إبراهيم عبد القيوم جيب الله - قراءة في رواية "دائرة الأبالسة" للكاتب محمد الخير حامد

العنوان "دائرة الأبالسة":
يمثل عتبة رئيسة، وهو أحد أهم مفاتيح الرواية. جاء العنوان على درجة عالية من الإثارة والتشويق مساهمًا في توجيه توقعات المتلقي ومحفزًا له لاقتحام محيط تلك الدائرة، ومعرفة ما يدور بداخلها.
الاستهلال جاء كعتبة ثانية بعد العنوان باقتباس مقطع شعري للشاعر الكبير محمد مفتاح الفيتوري يقول فيه:
"دنيا لا يملكها من يملكها
أغني أهليها سادتها الفقراء
الخاسر؛ من لم يأخذ منها
ما تعطيه على استحياء
والغافل من ظن
الأشياء هي الأشياء".
وهذا الاستهلال لا يقل أهمية عن العنوان، وله ارتباط وثيق بمحتوى الرواية.
استوفت الرواية كامل عناصر السرد الروائي، بالتركيز على العناصر الثلاثة الرئيسة (المكان/ الزمان/ الشخصية) وهذه العناصر هي المكوّن الأساسي لبنية الشكل الفني للرواية، وكان حسن بحراوي أسماها "بالفضاء الروائي" في كتابه "بنية الشكل الروائي" الذي صدر عام 1990م. وعد هذا الفضاء عنصرًا فاعلًا في الرواية، لأنه كما ذكر يتميز بأهمية كبيرة في تأطير المادة الحكائية.
الراوي في هذه الرواية منحه الكاتب سلطة مقدّرة لقيادة دفة السرد، متميزا بصفة الراوي العليم بأدق أسرار الشخصيات وتفاصيلها الخاصة والعامة، ولعل أهم صفة تميز بها الراوي هنا هي الحيادية، مما جعل بينه وبين راوي روايات الكاتب الأمريكي "فيلب روث" وجه شبه، وقد كانت الكاتبة الروائية اللبنانية "جنا الحسن" انتبهت لهذه السلطة الممنوحة للراوي وبكامل الحيادية حتى يخيّل لك أن الراوي هو الكاتب نفسه، وهذا الإحساس أو التخيّل بأن الراوي هو الكاتب نفسه وصفته "جنا الحسن" بأنه حيلة ذكية مبتكرة، وهذه الحيلة نجح فيها الكاتب في "دائرة الأبالسة" مع ملاحظة أن الراوي عند فيلب روث هو شخصية "زوكر مان" وهذه الشخصية عند روث هي شخصية الراوي، الذي له دور حيوي وبطولي داخل الرواية، على خلاف الراوي في دائرة الأبالسة.
دائر الأبالسة استخدم لها الكاتب الحبكة المركبة بخاصيتيها الاثنتين:
1- الخاصية الأولى وتبدأ فيها الأحداث بالنهاية، ومن ثم يتم استعراض الأسباب التي أدت إليها فكانت نهاية الأحداث بالرسالة التي وجهتها "أريج" إحدى بطلات الرواية إلى بطل الرواية "عاصم" (والدي يرقد منذ الأمس بالمستشفى وحالته سيئة جدا).
2- والخاصية الثانية تعدد الفضاءات الروائية: بناء الشخصيات الرئيسة والثانوية كان مرتبًا وممرحلًا مع تقدُّم السرد، وبما يناسب أدوارها، شخصية البطل "عاصم" بمؤهله الجامعي وصفها الكاتب بالهدوء والاتزان والقبول، وفعلا كان موفقًا في كل ما أوكل إليه من مهام، من قبل إدارات المؤسسة، "أريج" ابنة مدير المؤسسة بمؤهل جامعي أيضًا، وعلى قدر كبير من الجمال والأناقة، استمرت مع عاصم في علاقة عاطفية لسنوات. من الشخصيات الرئيسة أيضا شخصية "يونس" شاب قوي البنية، يعمل في غسيل العربات أمام المؤسسة و"بالرغم من عدم إكماله للمراحل التعليمية المتقدمة؛ إلا أنه كان ذكيًّا في التعامل مع الحواسيب. بارع في الحديث عن مستجدات التقنية. ماهر في التعامل مع تطبيقات وبرامج الجوالات وتصليح أعطالها. وهذه الشخصية أولاها الكاتب اهتمامًا كبيرًا وأهَّلها تأهيلًا ذكيًّا داعمًا للحبكة، لتبدأ منها خيوط عقدة الرواية.
حيِّز المؤسسة هو "فضاء الرواية" العام، مع وجود فضاءات صغيرة ثانوية وتكميلية، تمثّلت في "كل مكتب من مكاتب المؤسسة/ منزل مدير المؤسسة/ إحدى الصحف المحلية/ منزل يونس/ الصيدلية/المستشفى"، وفي كل هذه الفضاءات تعدد الحكي وصب في النهاية في الفضاء العام "المؤسسة" وهي الخاصية الثانية للحبكة المركبة التي أشرت إليها سابقًا، وهي مثل فضاء رواية "زقاق المدق" لنجيب محفوظ، والتي تعددت فيها الفضاءات والحكي وفي النهاية التقت في "الزقاق".
تناولت الرواية قضايا معاصرة متمثلة في الفساد المالي والإداري بالمؤسسة والذي تقوم به "دائرة الأبالسة" في المؤسسة، وهم المدير العام، ومديري الإدارات، وأيضًا تناولت الرواية الفساد والابتزاز الحاصل في الصحيفة المحلية.
على سبيل التكنيك الفني أدخلت الرواية تقنيات تكنلوجية "حاسوب /جوال/ تطبيق تجسس".
الشاب "يونس" كان يمتلك تطبيق تجسس في جواله استطاع من خلاله اختراق هواتف وايميلات مدير المؤسسة ومديري الإدارات واكتشف ألاعيب دائرة الأبالسة من تزوير وتصديق مبالغ بأسماء اشخاص، وهذه المبالغ لا تدخل في جيوب المدير، ومديري الإدارات، وكان البطل عاصم أحد هؤلاء الضحايا، وهو لا يعلم إلا بعد أن أطلعه يؤنس بما يحاك ضده، لتصل الرواية إلى ذروة جذبها وتشويقها، ومن ثم يتحرك عاصم في اتجاه حل العقدة والانتقام. فشلت خطة عاصم في نشر المستندات التي تدين دائرة الأبالسة في الصحيفة بعد أن اكتشف أن رئيس التحرير يبتز المتورطين، فلجأ إلى خطة أخرى بديلة، بإرسال صور من المستندات في طرد إلى كل مدير على حده، مع إعلان عن صفحة قادمة باسم "قلة حياء" و تنويه بتاريخ نشرها. كلف صديقه حسام لمراقبهم عند لحظة استلامهم للطرود.
َبعد أن اطلع المدير العام على ما بداخل الطرد سمع القريبون من مكتبه صرخة مدوية، ووقع على إثرها على الأرض، حكى حسام لصديقه كل ذلك " بعدها هرعت كل المؤسسة لنجدته، لكنها لم تفلح في فعل شيء (كثر من إلحاقه بمستشفى الحالات الحرجة، وما يزال حتى اللحظة بغرفة العناية المركزة".
بالرجوع للحبكة المركبة التي أشرنا إليها سابقًا، فإن الجملة التي ختمت به الرواية" وما يزال حتى اللحظة بغرفة العناية المركزة" هي ذات جملة نهاية الحدث التي بدأت بها الرواية بالرسالة التي أرسلتها "أريج" إلى "عاصم" في بداية الرواية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى