خالد جهاد - لمسة

حديث الإنسان عن ما يحتاجه بوضوح ليس شيئاً سيئاً، لكن في بعض الأحيان قد يخونه التعبير أو قد يكون بين أشخاص لا يفهمونه أو يريدون إساءة فهمه بشكل متعمد، أو قد يحولون مشاعره إلى موضوع للسخرية مما قد يدفع الكثيرين إلى الصمت، لذلك تحتاج الكلمات دائما إلى وعي المتحدث وصدق المستمع..
التلامس وهنا قد يتبادر إلى الأذهان فكرة مسبقة وتصوراتٌ متعلقة بالجنس بكافة أشكاله، لكنني أتحدث عن أهمية التلامس في حياة كل إنسان، وتأثيره البالغ الأهمية على سلامته النفسية ونمو شخصيته بشكلٍ سليم..
وقد تمت الكثير من التجارب على العديد من الأطفال ووجد أن الطفل الذي لا يتعرض للتلامس من والديه بشكلٍ مستمر ولا يحظى بعنايةٍ كافية ولا يتواجد في بيئة مستقرة عاطفياً يتعرض بشكلٍ أكبر إلى مشاكل نفسية واجتماعية وصحية خلال فترة النمو وفي مرحلة ما بعد البلوغ حتى يصبح راشداً، وقد يدفعه ذلك إلى الاكتئاب والعنف وأشكال مختلفة من الاضطرابات السلوكية مقارنةً بالأطفال الذين كانوا محط اهتمام والديهم وعائلتهم وكانوا يتعرضون للتلامس والتقبيل والاحتضان من أسرتهم، فالتلامس هو أول دليل على التواصل والإهتمام والمحبة التي يحتاجها كل طفل ليتأكد من محبة عائلته له بشكل مباشر قبل أن تبدأ أفكاره ومعتقداته بالنضوج بشكل تدريجي، ويبدأ ذلك منذ ولادته مروراً بالرضاعة وعلاقة والدته به والتي تكتسب طابعاً له قدسية واحترام لدى الجميع، لكن بعض المشاكل المتعلقة بالأم مثل اكتئاب ما بعد الولادة إضافةً إلى مشكلات شخصية مع والد الطفل قد تكون عائقاً أمام هذا التواصل دون أن نغفل عن ضرورة التلامس والتواصل بين الأب وأطفاله أيضاً، ولذلك يجب أن يكون هناك بعض التثقيف والتوعية بالأهمية البالغة لهذا الجزء من العلاقة في حياة الطفل وأيضاً للوالدين، لأنه يعطيهم شعوراً بالسعادة والرضا عن الذات والاستقرار النفسي بشكلٍ عام لدى معظم الأشخاص العاديين، مع الإنتباه لوجود العديد من الآباء أو الأزواج الذين يحتاجون إلى مساعدة وتأهيل لتمكينهم من تأدية دورهم بشكل صحيح..

فالتلامس ضرورة كبرى وحاجة ماسة قد تدفع الكثيرين من الذين افتقدوه إلى البحث عنه بشكل مرضي دون أن يدركوا ذلك من خلال الإنخراط في علاقات سيئة للغاية بحثاً عن الاهتمام والمحبة، وقد يقومون بممارسة سلوكيات قهرية مثل السرقة، ادمان المخدرات والكحول، ادمان لعب القمار، ادمان التسوق، وحتى ادمان الجنس والبحث عنه بشتى الطرق، وتقوم الضحية التي تكون في أمس الحاجة إلى مساعدة جادة وعاجلة من اختصاصي في الأمراض النفسية بالانخراط في نشاطات وعلاقات جنسية بشكلٍ مكثف بحثاً عن إشباع الحاجة إلى العاطفة والحب والاهتمام حتى وإن تعرضت إلى العنف والاستغلال والإهانة، وغالباً ما يتم الخلط بين الحب وبين الجنس من قبل هؤلاء الضحايا، وقد لا نستطيع أن نلومهم لأن العديد من المتعلمين وحتى المثقفين لا يستطيعون أن يدركوا دقة الخيط الرفيع الذي يفصل بين الحب والجنس، فهما يلتقيان ويتناغمان وقد يؤدي بعيداً عن النظريات الشائعة أحدهما إلى الآخر، وقد تكون هناك مشاعر حب بعيدة عن الجنس وأيضاً هناك مشاعر جنسية بشكلٍ بحت لا عاطفة فيها، لكن مما لا شك فيه أن نشأة أي طفل هي ما يحدد الكثير من خصائص شخصيته وتكوينها وخياراتها في المستقبل،وقد تكون سبباً في سعادته أو تعاسته، خاصةً اذا لم يكن لديه الوعي الكافي أو الإمكانات المادية للذهاب إلى طبيب نفسي والإستعداد لقبول التغيير في سلوكه وأفكاره وبذل مجهود لتصحيح مسار حياته، أو اذا لم يلتقي بشخص يحتويه ويفهمه ويستطيع أن يستوعب احتياجاته العاطفية والنفسية، مما يجعل ذلك إذا فكرنا بشكلٍ عميق أبعد من مجرد افتقاد للمشاعر الدافئة، ليكون فعلياً أشبه ب(عاهة مستديمة) تشبه فقدانه لأحد أعضائه أو حواسه ويؤثر عليه لبقية حياته، وقد تدفعه أحياناً إلى الانتحار..

وقد قابلت إحدى السيدات المحترمات والتي قامت بالانغلاق على نفسها بعد وفاة زوجها، وبعد فترة من التعامل الحذر بيننا لأسبابٍ شخصية تحدثت فقالت لي.. إن أهم ما تبحث عنه المرأة في هذه الحياة الصعبة هو شخصٌ تستطيع أن تثق به، فالثقة هي أعلى درجات الاحترام والتي تقود كثيراً إلى المحبة، كنت أحب زوجي كثيراً وكنت محظوظة لأنني كنت هشةً عاطفياً بسبب نشأتي في بيئةٍ عنيفة، وكنت أحاول التغلب على آلامي النفسية بالإنخراط في التعلم وتحقيق النجاحات المهنية، لكنني لم أشعر بالإستقرار إلا مع زوجي لأنه كان الشخص المناسب، لقد كان مثقفاً، حساساً، منفتحاً، يحترم المرأة ويتمتع بحسٍ انسانيٍ عالي، كان يدعمني في قرارتي وبجعلني أقوى في مواجهة التحديات المستمرة في مجتمعاتنا، كان كل شيء بالنسبة لي، ومع أنني أم ولدي أبناءٌ متزوجون ولدي أحفاد، لكنني أشعر بأن جزءاً مهماً من قلبي مات عندما مات زوجي، أتحدث الآن بصراحة، كان مثل أب وصديق وحبيب، اشتقت إلى لمساته، فقد كنت قبله أخاف أن يلمسني أحد بعد تعرضي للعنف المتواصل لسنوات من أبي، وهو كان الشخص الذي استطاع أن يقوم بترميم كل ماحدث بداخلي، أنا اليوم أرملة ويتيمة، وأشعر بأن هذه اللمسات كانت الكنز الأهم في حياتي والذي لن يعود مجدداً، لم تكن مجرد لمسات، لقد كانت حبًا، حناناً، احتواءاً، علاجاً، هذه اللمسات كانت حياتي، وكانت ما أفتقدته قبله وما أفتقده الآن بدونه، لا يستطيع الكثيرون الفصل بين لمسة العاطفة والتقدير والإحتياج وبين لمسة الجنس، أنا وحيدة وعارية تماماً بدونه، لكنني بلا شك كنت محظوظةً بالزواج منه لأكثر من خمس وثلاثين عاماً..

الحديث عن ما نحتاجه ليس معيباً، وطلب المساعدة من مختص أو شخص موثوق هو ضرورة، لكن المشكلة تكمن عندما نتصرف دون وعي مع الطفل معتقدين بأنه لا يفهم كل شيء،بينما تستمر هذه المفاهيم معه حتى نهاية حياته، ساعدوا أطفالكم وقوموا بإحتوائهم واحتضانهم فاللمسات تعادل حياةً بأكملها..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى