليس من العجيب أن تشهد الصوفية موجة عارمة من الإحياء..فالعديد من المطربين من جنسيات مختلفة يؤدون أناشيد صوفية باللغة الإنجليزية أو بالإنجليزية مدموجة بعدة لغات أخرى. تجتذب الاحتفالات الصوفية المزيد من السائحين كل يوم لبلاد كمصروتركيا. وبدلا من تجنيبها كجزء غير مرغوب فيه من التراث، ترى الأجيال الجديدة تتبناها بكثير من اللهفة و الحماس. فى تقرير لإحدى القنوات الفضائية عبر بعض النساء التركيات عن رغبتهن لأول مرة فى التاريخ فى أن يصبحن ( دارويش) وسط كثير من الاعتراض والرفض.
ربما تعد الصوفية التيار الروحى الوحيد الذى حاز على مصداقية عند الغرب خلال العقود الماضية، فاليوم يوجد هناك العديد من المدارس والطوائف وشيوخ الصوفية الذين يدرسون طرقهم الخاصة بهم.. وقد جاء ذلك كرد فعل للعديد من الذين لجأوا إلى الصوفيه بحثا عن منابع روحية جديدة. تمخضت القراءة فى إحياء الصوفية عن سؤال المفكرين عن سر إختيار الصوفية بالذات كمنبع روحى! وما هو مستقبلها فى احتواء المادية الغربية وخلق نوع من التقارب بين الشرق والغرب؟؟
تبقى الصوفية اليوم واحدة من أهم صفحات الإرث الروحى المرتبط بعالم حديث يخيفة ما أصاب التراث الثقافى والدينى بفعل التقدم التكنولوجى. وبالرغم من حالة الصدام بين غرب أعطى الأولوية للقيم المادية وشرق ما يزال يسعى لدعم الرؤية الدينية لكثير من القضايا والظواهر الحديثة،لا يعى البعض أن الصوفية قد تبرز كعامل موحد يمكنه أن يخلق انسجاما نسبيا بين تلك القوى المتناحرة..فهى التيار الوحيد الذى أخفق كل من الناحيتين أن يتجاهله كلية...
فلعدة قرون انتشرت الصوفية انتشارا كبيرا فى الممارسات الروحية بين الهند والصين وذاع صيتها كفرع من فروع الإرث الروحى للإسلام، ولأن هذا الإرث هو الذى بقى حيا إلى يومنا هذا، فلقد أصبح نافذة يطل منها الغرب على التقاليد الصوفية الإسلامية. لكن لم الصوفية؟
قراءة سريعة فى تاريخ الصوفية قد تمنحنا الجواب...فلقد ارتبط انتشارها فى فترات عديدة بالأزمات والكوارث وكانت السبيل الوحيد للخلاص. لقد بلغت الممارسات الصوفية أوجها فى القرن السادس عشر بعد اكتشاف طريق (رأس الرجاء الصالح) والذى حول طرق التجارة من مصر وسوريا إلى الطريق البحرى حول القرن الإفريقى، فحُرمت تلك البلاد من عوائد الرسوم التى كانت تُفرض على القوافل مقابل المرور فى أراضيها.عم الفقر وسادت البطالة من جراء هذا التحول، فظهرت الصوفية كشكل من أشكال الهروب شجعه الأتراك العثمانيون ببناء زوايا خاصة لشيوخ المتصوفة و تشييد التكايا التى تخدم المريدين والفقراء.
منذ ذلك الحين نشأ صدام بين الفقهاء وشيوخ الطرق بسبب اختلاف الروىء..فلقد رأى الفقهاء أن الطبيعة المتسامية للتجربة الصوفية ببعدها عن الواقع قد تؤثر بالسلب على عامة المسلمين...علاوة على تحولها لملجأ للمدعيين وأداة نصب للطامعين فى الشهرة والمال.. فالحكام والتجاروالعامة كان يغدقون العطايا على التكايا ما ساعد فى تفشى هذا النوع من الفساد... كما خشى الفقهاء أن تتسرب عن طريقها معتقدات غريبة إلى الإسلام نظرا لتفاعلها مع التيارات الصوفية لأديان أخرى.
لا تزال تلك الصدامات حية حتى يومنا هذا.. ما جعل الصوفية تتأرجح بين فترات من الازدهار والانحساروتحظى بتشجيع محدود...فالملتزمون من المسلمين يرون أن الإسلام فى حد ذاته هو نوع من التصوف يدفع المسلم إلى زهد ملذات الحياة والتعبد من خلال الصلاة و الصوم وقراءة القرآن والتأمل فى ملكوت الخالق..ولذا فإن العديد من المسلمين الأوائل كانوا بحق متصوفة قبل ظهور التصوف كتيارمستقل بوقت طويل.
لكن عندما راجت الصوفية فى العالم الإسلامى على أيدى الأتراك السلاجقة الذين حكموا غرب بلاد فارس بين القرنين الثانى عشر والثالث عشر. هناك إزدهرت الصوفية وتوطدت دعائمها بأشكال من الموسيقى والشعر والرقص والأدب والتى لا تزال تلهم المسلمين وغير المسلمين..ويبقى تأثيرها واضحا جليا فى مدينة قونية التركية..مسقط رأس جلال الدين الرومى ــ المتصوف الفارسى الشهير. لكن هل ينجذب الغرب للصوفية بسبب الفنون والآداب التى ارتبطت بها؟
مثلما راجت الصوفية فى الشرق بسبب تحول طرق التجارة، فإن عوامل مشابهة حولت أنظار الغرب إليها كانأهمها إندلاع حربين عالميتن دمرتا الأخضر واليابس وغيرتا وجه أوروبا فى خلال ثلاثين عاما. كانت تلك الحروب صدام دموى مخيف استهدف القوة والمكاسب المادية فى مجتمعات كانت قد همشت القيم الروحية فأصبح سبر غور عقائد الشرق وأديانه جزءا من العودة إلى تلك القيم. كانت الصوفية مؤهلة أكثر من غيرها كأداة لتلك العودة نظرا لخلوها من القيود العقائدية لغرب متقدم يقدس الحرية. لكن كيف تطور التيار الصوفى فى الغرب؟
لقد قام الغرب بصهر الإرث الصوفى للشرق كله..فقد كان كل تيار صوفى يمارس بمعزل عن التيار الآخر، وبهذا الدمج للتيارات الصوفية نشأ التقليد الصوفى الغربى الذى يولى اهتماما خاصا لشيوخ الطرق الذين تواجدوا فى إنجلترا قبل وبعد الحرب العالمية الثانية لإحداث هذا التحول.
ورغم كل تلك التطورات يتشكك المسلمون فى الشكل الغربى للتصوف، لكن لا يستطيع الأجانب أن يصبحوا شيوخ متصوفة أو حتى متصوفة عاديين لأن التصوف الإسلامى هو بلاشك جزء لا يتجزأ من الإسلام..غير أن الجانب الثقافى من التصوف الإسلامى لا يزال يجتذبهم لأنه بكل بساطة غير موجود فى الشكل الغربى للتصوف.
يفترض أن تلعب الصوفية دورا هاما فى ظل انتشار قيم العولمة المادية...من جانبهم يدعو المسلمون إلى التمسك بالدين لدرء التأثير السلبى لقيم السوق الحر...أما الغرب فجاء رد فعله بصورة علمية.. فلقد أثبتت البحوث المرتبطة بالطاقة والفضاء وجود عوالم أخرى وراء عالمنا المادى..هنا تبرز الصوفية كواحدة من الطرق الرئيسية لفهم هذه العوالم فى وقت فقد عالمنا المادى معناه وراح البشر يتطلعون إلى اكتشاف وجود جديد.
نعيش اليوم أياما صعابا..جائحة مفترسة تحصد الأرواح والاقتصاد..الوباء يفتك ببقاع شتى من العالم..التحدى اليوم ليس حربا أومجاعة أو سعى لاستعادة القيم الروحية..إنه عدو خفى اجتاح البشرية بأجمعها..فهل تعود الصوفية سيرتها الأولى؟

1 ماي 2021


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى