د. زياد العوف - قراءة في نصوص "جسدٌ واحدٌ وألفُ حافّة" للشاعرة السوريّة/ الكنديّة جاكلين سلام

منذ حوالي الربع قرن اتّخذت الشاعرة والمترجمة والصحفية السورية جاكلين سلام من مدينة ( تورنتو ) في كندا مستقرّاً وموطناً لها..فتفاعلتْ مع بيئتها الجغرافية والاجتماعية والثقافية الجديدة بكلّ ما لديها من عزيمة وإرادة وثقافة وموهبة وطموح ، فشاركت بفاعلية واقتدار في الحياة الثقافية والصحفية في المغترَب الكنديّ ، فقدّمت بذلك مثالاً يحتذى للأدبية السورية المنفتّحة على الثقافات المعاصرة والمتفاعلة معها.
على أنّ احترافها الترجمة ، فضلاً عن نشاطها الأدبي والصحفي المتميِّز ، قد سمح لها ، ليس فقط بمواكبة الأنشطة الأدبية والثقافية العالمية الحديثة ، بل أيضاً ، بالتواصل مع مواطنيها السوريين والعرب والتفاعل معهم والاهتمام بشؤونهم ، بما يتيحه ويتطلّبه عملها بوصفها مترجِمةً محلَّفة.
أصدرت شاعرتنا عدداً من المجموعات الشعرية ، نذكرٌ منها:
- المحبرةُ أنثى .
- رقصٌ مشتبَهٌ به .
- كريستال .
- خريف يذرف أوراق التوت .
- جسدٌ واحدٌ وألفُ حافّة .
وكما هو واضح من عنوان هذا المقال فإنّ اهتمامنا يتوجّه هنا إلى مجموعتها " جسدٌ واحدٌ وألفُ حافّة " الصادرة عامَ ( ٢٠١٦م ) .
إنّ أوّل ما يلفت الانتباه في هذه المجموعة الشعرية إنّما هو تقديمها الوارد في صفحة الغلاف الداخلية بوصفها (نصوصاً أدبية) ، لا شعرية !
ويمكن فهم ذلك ، فيما أرى ، من خلال سعي الشاعرة إلى تفادي الجدل المتوقع حول هويّة هذه النصوص ؛ إذ إنّها تنتمي إلى ما بات يُعرَف على نحوٍ واسع بقصيدة النثر ، وهو عنوان إشكاليّ في حدّ ذاته ؛ إذ يرتبط الشعر في الذائقة العربية بالوزن والقافية ؛ أي بالموسيقا بمعناها الواسع.
ولعلّه من المناسب ، قبل البدء بتناول بعض نصوص الشاعرة ، أن أجملَ القول في موضوع قصيدة النثر ، وهو ما عرضتُه بشيء من التفصيل في عدد من الدراسات والمقالات المنشورة ذات الصِّلة.
فأقول :
- إنّ التطوّر سنّةٌ كونية تطال الحياة بشتّى عناصرها ، ومنها الفنون والآداب . على أنّ هذا التطوّر يجب أنْ يستندَ إلى بعض الأسس والمعايير ، وإلّا تحوّل الأمر إلى فوضى لا ضابط لها ؛ ما يسمحُ للأدعياء والمتطفّلين بالولوج إلى عالم الإبداع دون امتلاك المؤهلات الفنية والفكرية المطلوبة لذلك .
- يؤكّد التاريخ الأدبي إمكان تعايش عدد من المذاهب الإبداعية والنقدية في زمن واحد في ظلّ " مرحلة انتقالية " تتمّ بعدها الغَلَبةُ لاتّجاه دون آخر ، ولكنْ إلى حين ؛ ذلك أن عجلة التغيير لا تتوقّف عن الدوران.
- إنّ مفهوم " الحداثة " الذي يعني ، في جملة ما يعني ، فهم روح العصر والتفاعل معه واستلهام قضاياه وتمثّلها ، ومن ثَمَّ تمثيلها والتعبير عنها فكرياً وفنياً هو الدافع وراء الفنون الإبداعية والنظريات الفكرية والنقدية الجديدة على اختلافها.
انطلاقاً من ذلك كلّه فإني أرى أنّه من الممكن التأكيد على العناصر التالية بوصفها محدّدات جوهرية للإبداع الشعريّ :
١- المضمون الشعريّ الممتزج بعاطفة الشاعر وإحساسه والصادر عن وجدانه ومَلَكاته النفسية الخاصّة بالشعر ؛ ذلك أنّ الشعر يخاطب الوجدان طمعاً في التأثير في مشاعر المتلقّي لكسب تعاطفه مع المضمون الشعريّ .
٢- الأسلوب الشعري المتمثّل في عدد من العناصر ، لعلّ من أبرزها حسن اختيار الألفاظ المعبِّرة وصوغها في نسق أسلوبيّ مؤثِّر يعتمد التصوير البياني المعزّز بالخيال الشعري.
٣- الموسيقا بمعناها العام والواسع ؛ إذ لا يتوقف الأمر على الموسيقا التقليدية التي توفّرها بحور الشعر الخليليّ ، ولا الإيقاعات المستمدّة من شعر التفعيلة ، بل يمكن تجاوز ذلك إلى أنماط موسيقية أخرى تتطلّبها الحداثة الشعرية فنياً وفكرياً ، وهنا مناط التجديد والإبداع.
هذه مجرّد عناصر مساعدة -وقد لا تكون ملزِمة - على تلمّس الشعرية في النصوص التي تتبنّى الهويّة الشعرية.
نعود إلى نصوص مجموعة " جسدٌ واحدٌ وألفُ حافّة " * فيطرق سمعنا وحواسنا هذا العنوان الغنيّ المشحون بالدلالات العديدة المنفتحة على معانٍ حسيّة يوفّرها ( الجسد ) بكل تداعياته الغريزية ، فضلاً عن حافّاته الألف ، دون أن نَغْفلَ عن رائعتنا التراثية " ألف ليلة وليلة " مع كلّ حمولتها الفنية والجمالية ، بل والشبقية ، التي تعيد إلى الذاكرة هذه العلاقة الأزلية الملتبسة بين ( شهريار وشهرزاد ) ومن ثَمَّ بين آدم حوّاء.
تنطوي المجموعة على أربعة فصول تحمل العناوين الاتية :
١- جسدٌ وحيد على حافّة الخمسين.
٢- المنفى ونهاية العالَم .
٣- فصول الأنثى الثانية .
٤- أمّي - الحياة .
لا يخفى على المتأمّل هذه العناية الخاصّة التي توليها الشاعرة إلى عناوين فصولها ، بما يؤكّد هويتها الشعرية ؛ وكأنّنا بهذه العناوين علامات يهتدي بها المتلقّي قائلة له : انتبه ! ما أنتَ مقبِلٌ على قراءته إنّما هو شعرٌ لا نثْر .
في الفصل الأوّل " جسد وحيد على حافة الخمسين " تطالعنا القصيدة الأولى بعنوانها الدّال " من أجل حبّ في الخمسين " فنقرأ فيها :
" في الخمسين سأحبّك بألف مهجة
إذا عرفتَ كيف تعيد الغناء إلى ما تبقّى من صوتي .
نصف قرنٍ وأنتَ مشرَّد في معابر الآخرين
نصف قرن وأنا مشغولةٌ بأسرار الحديقة وفصولها
جسدي شريكي والشاهد وردتي السرية ، خليط الماء والنار .
........................................
في الخمسين - أنا
شجرة خِصبة وبريّة
جسدي مطرَّز بخمسين نكهةً ولوناً "
(المجموعة ، ص ص. ٩-١١)
نصّ آسِر يفيض وجْداً ورقّةً وعذوبة تبثّه ألفاظ منتقاة بعناية شديدة ، توحي بعشق الحياة والتّوق إلى مسرّاتها ، مع وعود مزجاة بتقديم أشهى الثمار على مائدة عامرة بالفرح والبهجة وصنوف اللذّات يقدّمها جسدٌ نضجتْ فيه كلّ المكوّنات.
وفي نصّ آخر يحمل عنوان " جسدٌ على حافّة المنفى " ، لا يقلّ ثراءً وبهاءً عن سابقه حيث نقفُ على تفاعل الجسد مع المنفى بكلّ تجلياته الحسيّة والنفسيّة والدلاليّة ، نقرأ هذا المقتطَف البديع :
" هذا جسدُ امرأة على حافّة منفى يشبّكُ بالكون
امرأة نامت على ضلعها الأيمن سبع سنوات وسبع ليالٍ وبين أضلاعها أخفتْ خلاصة الأسرار
امرأة لا تزال إلى الأعالي ترفع كاهل اغترابها ومناجاتها.
تحمل حقيبة سوداء متوسّطة الحجم ، فيها كتاب مقدّس ، قنينة عِطر ، ومرآة وأحمر الشفاه . "
حميميّة ودفء ، ربّما للتعويض عن صقيع المغتَرَب الكنديّ ، تتحفنا الشاعرة بهذا البوح الكثيف ، حيث يسود السرد الإخباري الموشّى بالألَق اللغوي والتوتّر الدرامي ، حيث يرتقي اليوميّ والعاديّ إلى الأفق الأسطوريّ .
( المجموعة ، ص. ١٠٣ )
وفي نصّ بالغ الدلالة يحمل عنوان " جسدٌ وحيد . ألفُ رغيف " تضعنا الشاعرة وجهاً لوجه أمام منظورها الفنيّ لكلّ من الشِّعر والحبّ ، فنقرأ ما يلي :
" الشِّعرُ خبزي اليوميّ
أمّا الحبُّ ،
رغيف وجهي الذي يأكله النّملُ
..............
أعجنُ الشعر بالحب والوهم
وعلى تنّور جسدي أخبز الكلمات
تفوح رائحة أمّي وأمّك
رائحتي ورائحتك
رائحة الحياة "
( المجموعة ، ص. ١٤٧ )
إنّه إذاً مثلَّثُ الشِّعر والحبِّ والحياة، حيث تتضافر براعةُ الفنّ ورقّة الإحساس وزَخَم الحياة لإبداع هذه النصوص الشعرية المفعمة بالجمال والرؤى والخيال.
جاكلين سلام شاعرة أصيلة خبِرت الحياة والناس ، ومارست الصحافة ، واحترفت الترجمة ، فكانت تجربتها الشعرية الغنية خلاصةً جمالية إبداعية لذلك النّبع الثرّ الذي نهلتْ منه مفردات الفكر والإبداع .
*- جاكلين سلام ، جسدٌ واحدٌ ، وألفُ حافّة ، مؤسسة هماليل للإعلام، دولة الإمارات العربية المتّحدة ، ٢٠١٦م .

دكتور زياد العوف



1640086740139.png


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى