سعيد بوخليط - مجتمع الفرجة والاستعراض : الزيف العظيم

''مأساة عصرنا كون البلاهة تفكر''(جان كوكتو)
"من يملك الصورة يملك البلاد''(ريجيس دوبري)



يمثل تعبيرا الفرجة و الاستعراضي؛ مثلما جرى عليه التداول، المقابل العربي للمصطلح الفرنسي''spectacle''،منذ إصدار السوسيولوجي الفرنسي غي ديبور كتابه الشهير : "la société du spectacle"،ساعيا عبر أطروحاته رصد مواطن أفخاخ بناءات مجتمع الصورة وامتدادات أذرعها السرطانية المتمثلة في الوسائط الإعلامية، كمرحلة قائمة بذاتها انتهى إليها التاريخ المعاصر، ارتباطا بتطورات سابقة تبعا لسياقات سوسيو-اقتصادية ومنظومات قيمية،أخذت تسمياتها بناء على النظام المعرفي العام الذي يحدد التوجه والأفق، سواء:المجتمع الزراعي، الصناعي، مابعد الصناعي، الحداثي، مابعد الحداثي، الاستعراضي، السيبرنطيقي، الشبكي، المبرمَج…
تحدد المجتمع الاستعراضي/الفرجوي سمات عدة،بلغت في وقتنا الراهن أبعادا متطرفة جدا،مقارنة مع فترة الستينات التي صاغ خلالها جي ديبور، رؤاه النقدية :
تعميم الصورة، تقديس الوهم، تراجع الحقيقي لصالح الافتراضي؛بحيث يصبح الوهم حقيقة بينما الواقع مجرد تمثل لتمثيل لاينتهي، وَهْم السعادة، لانهائية الحاجة وتعطشها الزائف، المثيرات المشروطة على طريقة التحريض البيولوجي لايفان بافلوف مثير/ استجابة، التسيُّد التوتاليتاري لماكينة إعلامية رهيبة توجه بمكر المجتمع برمته نحو أهداف استهلاكية هشة؛ لاتتراجع البتة في سبيل اختزال ماهية الفرد المثالية إلى مجرد سلعة مادية رخيصة؛ خاضعة لمعايير السوق حسب أرباح وخسائر ما يدره نتاج العرض والطلب، خلق وبث نماذج مشوَّهة ثم الارتقاء بها صوب وجهة تكريسها بمثابة حقائق مثلى ومعقولة، الاحتفال بالمظهر؛ أولا وأخيرا، تعميم دوافع جشع الاستهلاك، وضع الفرد ضمن إطار كونه فقط حصيلة صورة مصطنعة تستجيب لأهواء الآخرين؛ يتم إعدادها وإخراجها لإرضاء ما يريده "الذوق العام''…
هي خصائص يحكمها خيط ناظم ومفصلي، تبعا لمحددات مجتمع الفرجة؛ حيث الفرد رائيا ومرئيا، مشاهدا ومتفرجا، اكتسحته بلا مرفأ أمان موجات متدفقة من الصور تتكفل بإنتاج وفبركة الجاهز الافتراضي؛ الذي يأخذ قسرا صيغة واقع ملموس حقيقي. لذلك، فالفرجة ليست ديكورا للتأثيث الخارجي، لكنها تمثل حقا جوهر عدم واقعية المنظومة المجتمعية التي ترسخت سورياليا باعتبارها حقيقة نهائية؛ نتيجة المفعول السحري المنساب كأبخرة الكهنة، للإعلام والدعاية والإشهار وصناعة الرأي،لأن مجتمع الفرجة قَلَبَ بالمطلق ماهية الإنسان، وكأننا مباشرة حيال تجلي تكهنات استشرفها الفيلسوف فيورباخ منذ القرن التاسع عشرة بين طيات مقدمة كتابه ''جوهر المسيجية''، حينما حدس مايلي: "لاشك أن عصرنا يفضل الصورة على الشيء، النسخة على الأصل، التمثيل على الواقع، المظهر على الوجود. وماهو مقدس بالنسبة له، ليس سوى الوهم، أما ماهو مدنس فهو الحقيقة''.
هكذا، انتقلنا راديكاليا صوب نسق مفاهيم مغاير لبداهات التأويل التي صاغت مبررات الأفق الإنساني طيلة عقود خلت، لم تعد اليوم تنزاح عن موجهات الزيف المتمثلة في هيمنة الافتراضي/السبيرنطيقي بكل تفاصيل سطوته الرهيبة، وتسليع الوعي بتنميطه أحاديا من خلال جذبه نحو وجهات تحولات مشوهة؛ إلا أن يبقى أصلا وعيا إنسانيا سليما، جعلنا تحت رحمة سياق فرجوي أقرب إلى تراجيديا الكوميديا السوداء،حيث الأفراد مجرد صورة استعراضية لنسب المشاهدة أفرزتها وصفات صالونات التجميل،يتم صنعها بكيفية سينمائية حسب رغبات الآخر، بإخراج جيد أو سيئ؛حسب قدرات العارض ومواهبه على مستوى الإثارة.
النتيجة، تلاشي بل انمحاء كيان الذات وخصوصية الفرد الأصيلة،لصالح سلع مفبركة تجاريا قصد ولوج سوق تنافس العروض بالرهان على مظاهر ليست لنا بتاتا، أو على حد تعبير جان بودريار : ''التظاهر بامتلاك ما لا نملك''.
لقد صار واقعنا الراهن، متاهة سلسلة حلزونية متداخلة جدا قوامها وسائطية الصور، يدرك الفرد من خلالها وفي إطارها ثم بالاستناد عليها، ذاته والآخر والعالم، بينما اختفت بكل بساطة متعة الحياة الحقة؛ البسيطة والعميقة، تلك الجديرة بجعل الإنسان دائما متصالحا مع طبيعته، كما هي، دون سيكوباتية مآل الزيف العظيم الذي تحول معه كل شيء إلى جحيم حقيقي.بهذا الخصوص، تبقى أهم معركة فردية تقع على عاتق كل واحد،تلك المتمثلة في مدى صموده، محافظا على آدميته،بأن يظل إنسانا وسط دوامة مجتمع الزيف.إنها، القضية الوجودية المصيرية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى