د. عبد القادر رابحي - الأدب الجزائري المكتوب بالعربية، أية مكانة!

[ربما كان من الواجب العلمي البسيط التدقيق أولا في مصداقية بعض التصورات التي تحولت مع الوقت إلى مسلمات ثابتة في المخيال الثقافي الجزائري يعود إليها المثقفون في كل مرة يرون فيها لزوم اتخاذها مطية لتثبيت المسلمات في الحقل الثقافي الهش ، أو تقية للتغطية على حقيقة مناقضة لهذه المسلمات التي تكاد تكون مستهلكة لفرط الاستعمال لولا أن إشكالية اللغة كما تُمارسُ في الواقع الألسني الجزائري تعطيها في كل مناسبة حيويةً للظهور كمسلمات لا يمكن تمحيصها والتحقق من صدقيتها بدقة.
ذلك أن ربط إشكالية الأدب الجزائري في عمومه باللغة كما هي في الواقع، ثم التفصيل فيه من خلال تقسيمه إلى أدب مكتوب بالعربية وآخر مكتوب بالفرنسية، ثم تبضيع المحمولات الثقافية لهذين الأدبين وفقا للمسارات الألسنية للغتين العربية والفرنسية، فيه كثير من التغطية على حقيقة ما يعانيه الأدب الجزائري من حالة تشظ بما يختزنه تاريخه المجروح من تأوهات ومن كدمات هي كامنة في بواطنه حتى لتكاد نصوصُه بمختلف أشكالها ولغاتها تستغيث من شدّة ما تتحمله من تهجير لحقيقته محتواه الأصلي أولا، و من توطين لحقائق خارجة عنه لأنها لم تكن من صلبه ولا تزال. إذ كيف يمكن أن نتصور أدبا جزائريا مكتوب بلغة غير جزائرية؟ و كيف يمكن أن نبني على تصور خاطئ أصلا مسلمات من ضمنها أن هناك أدبين يُكتب أحدهما بلغة عربية ويُكتب الآخر بلغة المستعمر؟ وكيف يمكن لهذه الإزدواجية الطارئة تاريخيا و حضاريا على الجغرافيا البشرية أن تترسخ في المخيال الثقافي أولا مرفودة بترسيخها في الواقع الأدبي على الرغم من تقهقرها التدريجي في الواقع الألسني؟ وكيف يمكن، من ثمة، أن نبني على هذه المسلّمة حكما بجدارة المقروئية بغلة المستعمر على المقروئية باللغة العربية؟
ثمة مشكلة عويصة تعتري الهوية الألسنية للمثقفين والكتاب في الجزائر، والتي أنتجت بدورها هوية أدبية متشظية يبدو أن ليس لها مثيل تقريبا في كل الدول التي تعرضت للاستعمار من طرف فرنسا . كيف يمكننا تصوّر أن الجزائر بلد لا تزال تتعايش فيه لغة الشعب، أي لغة ما قبل المستعمر مع لغة المستعمر الطارئة بصفة حميمية إلى درجة إنتاج أدبين بلغتين مختلفتين؟ وكيف صارت تنتج كل واحدة منهما أدبها الخاص بها، ومن ثمة قراءها الخاصين الذين يسارعون إلى نصرة لغة أدبائهم الذين يكتبون باللغة التي يتكلمونها. وهل يبقى لنا، بعد كل هذا، إلا نتبع سلّم المبيعات للتأكد من أحقية أحداهما على الأخرى بادعاء الأولوية وإنْ بالمبيعات الكبيرة للأقلية الألسنية الساحقة ؟ وإذا ما حاولنا أن نضيف إلى هذه 'الفذلكة' حدة و مبررات سنذهب إلى القول إن المشكلة وما فيها تتعدى الطابع الأدبي المكتوب باللغة إلى تناسي اللغات الأصلية للمجتمع الجزائري، وأن ترسيخ لغة المستعمر في الواقع الألسني إنما يتم على حساب الأغلبية الألسنية المسحوقة أولا، وعلى حساب اللغات الأصلية للمجتمع الجزائري ثانيا. فكيف يمكننا أن نتصور، والحال هذه، أن ثمة أدباء جزائريين لا يزالون يكتبون أدبا بلغة المستعمر وهم من جيل الاستقلال ؟ وكيف تحول المبرر التاريخي للأجيال الأولى من الأدباء الجزائريين الذين عاشوا المستعمر وتعلموا في مدارسه من "غنيمة حرب" بتعبير كاتب ياسين إلى "غربة داخل لغة الأخر" بتعبير مالك حداد؟ هل الكتابة بلغة المستعمر هي الطريق الوحيدة المعبدة التي تمكن من الوصول إلى عالمية متوهمة أو جوائزية يصبح بموجبها حجمُ المبيعات دليلا على عالمية راسخة و على تكريس أبديّ في بوتيون الثقافة العالمبة؟
ربما عكست هذه الإشكالية، بما تحمله وتتحمله من أثقال حضارية وتبعات إيديولوجية، نوعا من الفصام التاريخي الذي يسكن حقيقة الواقع الألسني للأدباء الجزائريين بعيدا عن الموضوعات التي بإمكانها ألا تعكس تماما الواقع الجزائري بما تطرحه من قضايا عالمية كما يحدث الآن مع كتاب جزائريين عديدين؟
كيف يمكن للاعب كرة قدم متسرب مدرسيا لا يتجاوز مستواه البكالوريا في أحسن الأحوال أن يصل إلى تعلم لغة الفريق الذي تحول للعب له في سنتين أو ثلاث على الأكثر، بينما يبقى المثقف الجزائري المتنور العارف العالم الذي لم يغادر موطنه الأصلي وهو يرفع حجة عدم قدرته على تعلم لغته كسبب للإصرار على الكتابة بلغة أخرى غير لغته؟ هل هذا معقول ومنطقي؟ ربما كان من الواجب البحث عن بعض شذرات للإجابة عن هذه الأسئلة في الدوافع التي جعلت كاتبا كبيرا كرشيد بوجدرة يتحول فجأة، وفي لحظة وعي جديرة بالتحليل والتأمل،إلى الكتابة بالعربية، والبحث عنها كذلك في المبررات التي جعلت كاتبا كمحمد مول السهول يبرر اختياره للكتابة باللغة الفرنسية بسبب نفوره من معلم اللغة العربية. ربما يتضح لنا من هذا لماذا يحقق ما يسمى بالأدب الجزائري المكتوب بالعربية نجاحات في ما تحيل إليه لغته من مجال حضاري لا يتعدّاه، و لماذا يحقق ما يسمى بالأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية نجاحات في ما تحيل إليه لغته من مجال حضاري لا يتعدّاه ! ]


د. عبد القادر رابحي



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى