أياد خضير الشمري - الجريمة والعقاب.. معاناة إنسانيّة بين صراع العقل وظلامية المجتمع الطبقي

عندما تقرأ أعمال دوستوفيسكي تتلذّذُ بالقراءة وتحسَّ بنشوة عارمة تسري في الجسد ، الجريمة والعقاب التي تدور أحداثها في أزقّة "بطرسبورغ " الأزقة القذرة والبيوت الضيقة وسط معاناة سكانها ، فالبيوت التي يعيش فيها أبطال الرواية مثل "راسكولنيكوف وصوفيا " ضيقة ، مكتظّة ، معتمة ، تقع في أحياء مزدحمة بالسكّان عندما تجاورهم تلمسُ التنافرَ والتباعد ، لا توجد عندهم روحُ التقارب ، تجدُ الإنسان يحسُّ بالوحدة بين الآخرين ، كلّها عواملٌ دفعتْ بل شجّعت على قتل المرابية فالقاتل "راسكولينكوف " يسكن في غرفة ضيقة لا يملك النقود ،لا يستطيع تسديد إيجار غرفته عندما ذهب إلى قتل المرابية كان متعجّباً بمدى الخوف الذي يشعر به خشية الالتقاء بالدائنين عند خروجه إلى الشارع علماً أنّه رجل قانوني أحبَّ صوفيا الفتاة التي تبيع جسدها مقابلَ المال الذي تحتاجه ، ولأنّه لا يملك المال قام بقتل المرابية وأخذَ نقودها ومجوهراتها وبدأ ينفقها على عشيقته .. الدافع الآخر للجريمة عندما شاهد صانع السكاكين في دكانه المواجه لغرفته ونظر إلى سكين طويل أحسّ بالاندفاع للقيام بجريمته ، توقّف قليلاً وقال : ( إذا توقّف العقل تصرّف الشيطان ) بطل الرواية "راسكولنيكوف " أحسَّ بعد مقتل المرابية بتأنيب الضمير يمزّقُ دواخله إضافة إلى الحيرة والقلق الذي سيطر على تصرفاته .. تجسّدتْ أحداث الرواية بالفنِّ الذي رسم ملامح الأحداث بالوصف الدقيق الساخن للأحداث ، فالفنّ في روسيا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأدب والاهتمام الذي يبديه فنّانو الرسم الروسي تجاه "دوستوفيسكي " له مبرراته يقول دوستوفسكي : ( إنّ العمل الأدبي يسجّل التاريخ الكامل للمشاعر أمّا الفنون التصويرية فترسم لحظة مفردة ) فتجدَ رسومات الجريمة والعقاب للفنان "ديمتري شمارينوف " قد لاقت تقدّماً هاماً في مجال التفسير البصري لشخصيات دوستوفيسكي وقد اِعْتبرَ هذا الرسّام عمله الأساس خلق صورة عن البطل الأدبي يقول شمارينوف : (( إنّنا نجدُ في تاريخ الرسم التوضيحي السوفيتي للكتب أمثلةً على الطرق المتعدّدة لرسم صورة البطل الأدبي ، والطريقة الشائعة هي التصوير النصفي للشخصية وأنا أعتبرُ أنّ الشخص الذي يظهر في عمل دراماتيكي يكون مرتبطاً بالنص وبالوسط الاجتماعي بشكل أوثق لذلك فإنّي في إعمالي أقدّم صورة أشخاص منهمكين في نشاط يمثّلهم أفضل تمثيل ، مثال ذلك صورة مقرضة المال وهي يبدو عليها الخوف من فتح الباب والإطلاع من خلال شقّ ضيق ، وصورة راسكولنيكوف وهو في غرفته الضيقة الشبيهة بالقبر بسقفها المنخفض وصورة سونيا بملابسها الحزينة وهي تدخل غرفة والده المشرف على الموت والشمعة في يدها حيث تقابل راسكولنيكوف )) يتضح من هذا القول أنّ الرسام يترجم الرواية ومعاناة الأشخاص والمكان والبيئة من خلال الرسوم التي توضّح ما يدور في الرواية أو القصّة ، لابدّ لنا من ذكر اسم " دفني شماريتوف " الذي صمم في الثلاثينات من القرن العشرين رسومات الجريمة والعقاب وأكثر هذه الرسومات تأثيراً باحة المنزل الذي عاشت فيه مقرضة المال ، إضافة إلى الرسوم في التعبير عن حركة وواقع الرواية ، فلقد جسّد المسرح رواية الجريمة والعقاب كعمل مسرحي على خشبة مسرح (أنيليه) في فرنسا عندما بادر الفنان المبدع (بارسال) عرض هذه المسرحية الذي نجح عرضها نجاحاً كبيراً و كتبت الصحافة الفرنسية الشيء الكثير عنها ، لقد استطاع (بارسال) أن يحتفظَ بجوهر فكرة دوستوفسكي في تحليله النفسي لأعماق راسكولينكوف وبقية أبطال الرواية مؤكّداً على معاناة البطل نتيجة الجريمة التي قام بها وانفصاله عن المجتمع الإنساني وغربته فيه ، ثمّ الحادثة الكبيرة في نهاية الرواية والتي تجسّدت أيضاً في العمل المسرحي برجوع راسكولينكوف إلى أحضان المجتمع الإنساني من خلال اعترافه بالجريمة ، تجدُ المشاهد لهذه المسرحية أنّه يحسّ بالعرض الهزلي الروسي الخاص على خشبة المسرح ؛أناس يبكون ويُضحِكون بعضهم البعض بآنٍ واحد منهم، يكرهون بعضهم البعض ويقهقهون وكلّ هذا تجده في خمس دقائق لا أكثر ، ويقولون بأنّ دوستوفسكي كاتب حزين أمّا (ساغان) الفرنسي يقول: ( أمّا أنا الذي شاهد المسرحية على مسرح أنيليه فأجدُ فيها عناصر المرح) من هذه الزاوية المهمة يبحث الفنانون عن طرق جديدة لتلافي التعقيدات التي ينطوي عليها رسم الأعمال الأدبيه وبخاصة أعمال دوستوفيسكي ومن هؤلاء "مارك كلانشكوفي " في رسوماته الصغيرة ( حلم الرجل المضحك ) المرسومة بالمداد "وفيتا لي جورياف " في رسومه المعبّرة (للأبله) والمرسومة بقلم الرصاص و"أرنست بنزفنسي " في رسوماته للجريمة والعقاب والتي تقوم على الرمزية المجرّدة ، راسكولينكوف يقتل ، يقوم بجريمة رهيبة تظلّ تعذبه ، تسلب منه الراحة والهدوء ولا تجد في تصرفاته ما يشبه سلوك الذين يقومون بعدّة جرائم ولا يعانون منها شيئاً بل تجدهم يتعطشون للدماء بعيداً عن الإنسانية ، يقتلون ويسرقون ولا يخافون لأنّهم معدمو الضمير ، قلوبهم قاسية يتجاوزون على النساء والأطفال ، القتل عندهم هواية يمارسونها وقت ما يشاءون دون رادع ، أمّا راسكولنيكوف فإنّه يتيه في شوارع بطرسبورغ ويمارس كلّ شيء عدا التفاهة لأنّ تأنيب الضمير يمزّق أحشاءه بالإضافة إلى الأزمات النفسية والقلق الذي هزّ كيانه وقاده في النهاية إلى الاعتراف بجريمته أمام المحقّق .


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى