د. يوسف حطيني - الهُويّة السرديّة للقصّة القصيرة جداً

ثمّةَ تساؤلٌ يطرحه المشكّكون باستقلالية القصة القصيرة جداً[1] (بوصفها نوعاً أدبياً داخل جنس السرد) حول الفروق الجوهرية التي تجعل منه فنّاً مستقلاً، ما دام يشترك مع فنون السرد الأخرى (وخاصة القصة القصيرة) في كثير من الأركان، ويستخدم التقنياتِ ذاتها، ليمنح الحكاياتِ دلالاتِها المرجوّة.

سنبدأ من التأكيد أنّ نقاط الاشتراك بين الأنواع الأدبية، لا تنفي استقلالية أحدها عن الآخر، فالرواية تشترك في كثير من صفاتها مع القصة القصيرة، إلا أنّ لكلّ منهما حدوداً فاصلة تميّزه من الآخر، ولعلّي هنا أزعم أن الفارق بينهما يشبه الفارق بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً، وربما كان التمييز بين النوعين الأخيرين أكثر بروزاً.

فإذا وقفنا أمام السؤال الذي يثير لغطاً كبيراً: كم يبلغ طول أقصر قصة قصيرة جداً؟

اعتماداً على ما يقوله السرديّون لا يبدو الأمر معضلة كبيرة، فأقصر قصة ينبغي أن تتألف من واقعتين، والواقعة (Event) تتجلى من خلال تعبير سردي يظهر حدثاً ما (مثل: غادر العصفور قفصه)، وإذا افترضنا أنّ هذه الواقعة هي بداية قصة قصيرة جداً، فنحن بحاجة إلى واقعة أخرى، أي تعبير سردي آخر، على الأقل، لننشئ أصغر حكاية ممكنة، تقود فيها الواقعة الأولى السردَ صعوداً نحو الذروة، في حين تقوده الواقعة الثانية نحو نهاية تسعى إلى إحداث مفاجأة (Surprise) تعمّق الإحساس بدلالة النص.

ولا نعتقد أنّ قصةً قصيرة جداً يمكن أن تكون أقصر من ذلك.. اللهم إلا إذا خطر للمبدعين الذين ينشغلون بكسر قواعد النقد، أن يضعوا عنواناً ما يقوم بتأزيم الحالة، ليقودوها من ثم نحو الحل، عبر واقعة واحدة.

وفي مقابل السؤال السابق، يمكن أن يُثار سؤال آخر:

إلى أي حدّ يمكن أن تطول؟ وكم واقعة تحتمل؟

نعتقد أّنّ القصة القصيرة جداً يمكن أن تحتمل واقعتين أو ثلاثاً أو أربعاً..... أو عشراً، مع ضرورة الاكتفاء بوحدة نصية واحدة (Lexia)، قد تطول قليلاً، ولكنها تكوّن أصغر مِساحة حِكائية، تمكن فيها ملاحظة الدلالة.

وإنّ أقصر قصة، من وجهة نظر السرد، يجب ألا تتخلى عن حكايتها، وأدوارها الأساسية في مستوى البنية العميقة، ويجب أن تمكّن الناقد من تتبع مسارات تلك الأدوار، إذ إنّ في كل حكاية (رواية، قصة قصيرة، مسرحية، قصة قصيرة جداً، دراما تلفزيونية، أسطورة، ملحمة ...... إلخ) تظهر أدوارٌ اجتهد السرديون (خاصة سوريو وغريماس وبروب) في تتبّعها. فإذا انطلقنا من غريماس الذي يتحدث عن نظرية العوامل (Actants) وجدناه يشير إلى ستة تمثّلات لتلك الأدوار:

1 ـ الذات التي تتطلع لتحقيق هدفها.

2 ـ الهدف الذي تسعى الذات إلى تحقيقه.

3 ـ مرسل الذات في تحقيق مطلبها نحو الهدف.

4 ـ متلقّي الهدف الذي تسعى الذات لامتلاكه.

5 ـ المعين الذي يقدّم المساعدة للذات.

6 ـ الخصم الذي يسعى أن يعوّق الذات عن تحقيق الهدف.

ومن هنا فإنّ أي إنشاء لغوي لا يفرز مثل هذه الأدوار، التي تتشابه بين السرديين الثلاثة وتختلف بأسمائها فقط[2]، لا يمكن أن يعدّ سرداً.

ويشار هنا إلى أنّ الفنون السردية المختلفة يمكن أن تقيم تبادلاً بين بعض هذه الأدوار، فالخصم مثلاً، يمكن في فيلم سينمائي أن يتحوّل إلى معين، بل إنّ المتلقي قد يظنّ أنّ شخصية ما تقوم بدور المعين، ليكتشف (بسبب معلومات تخفيها المادة السردية)، أن تلك الشخصية كانت من ألدّ أعداء البطل.

وفي المقابل، فإنّ السرد يحتمل أيضاً أن تقوم عدة شخصيات بدور واحد من هذه الأدوار، وإذا كان بإمكاننا أن نتحدث في بعض النصوص عن بطل جمعي، فإننا يمكن أن نتحدث عن بطل جمعي مضاد (خصم جمعي) نجد كثيراً من تمثلاته في القصة القصيرة جداً.

ومن المناسب أن نشير هنا إلى أنّ تبادل الأدوار الذي يمكن أن تقوم به الشخصية (بين المعين والخصم مثلاً) يندر أن يحدث في القصة القصيرة جداً التي تمتاز بقدرة فائقة على تمويه الأدوار المشار إليها، معتمدةً في ذلك التمويه على السياق النصي، وتقدّم للقارئ الذكي نصوصاً تجعل البحث عن تلك الأدوار أمراً ممتعاً، وهذا لا يعني بالطبع أن تقدّم نصوصاً مغلقة يدّعي أصحابها جهل القارئ وغباءه، ويغلقون بذلك قناة مهمة تعطّل عملية الاتصال بينهما.

فالقصة القصيرة جداً هي نص يفترض التواصل، ويفترض أن يحقق جميع العوامل المؤلفة له، وهي حسب ما اقترح ياكبسون ستة عوامل: المرسِل، والمرسَل إليه، والرسالة، والشفرة، والسياق، والصلة التي تسمح بعملية الاتصال، فيما اختصرها غيره في ثلاثة عناصر (المرسل والمرسَل إليه والرسالة)، ولا نريد أن نتتبع الفرق بين التقسيمين؛ إذ يبدو لنا شكلياً، وتبدو لنا عناصر الأول متضمّنة في الثاني. غير أنّ ما يشغلنا هنا هو الرسالة، في ظل وجود المرسِل والمرسَل إليه، وتوفر الطرق المختلفة (الورقية والإلكترونية) لتحقيق الصلة بينهما، فالرسالة في بعض القصص القصيرة جداً لا تصل للمتلقي، بسبب غموضها من وجهة نظر المتلقي، وبسبب جهل المتلقي من وجهة نظر منتجها، ويبدو ضمان وصول الرسالة مرهوناً بالأمرين معاً، إذ يفترض بالمتلقي أن يسعى إلى رفع سويته وذائقته، ويفترض بمنتج النص ألا يقدّم نصوصاً مغلقة بلا مفاتيح يستند إليها المتلقي، من أجل أن يجني ثمرة الدلالة.

* * *

ويقوم السرد، كما هو معروف، من أجل صناعة الحكاية على مستوى البنية السطحية بالاعتماد على نوعين من الوظائف: الوظيفة الجذرية (Cardinal Function) التي تشكّل دعامة ضرورية من دعائم البنية العميقة، ويقوّض الاستغناء عنها منطق السببية في الحكاية، وفي مقابل ذلك تقوم بوظيفة طليقة (Free Function) لا يؤدي حذفها إلى خلخلة منطق السببية، على الرغم من قيامها بمهامّ متعددة على صعيد بناء الإطار الزمني والمكاني، وإضاءة بعض جوانب الشخصيات، وغير ذلك.

وإذا كانت تلك الأحداث الثانوية ذات ضرورة بنائية ودلالية كبرى في أنواع السرد المختلفة، فإنها تبدو عبئاً على القصة القصيرة جداً الذي يكتفي عادة (أو يجب أن يفعل ذلك) بالوظائف الجذرية.

وربما يشبه هذا الفرقُ بين القصة القصيرة جداً وأنواع السرد الأخرى الفرقَ الذي يقيمه النحويون العرب بين العمدة والفضلة في الجملة، فالعمدة (المسند والمسند إليه كالفعل والفاعل، والمبتدأ والخبر) لا يمكن الاستغناء عنها، والمفعول به والحال وأمثالهما فضلة يمكن الاستغناء عنها، مع بقاء الكلام مفيداً، دون أن يعني هذا تجريد الفضلة من وظيفتها الدلالية.

فإذا سألتني أيهما أوضح دلالة قولنا: (جاء زيد) أم (جاء زيد راكضاً)؟ فسأقول لك دون تردد: إن الثانية أوضح من الأولى. أمّا إذا سألتني أيهما أكثر إثارة؟ فسأقول عندها: إن الأولى أكثر إثارة لأنها تحتمل أن يجيء زيداً راكضاً أو متعباً أو ضاحكاً أو غير ذلك. وبالتالي فإنّ الوظائف الجذرية التي لا تستغني عنها القصة القصيرة جداً تصبح أكثر إثارة حين يذكرها القاص بعيداً عن السمات الطليقة التي توضّح الدلالة، وهذا ما يمنح الدلالة تعدداً وغنى، وها هنا نستطيع أن نفهم قول النفّري: "كلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤية"، وهو قول يستشهد به معظم المتحمّسين لهذا الفن، دون أن يدركوا مراميه.

من هنا فإن ما نسميه في أنواع السرد الأخرى مادة الحكي الثانوية (Mitadiegetic) [حيث يمكن تقديم سرد مطمور (Embedded Narratve) في سرد الحكاية الرئيسة] لن تحتاجه القصة القصيرة جداً، ذلك أنّ أي تداخل (Mitalepsis) ناتج عن تمازج مادتين حكائيتين (أو أكثر) أو تقاطعهما، أو توازيهما، سيؤثر سلباً على وحدة النص، وعلى وحدة الأثر التي تسعى القصة القصيرة جداً إلى ترسيخها، وبناءً عليه لا يمكننا الحديث فيها عن عقدة ثانوية (Subplot) تتزامن مع عقدة القصة وتخضع لها، كما هو الشأن في تلك الأنواع، ولا يمكن أن نتحدث عن قصة قصيرة جداً مركبة (Compound Story)، لأنها لا تقبل الربط، بين سردين (أو أكثر) عن طريق التناوب أو التقاطع أو التوازي، وهذا فرق جوهري بين حكايتها التي تتجه سهمياً نحو النهاية، وحكايات أنواع السرد الأخرى التي تستثمر تقنيات مختلفة للوصول إليها.

* * *

إن التكثيف الذي يعدّ، حسب جميع المنظرين، ركناً أساسياً من أركان القصة القصيرة[3] هو تكثيف بنيوي، لأنه ناتج من نواتج البنية التي تنأى عن تداخل الحكايات، وهو بهذا يختلف عن التكثيف اللغوي والشعوري الذي نجده في القصة القصيرة، ويفترض انعكاسات تتجسد على مستوى البنية العميقة.

يفترض التكثيف أن تلجأ القصة القصيرة جداً إلى التعميم من خلال بعض الظواهر، ومن أبرز تلك الظواهر الابتعاد عن تسمية الشخصيات التي تقوم بالوظائف الأساسية للحكي، وتقديم الشخصية النموذج التي ترتبط في ذهن القارئ بمجموعة من سمات يختصرها السرد، والاعتماد على البنية اللازمنية للسرد (AchronicStructure)، ويخيّل إلي أن لهذا التعميم ما يسوّغه؛ إذ يمارس قدرة كبيرة في تعدد الدلالات الذي يبحث عن القاص ضمن تلك المساحة النصية.

فإذا انتقلناإلى الحكاية في ظل التكثيف وجدنا، إضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه، أنّ بدايتها تتجنب ما يعرف في السرد بالتهئية (Advance Mention)، وهي تعني أن يزرع السارد بذوراً سردية، لا تظهر أهميتها في حينه، دون أن يلمّح إطلاقاً إلى ما سيحدث، وفي لحظة يختارها بعناية تبرز أهمية تلك البذور التي يجني القارئ دلالتها، إذ يندر أن نجد مثل هذه التهيئة في القصة القصيرة جداً، لأن البنية السهمية للحدث لا تتيح ذلك، فإذا وُجِدت بشكل ما في مطلع القصة ترتّب على القاص أن يستثمرها في سرد لا يتأخر كثيراً، ومن المحتمل جداً أن يعتمد عليها الكاتب في صناعة المفارقة[4] ليُنتج لحظة التنوير.

وأمّا الصراع (Conflict) الذي تخوضه الشخصيات في القصة القصيرة جداً، فهو غالباً ما يكون ضد قدر أو وسط اجتماعي أو ظرف سياسي سائد، وفي مثل هذه الحالات يفيد القاص من وضع عام، ليس بحاجة إلى تعريف القارئ به، وهذا ما يمنح قصته مزيداً من التكثيف.

وتبدو مهمة القاص في ربط عناصر الحبكة شديدةَ الدقة، فالمساحة الطباعية الصغيرة التي تشغلها القصة القصيرة جداً تكشف العيوب بسرعة، حيث يبدو كلّ ناشز مكشوفاً، وحيث يظهر افتقار الحدث لمنطق السببية(Causality) واضحاً أمام المتلقي، وهذا ما يمكن أن يفقد القصة سمتها الجوهرية، لأنّ السببية كما يرى السرديون هي المحرك الأقوى للسردية.

* * *

وعندما نقول إنّ الوحدة النصيّة شرط من شروط القصة القصيرة جداً يواجهنا من يقول: إنها شرط كل عمل أدبي، وهو يقصد الوحدة العضوية التي أفاض كولريدج في شرحها، بينما تشير الوحدة النصية إلى أصغر مساحة حكائية ذات دلالة، وهذا ناتج من نواتج التكثيف.

وعندما تتم الإشارة إلى فعلية الجملة، فالمعنيّ هنا استثمار طاقة الفعل من أجل إنتاج الحدث، وتجنّب كلّ وصف غير سردي، تحفل به أنواع السرد الأخرى؛ لأنّ الوصف (Description) يقوم على عرض الأشياء والكائنات في وجودها المكاني عوضاً عن الزماني، ولا يفيد من ذلك العرض في تقديم الواقعة أو تطوير الحدث، وهذا كثير في الرواية، وممكن في القصة القصيرة، فهو يخلق توتراً في سرعة الحدث، ويمنح القارئ استراحة سردية. غير أن مثل هذه الاستراحة لا يقبلها فن القصة القصيرة جداً. وإذا لم ينتبه القاص إلى ضرورة التخلص من عبء الوصف، أو اختصاره إلى أقصى مدى ممكن، فإنه سيقدّم نصّاً مثقلاً بتفاصيل لا يحتملها هذا الفن الأدبي.

ولا يبدو الحوار في القصة القصيرة جداً بعيداً عن تأثير التكثيف، فهو يختلف من حيث الشكل والوظيفة عنه في القصة القصيرة والرواية. إنّه يتخذ، بصفة عامة، طابع الحوار المفاجئ (AbrubtiveDialogue) الذي لا يكون مصحوباً بلاحقة وصفية، ويسعى إلى التخلص قدر الإمكان من عبء تبادل الأفعال القولية، وصفات المتحدّثين.

* * *

نضع أنفسنا أخيراً أمام سؤال لا بد منه:

هل يكفي أن يلتزم الكاتب بجميع عناصر القصة القصيرة جداً، لإنتاج قصة ناجحة؟

بالطبع لا؛ لأن العمل الأدبي أكبر بكثير من مجموع مكوّناته، ولأنّ كيمياء الإبداع ليست وصفة تباع في الصيدليات.

[1] تمكن مراجعة الفصل المسمّى "استقلالية القصة القصيرة جداً" من كتابنا:

ـ د. يوسف حطيني: دراسات في القصة القصيرة جداً، الناظور، المغرب، 2014.

[2]هذه الأدوار هي عند سوريو على الترتيب (الأسد، الشمس، الميزان، الأرض، القمر، المريخ)، وهي عند بروب (البطل، الشخص المرغوب فيه، الباعث، المانح، الوغد).

[3] نرىأنّ أركان القصة القصيرة هي: التكثيف، والوحدة النصيّة، والحكائية، وفعلية الجملة، والمفارقة، وتمكن مراجعة الفصل المسمى (نظرية القصة القصيرة جداً) في كتابنا:

د. يوسف حطيني: القصة القصيرة جداً بين النظرية والتطبيق، دار اليازجي، دمشق، 2004.

[4] تمكن مراجعة مقالتنا: صناعة المفارقة في القصة القصيرة جداً المنشورة في مجلة الرافد (الشارقة)، العدد 192 (أغسطس)، 2013.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى