امينة الجياش - امضاءه على ( جملة اعتراضية ) للشاعرة العراقية ابتسام ابراهيم

امينة الجياش - امضاءه على ( جملة اعتراضية ) للشاعرة العراقية ابتسام ابراهيم

يجد الشاعر نفسه في احيان كثيرة محاطا بكم هائل من المتغيرات ما يجعله متأهبا لكل ما يطرأ فيتراكم في مخيلته ليصير ابداعا وقد يكرس ادبه بشكل خاص ليخدم القضايا الاجتماعية وهو امر اعتاده كثير من الشعراء وعلى مر الازمنة

شيء ما باعث على الدهشة وشيء اخر يؤرق عينه فيخلد حدثا , وتختلف رمزية التعبير بين شاعر و اخر وفق رؤى اجتماعية وبيئية و انسانية وكذلك العامل العاطفي الذي يفرض على هذا الشاعر تعبيرا قد لا يحبذه غيره

وهنا في مجوعتها الشعرية الثالثة( جملة اعتراضية) كرست الشاعرة والمترجمة العراقية ابتسام ابراهيم مجمل شعرها لتعكس وجهه نظرها تجاه قضايا عدة الحب والحرب والعلاقات الانسانية فالشاعر يرى في شعره مرآة لحياته , حيث تناغي ابتسام الحياة الاجتماعية الطارئة التي طوقتْ الكون كله خلال ازمة وبائية فتقول في حظر التجول ص48 (كيف سأستقيل من حبك \ و انا العامل بأجر يومي كالرماد) تشير هنا الى وضع اقتصادي الـَم بشريحة من الناس وهم اصحاب الدخل المحدود فكتابة الشعر عندها تمثل تواصلا زمنيا بين عالم الواقع و عالم الخيال , وسيلة للتعبير عن المضمون وترميم الفجوة بين الشاعر والواقع المفروض عليه ( ويجمعني اسمك حين يأتي رغم حظر التجول) فلا بد من الحفاظ على بعض الجمال والحب وان كان اللقاء مستحيلا

تتعامل الشاعرة مع النص بحساسية انيقة فهي مفعمة بالهم العام للمجتمع فتقول في ايقونة الاياب ص 68 (المئات منهم يسامرون الحياة \ويتراجعون عن تشذيب احلامهم ) وكما هي تراقب الذين تكدسوا في جعبة الدروب تجدها ترسم غزلا ناعما باسم الحبيب فتارة يصير مرفئا يمتطي صهيل الازمنة وتارة اخرى تراه يسد رمق الود بالحسرات , فالتغزل هنا قابل للتأويل على عدة اوجه فتقول في يا اسمك ص 5 ( يا ترفا يراود احلامي \ انا المتبل ببعض ظني \ احرثُ الامالَ و اتبسم ) كيف يمكن لشاعر ان يبتسم وهو مفعم بالظن و الامل على حد سواء ثم يحول معاناته الى كلام جميل يسعفه لحظات الصخب ويهدئ من روعه ويجعله امنا فتقول ( سأستعير وجهك الليلة وامضي \ سأستدير كأغنية جذلى تدق باب فراغك \ لترى الشوق يركض في العتمة ) وتكتفي برمزيه وجهه لتمضي وسط العتمة وتوقد شمع النذور حتى لا تطأ اقدام الانتظار عتبه ايمانها , نقطة القوة لدى هذا النص القدرة على قراءته مرارا دون ملل فيكتسب مساحة في قلبك وربما يصير جزءا من كلامك المعتاد

وحين تكتفي باسم الحبيب فهي حتما لا تدعي غيابه انما تراهن على حضوره وتشير اليه خفيه حيث الحياة وان عكستْ ايدلوجية خاصة فهي تحمل بين طياتها امراً لذيذا , اذ تتكلم بواقعية فريدة تستوعب ما يحصل حولها فتقول في قصيدة تصوير ص 15 ( شاهدتك واقفا على باب التنبؤات \ تقرأ طالع الحيارى \ ونسوة الحي حين يعصرن قلبي \فوق اسطح المنازل )

ثم تستدرك تلك العاطفة القوية في قصيدة ( تـَمهـُل ص 11 ) حيث يتسامق المعنى فوق كل ما يمكنه حمل هذا الوجدان واتخاذه سبيلا للإفصاح عن القلق الانثوي فتقول (ها انا جئتُ اليك \ وجيوبي كلها ومن فرط انشغالي \ تنزحُ الامال نزحا \ فيرتد صداها في بكائي \ وفي صلب انتظاري ) ويبقى السؤال ما هذا الامل الذي تستند اليه الشاعرة في الوقت الذي لا تدرك السبيل الى تحقيقه( ليت فيك كل ما في رؤيتي \ دلع الحلم و امال الورق )

لها مخيلة ابداعية ناضجة ما يعكس استقرارا نفسيا وقناعة عاطفية يمهدان الشأن لشعر يتمتع بروح مهذبه قابل لان ينتشلك من دوامه القلق حول الصراع الازلي بين الوفاء وعدمه ؛ فتقول في قصيدة يا امسي الذي يمسي ص 62 : ( ها انت تجتث فراغي \ بأريج الحنو لو كان خداعا \ ستراه يأكل في الروح اناساً اخرين \ ويبقيك وحدك ) تـُظهر هذه القصيدة قدرة الشاعرة عن التعبير عما يثـقل بوطأته مزاجها ويعكر صفو الروح فتعود بأريج الحنو وهو امر تسعى لنيله أي انثى الفعل الشعري داخل القصيدة منحها بـُعدا زمنيا عمل على تمتين النص خالقا جوا من العطاء حيث وهبت النص تكثيفا صوريا عكستْ طبيعة الظلم الاجتماعي الذي يلاحق المرأة فتقول (فضياعي والتياعي \عمر الود باجواء الخراب \ وتوارى \ ينزع الاحزان من ثوب لاخر )

ابتسام قادرة على استخدام الرمزية الذكية فالشعر لديها اشبه بطاقة مجانية اتاح لها الوصول الى عوالم تتربص بالمخيلة وتحتويها بشغف غير متحررة من القيود الاخلاقية التي تفرضها الحاجة لكتابة بعض النصوص فالشعر لديها قضية - على حد تعبيرها - فتقول في قصيدة بين شاعر وقاتل ص46 : ( كان على الايام ان تختارَ \ بين شاعر يحملُ ومضا \او قاتل يحمل سيفا) ثم تستدرك في نص قصير اخر فتقول ( انا ومض معتقلٌ \ بتهمة التحريض على الضوء ) أي لابد ان يخوض الشاعر دوره الانساني ويضيء .

نصوصها قادرة على ان تدافع عن نفسها وسط الفوضى , لها شخصية شعرية تظهر من خلال نبرة النص متفاعلا مع الثقافة الانسانية

تعتبر ابتسام ان القدرة على تخليد الاحداث شعرا امرا لابد منه فللكلمات دور استثنائي في تغذية الروح وجعلها قادرة على الصمود وتخطي مساحات الخوف و اليأس , الامل , الغربة حين تستنفر بعض الوقائع الحية كما هو الامر في قصيدة( حوار في حانة ص 85) فالحانة هنا واسطة لطرح فكرة او التغلب على عادات قد لا تكون ظاهرة فتكتسب وحدة النص وقدرته على استعادة ملامح غائبة في الحياة لا يمكن ان تتشكل امامنا الا اذا كان صاحبها شاعرا فتقول ( تحاصرني جيوش من حبيباتٍ \ وتمطرني كؤوس في اياديهن \ براكينا و اسئلة بلا جدوى ..... \ ويبقى وجهي الحالم يرفرف ضحكة خجلى )

على الصعيد الفني تجاوزت ابتسام بكل انسيابية شوائب المفردات التي تحاكي تفاصيلا قد لا تنسجم وطبيعة البيئة العقلانية المتحفظة و مهدت لتجربتها ان تنال قسطا كبيرا من التنوع في المهارات الكتابية لذا لا غرابة ان تكون قصائدها منغمسة بالهم الاجتماعي

قصائدها جاءت لصيقة بالأحداث الانية متفاعلة مع المستجدات فتقول في نازحات 2014 ص 30 (نازحات \ سجد الجوع على ركبتيها \ وجثا الخوف بين يديها )حيث برعت هنا في توظيف التراكيب اللغوية والرموز الدينية ( بتابوت يطوف البحر عطشانا \ وفرعون القتل يرقب فيضة اخرى ) فهي فضلا عن ترجمة معاناة المرأة النازحة وتغييبها عن وطنها الامن قسرا قدمتْ صورة حية لواقعهن وتجاوزت ما اعتاده الشعراء من توظيف هذه الرموز بطريقة حزينة فجعلته رمزا للقوة والثبات . ثم تنتقل لترى ان الوطن ما الا هو ذنب يكتبه الزمن على ابنائه فتقول :

( لا تحزني \ فكل الاوطان معلقة على جسر الشهداء ) .

قصائد الحرب غالبا ما تمتلك مواصفات محددة ما يجعل شكلها ومضمونها مميز عن انواع الشعر الاخرى فالكلمة هنا تختصر مسافات طويلة جدا من النار والتعب فتقول في قصيدة الحكم حكمك ص 33 (خلتُ ومضاً فرَّ من وجهي قبلا \ خلت شيئا مرَّ من تحت الركام \ تاركاً ضلع رحيلي تهشمه الظنون ) وفي نص عراق ص49 تقول : (ايها الركض من حربٍ لأخرى \ من وهج جبينك \ تكاد الشمس تضمحل ) .

وفي اشارة لزمن طويل خاض فيه الوطن مراحل عدم الاطمئنان تقول في قبل خراب العيد ص 74 : ( وانسى كيف الموت قد يحتضر \ وانسى ان كل جرح في بلادي \ مـُقـيد في الصور ) في اشارة ذكية الى ان كل الذين غابوا لأجل هذا الوطن قيدهم الاحبة في سجلات الصور و الجدران او الطرقات حيث تتماشى حدود البنية التركيبية للنص مع البنية الايقاعية كيف يختار الشاعر كلماته لتبرز هويته

تتخذ ابتسام من السرد بابا تطرقه الايادي الباحثة عن الجمال محرضا للتغيير فتقول في نص لستُ معافاة ص 97(تحدثني وسادتي عن منامها الاخير وتسألني .... كل الحروب التي مرتْ بقربي ملئتْ طاس الذهن بشيء من البرود ) يتصاعد النص هنا مقترنا بنمو حدث اعتاده البلد الذي نشات فيه رغم شدة وطأتها فهي حين تستحضر ذاكره اللـُطف يتحول هذا المرور الى برود في ذهنها ثم تقول ( ردود فعلي طبيعية جدا و انا اقلب رأسي تحت مقصلة ظنونهم وكفي يمر برفق بين طيات براءتي ) تجد هنا القدرة على تقبل الالم و الايحاء للآخرين ان ثمة مكان لم تطأه زحمة القسوة , فترتسم عتبات النص على ايدلوجية شاعر مكتظة تفاصيله بالحرب لكن الرفق والحنو لا تمحو تلك الصورة الخافقه بين طيات البراءة

توثق ابتسام تلك الصراعات بشكل شعري تارة او بنصوص سردية لا تخلو من جماليات الشعر , ولم يغب عن ابداع الشاعرة ان ترهن بعض ذكريات الطفولة في قصائد الومضة حيث تسعى لتحتفظ بكل ما يجود به الاباء فتقول ( في قلبي طفل \ لم يسمع الدللول يا امي ) , (حين نهض ابي من غفوته \ كانت سجائره تحترق في دمي ) في اشارة للخط الزمني القصير لروح الطفل العالقة ساعات نومها بين نعومة التهويدة وخشونة الدخان

وهي كما ذكرت مرارا ليست قارئة جيدة للشعر بحكم انها نشأت في بيئة بعيدة عن الادب والفن وحيثياتهما الا انها تمنحنا من الشعر اجوده ومن اللفظه ارقاه , فبذرة الشعر الكامنة في اعماقها والهم الذي يعصف في ارضها كأمراة ترى وتسمع وتشعر بما يشعر به ابناء جلدتها انتج لنا شعرا صافيا يؤدي المعنى على اتم وجه فهي من الشواعر القلائل اللواتي يبرعن في كل انواع الشعر ولا تعوزها الاوزان والقوافي حيث تقول في قصيدة كمن في ذاته يسهو ص 53 ( كمن في ذاته يسهو \ ويشكو جور ايامه \ويحشوا كفه وجدا \ تعاويذا لأحلامه \ يناجي دون ان يدري \ فيعلو سور اوهامه )

فلو قرأت قصائدها ستلاحظ بكل وضوح نعومة المفردات والانسجام الظاهري فكل نص لديه قوة لصيقه كافية لان تحرر السكون فاللغة لديها وسيلة لتقديم موقف تجاه المجتمع وعدم الاستعلاء عليه رافضا الانجراف الى ما يهد القيم الانسانية .




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى