محمد عباس محمد عرابي - فقه الحب في كتابات الأستاذ الدكتور محمد عيسى

تناول الأستاذ الدكتور محمد عيسى في كتاباته فقه الحب ويعرض هذا المقال لأربعة جوانب مما كتبه في فقه الحب هي:

« بين أبي جهل.. وأبي لهب »*

*« ‏ بين الإيمان واللإيمان »

* بين دائرته الأحادية ودوائره الحياتية.

* بينَ العَطاء والمُقَايضة.

وفيما يلي بيان ما قاله في ذلك:

فقه الحب(1)" بين أبي جهل. وأبي لهب "

في هذا المجال بين الأستاذ الدكتور محمد عيسى أن ما نراه ونسمع في الكثير من دول العالم من قتل وحروب ودما يوحي باندثار الحب بينهم حيث يقول:

"حين يتأمل المرء واقعنا الذي نحياه، وحين يشاهد البرامج الإخبارية والحوارية، مساءَ كل ليلةٍ، وما تغص به على طول الشاشات وعرضها من صور الاعتداءات والبلطجة، والقتل والخراب والدمار!! وما تعج به من ترفيه أسود مُخضب بالعنف والخيانة والدماء!!

وحين يتأمل المرءُ نسبة ما في البرامج ومواقع التواصل الاجتماعي من أخبار وأحاديثَ مُغلفة بمشاعر الحُبّ، إلى نسبة ما فيها من عبارات مغموسة بمشاعر الكراهية، في سيلٍ من ألفاظ التشاتم والاتهامات والفتنة والوقيعة!!

لا يعتري المرءَ شكٌ أن زمننا اليومَ،

هو زمن الكراهية، والبغضاء، والعدوان، هو زمن الحرب،

وأنَّ الحبُّ فيه مختَلِفٌ ومتَخَلّفٌ،

إنّه: "حبُّ الكراهية"، "حبُّ الدماء"، "حبُّ ثقافة الجريمة"، "حبُّ التعصب والقهر"، "حبُّ انفلات الأخلاق"، "حبُّ المال .. والشهوةِ. جئنا الحياةَ؛ لنعيشها بسعادة، لنفرح ونحتفي بها، لنملأها بالجمال والحب والأمل والحرية، فإذا بقلوبنا مشدودة بحبال الكراهية والحقد، الذي لا يترك في قلوبنا مساحة لوردة حُبّ؟

فهل هناك واقعٌ أشدُ قبحاً وإيلاماً من هذا الواقع؟!!

وأي بشرٍ هؤلاء الذين يجدون لذةً وشعورًا بالراحة، كلما أوقعوا شرًا بالآخرين؟

ولا أدري كيف للحياة أن تكون حياةً بدون أن يسود الحبًّ بيننا؟

وكيف يمكن أن نستمر على قيد الحياة ونحن غارقون في كراهية سوَانا؟

وأراني مع الشّاعر الكبير نزار قباني:

أسائل دائمًا نفسي

لماذا لا يكونُ الحبّ في الدنيا؟

لكل الناس، كل الناس

مثل أشعة الفجر

ومثل الماء في النهر..

ومثل الغيمِ والأمطارِ

والأعشابِ والزهرِ

أليس الحبّ للإنسان

عمرًا داخل العمرِ؟!

لماذا لا يكون الحب في بلدي

طبيعيًا ...

كأي زهرةٍ بيضاءَ

طالعةٍ من الصخرِ

لماذا لا يحبّ الناس في لينٍ وفي يُسر؟

كما الأسماك في البحر

كما الأقمار في أفلاكها تجري

لماذا لا يكون الحب في بلدي

ضروريًا

كديوانٍ من الشعر؟

«أسائل نفسي

متى تصحو قلوبنا، وتصعد مع الحب إلى معارج السمو،

كي تنقذ الحياة من أن تضيع بين «أبي جهل وأبي لهب؟!

« !!‏فقه الحب (2) بين الإيمان واللإيمان »

في هذا المجال يقول الأستاذ الدكتور محمد عيسى:

في مملكة الجسد يسكن قلبُ الحب، وأعظمُ حبٍّ هو حبُ الله (سبحانه وتعالى)، ومن حبّ الله تنطلق طاقات الحب المختلفة، ونكهاته المتعددة...:

ولندع الحبَّ يتكلم أولا:

-سُئلت رابعة العدوية ذات يوم: "أتحبين الله تعالى؟ قالت: "نعم أحبه حقاً"، فقيل لها: وهل تكرهين الشيطان؟ فقالت: "إنَّ حبي لله قد منعني من الاشتغال بكراهية الشيطان"

-ورُوي أن الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- عندما ذُكر الحجاجُ في مجلسه فسبَّه أحدهم، قال الإمام لا تسبه، فقال عبد الله بن حنبل لأبيه: أو تُحبه يا أبي؟ قال أحمد: لا، ولكن لا أكرهه.

-وتحملت زوجة سيدنا أيوب عليه السلام مرضه 18 عاماً، لأنَّ الحب قد تمكن منها، وبغيره لم يكن لها أن تصمد؟ وهل يمكن لكائن بشري عمَّر قلبَه حبٌ بهذا الحجم أن يعرف إليه الكره طريقاً؟

-ونشرت صحيفة "آراب نيوز" السعودية خبرًا عن (تباري زوجتين لرجل سعودي على التبرُّع بكلية لزوجهما المريض، ولم يحسم التنافس بينهما إلا قيام إدارة المستشفى الذي يُعالج فيه الزوج بإجراء القرعة بين الزوجتين؛ لتحسم هذا التنافس، وقد فازت الزوجة الثانية بالقرعة).

-ورُوي عن ابن حزم رحمه الله أنه قال: "إنَّ رجلاً من إخواني جرحه من كان يُحبه بمدية، فلقد رأيته، وهو يقبِّل موضع الجرح، ويقول: يقولون شجّك من هِمتَ فيه .... فقلتُ: لعمري ما شجني ... ولكن أحس دمي قربَه ... فطار إليه ولم ينثنِ... فيا قاتلي ظالمًا محسناً ... فديتك من ظالمٍ محسن.

(هذا هو الحبّ الذي يجب أن نتقاسمه .. العامل الإيجابي الأكبر في "أنسنة" الإنسان يُصلح الإنسان من الداخل، قبل أن يُضفي عليه إشراقًا وتوهجًا خارجيًا أشبه بالنور.

بهذا الحُبُّ" يخرج المرء من دائرة "أناه"، ويتجاوز مستويات الحب المعروفة المتجلية في العلاقة بين الرجل والمرأة، إلى حبِّ الخير والبذل والعطاء، والوفاء والجمال والكمال، وإلى حب الموجودات في الطبيعة بجمالها، وسحر مفاتنها.

ولهذا كان "الدين هو الحب، والحب هو الدين"، وكان الحب طريق الإيمان، قال النبي الكريم، صلى الله عليه وسلَّم: ((والذي نفسي بيده، لا تَدْخلوا الجنة حتى تُؤْمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا)) ... وقال النبي الكريم، صلى الله عليه وسلَّم: ((لا يؤمن أحَدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه)).

جربوا هذا الحب ....

واقضوا على ما بداخلكم من سلبيات تربية وثقافة "الأنا" من بغض، وحقد، وحسد، واستغلال، وصفات مذمومة عديدة وعززوا مشاعر الإيمان بإيجابيات الحب .. حينها ستتغير حياتكم، وستنعمون بحياة سعيدة بإذن الله

ودمتم أبدَّ الدهر، بمودةٍ وحبٍّ صادقين دائمين

«‏فقه الحب (3) بين دائرته الأحادية ودوائره الحياتية»

يقول جلال الدين الرومي: «حين يشِّع نورُ الحبِّ في القلب؛ فذاك يعني أنَّ هناك إحساساً بالحبّ في القلب الآخر» .. هذا الحبّ هو الذي يعطي الحياةَ بهجتها، ويجعلها أكثر ترفقًا وجمالاً، وتقبلاً وتعايشاً.

ولا أقصد هنا الحب الأحادي أو الثنائي، ولكن حتى هذا الحب الذي ينشأ بين طرفين؛ لا يمكن أن ينجح ويثمر، ما لم يمارس طرفاه الحب بمعناه الحقيقي، بمعناه المطلق

ذلك أن الفهم الخاطئ لحقيقة الحب ومعناه، وكيفية ممارسته، وزرع ثقافته ومفاهيمه، هو أحد الأسباب الرئيسة لسوء العلاقات بين الناس، والوقوع خارج الحب، وتضاؤل شعلته، وانتشار الطلاق حول العالم بنسب ليست لها سابقة في تاريخ الإنسانية

ولعل أول مفهوم خاطئ عن الحب، هو الاعتقاد بأن الحبَّ: يتعلق بشخصٍ تحبه، وتلفه بكل مشاعرك، وتحتويه بكل عواطفك... الاعتقاد بأن الحبَّ سهل، ولكن الصعوبة تكمن في أن يجد الواحد منا الشخص الصحيح الذي يبادله الحبّ، وهذا مفهوم خاطئ، فالحبُّ لا يتعلق بظهور الشخص المناسب، أو الظروف المناسبة، وإنما هو إرادة وملكة وقدرة إرادة وقدرة خاصة على (حبِّ الحبّ) و(إشاعةِ الحبّ)، و(تذوق الحياة والاستمتاع بها). وهذه القدرة لا يمتلكها أي شخص، وبخاصة في مجال (إشاعة الحب)، والترويج له، والإحساس الصادق بحب الآخرين والاقتراب منهم ولإشاعة الحبّ، وزرع مفاهيمه، والمحافظة عليه، وسائل عديدة، لعل أبرزها:

(الابتسامة)؛ ابتسم؛ فلا شيءَ يُبهج النفس ويسعدها أكثر من "الابتسامة"؛ فبارتسامها على الوجوه يَكسب المرءُ صدقة، وبها يلجُ قلوبَ الناس، وفي الحكمة: "الابتسامةُ طريقك الأقصر إلى قلوب الآخرين"، ولدى شكسبير: "أن تشق طريقك بابتسامةٍ، خيرٌ من أن تشقه بالسيف"... وتذكر جيدًا قولَ نبيك (صلى الله عليه وسلم): "تَبسُمك في وجَه أخِيك صَدقة...".

(إفشاءُ السّلام): أَلق التَّحية؛ فإلقاء التحية والسلام، من أول أسباب التآلف، واستجلاب الخير والمودة. فإياك أن تُقبِل أو تمر دون إلقاء التحية؛ حتى لا تصبح بالتدريج منبوذًا من الجميع.. وتذكر جيدًا قولَ نبيك: "أَوَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ."

(حسن الاستماع): استمع جيدًا؛ فحسن الإصغاء مع المتحدثين سبيل لكسب قلوب النّاس، فلا تقاطع محدثك حتّى يتمّ كلامه، ولا تبدِ أيّ إشارة تنمّ عن التقليل من أفكاره أو تسفيه رأيه، بل احرص على إبداء الاهتمام بحديثه. قال ابن المقفَّع: “تعلّم حسنَ الاستماع كما تتعلّم حُسن الكلام، ومن حسنِ الاستماع إمهالُ المتكلّم حتّى ينقضي حديثه، والإقبال بالوجه، والنّظر إلى المتكلّم، والوعي لما يقول”. .. وتذكر جيدًا أن الله خلق لنا أذنين وفمًا واحدًا؛ كي نستمع أكثر مما نتكلم!

(الشعور بالرضا والبعد عن التشكى)؛ فلا تكن شخصًا كثير الشكوى، تتصيّد المعايب وتكبرها؛ حتى تغطي كل شيء جميل، وتزيد هموم الناس وتشعرهم بالضجر والتبرم. ومن يفعل ذلك بشكل دائم يُصبح مكروهًا من الناس، يتهربون منه، ويتحاشون لقاءه ودعوته... فكن عبدًا شكورًا راضيًا .. وتذكر جيدًا مقولة: "كثرة التشكي آفة."

(المجاملة العادلة) جامل الناس بعدل؛ فالمجاملة من الجمال، والجمال أرقى ما نطلب، فالمجاملة الكريمة العادلة مطلوبة مع كل الناس؛ حتى الأشرار، دفعاً لشرهم وارتفاعاً عن النزول إلى فحشهم.. والأشخاص المحبوبون يُجيدون الإنصات، وفي نفس الوقت يَسحبون لسانَك للحديث عن نفسك.. وهم ليسوا بالضرورة مُنافقين أو متملقين .... وتذكر جيدًا قولَ نبيك: "خالق الناس بخلق حسن"

(البذل والعطاء)؛ تواصل مع الناس، واسعَ في حوائجهم؛ فالشخص المحبوب يصل أقرباءه، ويسأل عن أصدقائه بدون مصلحة أو حاجة شخصية... وقضاء حوائج الناس، باب واسع للفوز برضا الله، ونَيل رحماته، وتذكر جيدًا قول نبيك: ''أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس" .. وقوله صلى الله عليه وسلم: "صنائعُ المَعروف تَقي مَصارع السُّوء، وصَدقة السِّر تُطفئ غَضب الرّب، وصِلة الرَّحم تُزيد من العمر"

وأختم بقوله تعالى:

«وَالذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهمْ، يُحِبُّون مَن هَاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَجِدُون فِي صُدورِهِمْ حَاجةً مِمَّا أُوتُوا، وَيُؤْثِرُونَ علىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» سورة الحشر.

عوّدوا قلوبَكم على الحب .. لا تترددوا؛ فطوبى للمحبين ... ودمتم سالمين

«‏فِقه الحُبّ (4) بينَ العَطاء والمُقَايضة!»:

لا يوجد نشاط يمارسه الإنسان بشكل منتظم، يبدأ بآمالٍ وأحلامٍ عظيمة، وينتهي بالإحباط والفشل؛ مثل الحب بكل أنواعه وصوره...

ولعل من أسباب هذا الفشل المتكرر لظاهرة الحب في حياة الإنسان؛ أنَّ الأغلبية العظمى من البشر، لا يعرفون كيف يمارسون فن الحب في حياتهم، ولم يتدربوا عليه؛

فقد يقضي الواحد منا عشرات السنين في التعلم والحصول على دورات في فنون حياتية متعددة، بمنهجيةٍ منتظمة، واهتمامٍ كبير، وصبرٍ وافر إلا فن الحب ..

إنَّ جوهر «فنّ الحُبّ» وآليّة عمله في الحياة، ومملكته، هو «العَطاء»، العَطاءُ الحقّ الذي لا ينمو على خلفية المقايضة، ولا ينتظر مردودًا .. عطاءٌ غذاؤه محبة واعية، ودليله حكمة طاهرة، وقائده عقل مستنير…

وأرخص أنواع العطاء في مفهوم الحب، هو عطاء المادّة، فالأهم هو عطاء القلب والروح والعقل، عطاء الذات، العطاء لوجه الحب وليس لوجه الحبيب ..

وفي مملكة الحب، «فإنَّ العطاء أخذٌ لا واعٍ .. والأخذُ أيضًا عطاءٌ لا واعٍ»

فعطاءُ الآخر أخذٌ .. والأخذ من الآخر عطاء بدوره .. وإنَّ مَن يعطي من قلبه، حقًا، ينسى أنَّه أعطى .. ومَن يأخذ بكليّته يتذكّر على الدوام أنّه قد أخذ ...

ومَن يُقدِّر حقيقةً ما أخذ .. يعطي بدوره ممّا أخذ؛ وهذا هو العرفان بالمعروف…

فلنحذرِ من الحب والعطاء الذي ينمو على خلفية الأخذ؛ فهو نوع من الحب الطفولي الذي يسير على مبدأ «إنني أُحب لأنني مَحبوب»، وهو حتمًا لن يُثمر .. فكما يبهتُ الحب الذي يتغذّى بالهدايا، وينتعش بتحقيق الرغبات والغايات، ويضمحلّ فجأةً، ومن دون سابق إنذار … كذلك يبهتُ العطاء ويذبل قبل أن ينضج، إنْ هو تغذّى بحب الأخذ وعدًا أو ارتوى به غايةً…

وإنَّ مَن يتعلم «فنّ الحُبّ»، «فنّ العطاء» من القلب، فإنه يُخلَّد، ويحيا أبد الدهر في ذهن الحياة ووجدانها…

يقول أحد الفلاسفة الروحيين الهنود: «الحُبّ ليس ردَّ فعلٍ لما أُحسه منك!! فأنْ أُحبك لمجرد أنك تُحبني لا يكون هذا حبًا، بل هو مقايضة معك، الحُبّ الحق لا يكون في مقابل شيء، حتى وإن كان الحُبّ».

جربوا هذا الحُبّ، وارفعوه تجاه الجميع ... ودُمتم بمحبة وودٍ صادقين، أبدَ الدّهر سالمين.

وختامًا: في ضوء استمتعنا بفقه الحب من الواجب علينا نبذ العنف و الكراهية، والبغضاء، والعدوان، وأن تصحو قلوبنا، وتصعد مع حب الجميع إلى معارج السمو، وأن نحرص على حبِّ الخير والبذل والعطاء، والوفاء والجمال والكمال، وإلى حب الموجودات في الطبيعة بجمالها، وحب الآخرين والاقتراب منهم،

وإشاعة الحبّ بينهم، وزرع مفاهيمه، والمحافظة عليه، والحرص على العَطاءُ الحقّ الذي لا ينمو على خلفية المقايضة الحُبّ الحق لا يكون في مقابل شيء، حتى وإن كان الحُبّ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى