بسمة الحاج يحيى - قراءة في /// قصيدة : ( لو لم يخفق قلبي ) .. للشاعر والأديب السوري مصطفى الحاج حسين.

المسيرة تبدأ بخفقة تعطي الوليد حياة ، تطلقه على إثرها الى معنى الوجود ، و تملي عليه سرد الحكايا و التيه و الأنات .. شاعرنا ، تربع عرش القصيدة منذ العتبات الاولى ، تبنى لغة الخلق و الابداع ، فتألّه ليعطي الحياة لروح هي نابعة من اعماقه و تسكن فيها و ابدع ليحيي قصيدة هي الروح لروحه و هي السكن فيه و فيها .. ليزيد من قوة خلقه و الانفراد بالألوهية ، تعمد لغة سكب على بساطتها و سلاستها منطق القوة و السلطة ؛ « لو » ، إن دلت على سحر و جمالية ، فإنها تحمل كذلك في طياتها سرّ الالوهية و القوّة فلا خلق لو لم يكن لخفقة قلبه ولادة لكامل القصيدة ، بل و يستدعي عناصر الطبيعة ؛ جلّها و أجملها ليشهد خلقه ما ابدع لإضافة مسحة الجمال بهذا الكون ، و ليحقق كنه العشق في شرايين تحمل روح الوجد و تحاكي الشّفافية......
فأين منّا بدفء الشمس جاءت حثيثة تلقي مهمّتها شعاعا دافئا لاجل حبيبته و نستنير بفظل عشيقة لأجلها رذاذ الاشعة يتقاطر علينا ضوء و نورا !!
شاعرنا طوّع الابجدية نوارس تحلّق فوق أعتاب الحروف ، تخفق كلماتها أجنحة تحملنا و تحمل معشوقته الى سماء الأحلام ، تهدينا ألف جناح يحلق بنا عاليا بين النجوم و الكواكب و السحب الشفافة... فهل نحتسب وقوعا او هبوطا مفاجئا !! طالما نسق التحليق ياخذنا إلى اقسى سرعته ، فاحتمال الوقوع او الاستفاقة من عمق المسافة قد يخلق لنا ارباكا إن لم نتحصّن من فوارق الزمن و المناخ بذي عالم !! لكن الشاعر ، احكم سَنّ قوانينه ، فبنود الرّبوبيّة لا تحتمل الخطأ ، لاسيّما و ان المحبوبة معنا على نفس السفينة تعتلي اغوار القصيدة ، فقد خاطبها من علياءه أن الارض ازهرت ليكون النزول بسلام و تنتهي الرحلة بأمان على سطح بساطه سندسي الالوان، يرفل بكساء الطيب و الزهر و عبق الاقحوان ، حتى تلين البسيطة لتستقبل حبيبته ، بعدما ارجحها بين سماء و بيض السحب و بين التيه و الاحلام ..
لكن بين كفيه حياتها و بلمسة من انامله نجاتها ، فمازال شاعرنا يتلاعب باللغة فتطيعه بلا مقاومة ، فكل هذا السحر آية مسبوقة ب " ما " و آية اخرى سبقتها " لا " ، كأنما ينفي الحياة التي ما صارت لها نكهة الا بما خفق بفؤاده و ما كانت ليكون لها طعم في غياب ما اعتمل في قلبه .. ف "ما صار لإسمك كل هذا المعنى"؛ فهو معنى الحياة و معنى الوجود و معنى الحيوية ، بفضله ، تقبّل الجبين له و اليد و حلم السّنين..
فلتقبل حبيبته يد من الهمها الحياة وسكب الالوان بروحها وزادها من نفسه فالهمها جمالها وثباتها. ونفى عنها الظلام حتى صارت اوصافها ؛ خليط فراشات لونها و لين الندى ملمسها ، و صيّر النّبيذ معتّقا من مبسمها ، أ فلا يحق بعدها ان يخضع القمر لحراسة الكنوز موصوفة على اوتارها حبيبته !!! فبإشارة منه يمتثل البدر و النجم و الشجر ،أوليس من حباها الحياة و اعطاها الاسم و اختار لها الممات "لو" #لم تمتثل لهواه ،"لو" #لا يكون لها شأن داخل مجرته الكونية ، "لو" #ما سخر عناصر الطبيعة
لتغدق عليها من روحه !!
فهل يحق لإله في عظمته أن يتنازل عن عرشه أو يتساوى في التكوين بمعبودته !!؟
فاللغة ، سلاحه و مصدر إلهامه و قوته ، ادارت له وجهها الثاني ، فصارت هي من تتحكم به بعدما كان يسيطر على الكلم و المعاني ، فمن نفي و جزم و حروف شرط بالابجدية ، نزلت او هي تهاوت حروف
العشق ، فتمردت على اثرها حركات النَّصب و الجزم على إله القصيدة و بقافيتها تربعت لتتولى الحكم و سَنّ الاوامر و كذا البنود فسرقت الموسيقى عذبَ الرحاب من صوت معبودته ، و تباهت السماء بعبق رذاذها يبلّل التّراب بتيهٍ فريحُهُ يلثم الذّرّات من ريح ساحرة اهدت عبيرها الطبيعة او هي تآمرت و اتحدت معها لتعلن ثورة ضدّ ربّ القصيدة ، !! ام تراه ربُّ الكلم الطيب و سفير الحروف بالصّدر و العجز ، تهاوى عن عرشه لما خرق قانون الكون و وقع في عشق عبده و أمته ، فصار الخالق عاشقا و
المخلوقة معبودته !!؟
تنازل عن عرشه و الألوهية ، و خانته اللغة و سحر حروف الابجدية ؛ "ف" ... "ف" كانت الطامة الكبرى ؛ بعد كل عملية خلق طوّعها لأجل سيدة الكون ، بعد كل عنصر سخّره لخدمة سيدة القلب ، بعد كل "كن" لأجل ان تكون مختلفة عن كل نساء الكون ، وقعت منه الحروف ليعتلي حرف "الفاء" سر الكونية ، فيسبق الجنّ و يطوّع الموسيقى و السّماء و الاشجار و البحار وحتى البوح و السّكينة و كذا الطير و الينابيع و الانهار .. لاغراضه ، لمآربه ، ليغيّر نمط العشق و يحدّد الإله من المألوه المؤله ،، ؛ فصارت الاشجار ملهمة الندى بوحي من الحبيبة ، اعتلت عرش القصيدة فصارت الآمرة ، من تعطي الحب ، من تمنح قطر الندى للاغصان ، صارت الحالمة تُهدي جمالها تعكس صورته الانهار فيغار الكوثر و يسبق بالعشق النهار، يطلبه حثيثا و يعزف اللحن فريدا ، تستعيره نوتات الموسيقى فتكسيه الأوتار ..
لعمري ، هذا عشق مُدمّر ، أردى القتيل إلهًا و الإلهَ عبدا يبني حروف القصيدة .. فإن لم يحكم تسيير مركبته برّا و بحرا كربّان أضاع المسير ، فتاهَ عن بوصلة العشق و توغل لُجّ الزمهريرا ، انّى لصخب عيون المخلوقات أن ترديَ قتيلا ، و تُأنسِن الجان فيضطربَ الموجُ لُجيّا و بعنفوان ، ثم تلين لها الملائكة فيتّحد الاثنان ؛ و تصير ملاكا قتلت بلحظها رَبّ البيت و القافية و اعتلت صدر القصيدة فلاذ بالفرار ، يتوسّل ثم يتساءل هل من مزيد ، !!؟ تخلّت عنه الابجدية ، فعار على إلهٍ يعشق فيتيهُ عن الربوبية ، فتلهو العصافير و تترقرق الينابيع لسيّدة في الحسن أطاحت بسلطان، ليعود فيتحسّر مجدّدا ب "لو" بعدما كانت سلاحه و شرط منْحِه الحياة لمن صارت الآن بالعلياء ترمقه ، ينعي حظه فيبكيه ، " أن "
(( لو لم يخفق قلبي لك
لما كان للحب وجود
و "ما" كان من داع لأحيا
لأكتب كل يوم عن عذابي
من هجرانك المميت .))
فانقلب السحر على الساحر ، و صار القاهر مقهورا ، و خلقت حواء من إلهها و معبودها عبدا يسعى لرضاها ، و يتمنى "لو" ترحمه برحمتها من عذابه ، ف"لا" يموت اليوم ، بل تحييه " لو" "لا" تهجره هجرا خفيفا و "لا" مطولا فحياته رهينة بخفقة ؛ إما تحييه أو ترديه قتيلا ..
فالحياة رهينة خفقة واحدة ، إما تحييه او تميته .. الحياة و الموت بفوهة قصيدة .. فجاءت القصيدة بثراء ما بين مسيرة تقفز من فوق مهد و تتهاوى على لحد ، بين السماء و الأرض ..
القصيدة ثرية جدا ، فالشاعر الاستاذ ( مصطفى الحاج حسين ) ، توخى الحذر في سرد تراتيل عشق عجائبي ، فكانت له السلطة على عناصر الكون ساعدته في ذلك لغته العميقة و تحَكُّمه بالمعجم ، فمن «لو» الشرطية الى «لم» الجازمة و «لا» النافية و كذا الشأن مع «ما» ، تنقل خلالها ليفرض قانونا ابجديا يخول له التحكم في الحياة والممات و كذلك السيطرة على مكونات الجمال و مبيحات العشق ليضع لمساته الاولى و الاخيرة على حروف قصيدة ولدت ناضجة ، حلقت بنا بسماء و مجرات و كواكب ، تحملنا اليها اشعة شمس مطيعة تؤرجحنا برفق فلا نخشى الوقوع و لا النزول اضطراريا فربان المركبة إله و بيده الأمر و النّهي ، وهو من يعطي الحياة ويقرر الموت ، بل و يخضع مخلوقات للاعتراف بقدراته.. لكن ما إن حطّ بنا على الأرض ونزلنا بأمان، بجنة الرحمان وبساط سندسي وزهر ومرجان، حتى انقلب السحر وصارت السماوات و الشمس و الانهار و كذا البحار و الموسيقى و الطيور و الشجر و حتى المحيطات ، صارت كلها بكفّ الحبيبة، رهن إشارتها و طوع يدها؛ سلّمتها مقاليد الحكم ومفاتيح الربوبية لتجلس على كرسيّ العرش، تأمر بكل عفوية، ملاك عشقه رب القصيدة، فانبرى على الحروف والكلم الطيب، لكن خانته الأبجدية.. فصارت «لو» تحمل معنى مغايرا، ينشد عبره أن "رفقا بي، ليتك تنصفيني، آه لو تنصفيني..!" ف"لو" لم ينبض قلبه لما كان مآله الهلاك و رحمة ينتظرها من ملاك !!
ف سحر حروف اللغة غيرت شكلها واكتست بالمعاني الثنائية ، خلعت معنى الشرط و الجزم لتركن الى التّوسل والاستفهام عن و لمستقبل مبهم ، مجهول التوقعية..
الشاعر اتقن استعمال اللغة و طوعها ، فكان اجمل ما يحسب له ، نفس البيتين بدأ بهما القصيدة ثم قفل عبرهما أواخر النص، لكن على العتبات الأولى، كان منطق القوة هو السائد، هو ما يلفّ المعاني، في حين حلّت المفارقة بالنهاية لتكتسي نفس الأبيات نفَسا مغايرا فصارت نبرة التوسل هي المسيطرة.
فما اعظم اللغة لما يتفنن بها شاعرنا فيجعل من نفس العبارات و التراكيب و ظاهر المعاني آيتان متناقضتان ، تحملان في طياتهما برزخا يفصل الفوارق بينهما ما يفصل بين السماء و الارض .. فلمّا كانت الحروف رتقا موحّدا لمن بسطح اللغة يسبح و لا يفقه ، فإن لكاتب النص ، سلاح ذو حدين ؛ فبقدر ما تآمرت عليه الأبجدية، إلا انه و من موقعه كناظم لحروف القصيدة فقد سبح بأعماق اللغة فكان له أن فتق ما رُتّق وخلق ذاك التنافر الجليّ في المعنيين، من عتبات القصيد الى نهاياته ، من سلطان متحكّم بيده الحياة والموت الى عبد مسكين يرجو الحياة ويخشى الممات، وتتلاحق المتضادات في بنائه للقصيدة ممّا يكسبها رونقا وسحرا يضفي عليها قوة التوغل بمكونات النحو والصرف لتنحو الأبيات بحرا من الشعر والنظم يحدوهما برزخ يفصل بينهما فيشكّل ضفاف موجها ،.. يتنازع المدّ و الجزر بحكم
من العاشق الذي صار هو نفسه في مدّ وجزر تحكمه قوى الحب و قوى فاقت قدراته ، قوى العشق و عاشقة خاوت الملائكة و اتّحدت في جمالها بعناصر الطبيعة لتزيد من إرباك الشاعر ، فأنّى لعاشق أن يتخلّى أو ينجوَ من جبروت ملهمته ، أو يفكّرَ في عصيانها و قد أخذت عنه زمام الأمور ، فما عاد بإمكانه أن يتخلى عنها أو ينساها ..! فهل ينسى الجمال سحر الملائكة ترفل في حلة العفة و الطهر بعفوية!!! .

بسمة حاج يحيى .
تونس


* لو لم يخفق قلبي ...*
شعر : مصطفى الحاج حسين .
لو لم يخفق لكِ قلبي
ما كانت الشّمس تنبّهت إليكِ
ولا استدلَّت عليكِ أسراب القصائد
وما صار لاسمكِ كلّ هذا المعنى
ولا الأرضُ
أزهرت كلٌ هذا العطر
ولظلّ الظّلام
مغلقاً على أوصافكِ
أنا من أخبرَ النّدى
عن خصالكِ
ومن نبّهَ الفراشات
على نبيذِ ضحكتكِ
ومن أشار على القمر الشّقي
أن يسهر على حراستكِ
وصفتُ للموسيقى صوتكِ
فسرقت منهُ الرّحاب
أعطيتُ للسماءِ رائحة أنفاسكِ
فأنجبت المطر
وكشفتُ للأشجار عن قطافكِ
فتراكضَ النّدى على أغصانها
أنا من كلّم الأنهار
عن ريقكِ
فتعلّقَ بكِ الكوثر
وحدّثتُ البحار عن صخبِ عينيكِ
فهاجَت أجنحة الموج
رويتُ للبوحِ مافي أصابعكِ من هديل
وللسكينةِ ماتسكنهُ يداكِ
كلّ العصافير ترفرفُ حولَ مداكِ
والينابيع تترقرقُ لتشرب منكِ الابتسام
لو لم يخفق قلبي لكِ
لما كان للحبِّ وجود
وماكان من داعٍ لأحيا
لأكتب كلّ يوم عن عذابي
من هجرانكِ المُميت .*
مصطفى الحاج حسين .
إسطنبول
** ( المبدع ذو الضفتين ) ..
للأديب والشاعر السوري ( مصطفى الحاج حسين ) .
بقلم الأديبة والناقدة : ( بسمة الحاج يحيى ) ..
للنخيل ظلالها ، باسقات ، شامخات تنافس
الطيور المحلقة بالسماء ، جذورها تُسقى من نبع رقراق سلسبيل .. تُلقي ظلالها حيثما طاب السّمر و اللقاء ..
ذلك هو الأديب الأستاذ ( مصطفى الحاج حسين )
أو ...( المبدع ذو الضّفّتين ) كما سمّاه بعض الكتاب و
النقّاد . فقد لَانَ الحرفُ بين أصابعه، فكتب الشعر منذ نعومة أظافره ، متناولا بذلك قضايا متعدّدة ؛ فسلّط الأضواء على القضايا الإجتماعية كما اهتم بتفاصيل الحياة العامة ببلدته و لم يستثن الشأن السياسيي اثناء تناوله لكل ما يهم حياة الفرد،كما عطّر دواوينه الشعرية بأجمل القصائد التي ألهمها أحاسيسه الصادقة ، فنكهة العشق الشرقي تفوح من خلال رسمه للكلمات و المعاني
..
كما أبدع بكتابة القصة القصيرة ، و بهذا المجال فقد تميّزت كتاباته بالشفافية و المصداقية إذ استدعى شخوصا من أرض الواقع لتستمدّ الأحاديثُ شفافيَتَها من كاتب النص نفسه الذي عكست كتاباته الحياة المتداولة و اليومية و خاصة تلك التي عايشها بنفسه أو عاشها منذ طفولته القاسية وصولا إلى حيث برز في مجال الكتابة .
لذلك فقد اتسمت نصوصه بكشف صريح لهمومه خاصة منها ما يتعلق بالدراسة الّتي حُرم منها منذ سنواته الصغرى لمّا كان بالابتدائي ، ممّا دفع فيه أملاً و إصراراً عظيمين لتثقيف نفسه بنفسه ، فتعلّقت همّته بما وراء المعاهد و الجامعات من علوم ، فنافس روّاد العلم و تفوّق عليهم و الطموح يحذوه لطلب المزيد و دون توقف .. نهل من العلم ما لذّ و طاب ، لم تساوره القناعة و ما أصابه الغرور قطّ . بل كان كلما زادت معرفته زاد معها شغفه لطلب المزيد ...و أجمل ما يؤثّث قصصه تلك الملامح الشفافة للأحداث و السّرد السّلس للمشاهد و ما تتخلّله من حوارات أكثر صدقا من الواقع حيث يتوغّل بأغوار النفس ليزيدها شفافية أثناء السرد ..
الكاتب و الشاعر العصامي التكوين هو من مواليد 1961 و من سكان حلب ، انقطع عن الدراسة مبكراً ، و اضطرّ للعمل بميادين عدة مكنته من الاختلاط بفئات متنوعة من الناس كما خولت له التعرف إلى قضايا المجتمع بمختلف أصنافها ، ممّا اكسبه معرفة و فطنة لأنواع الفساد المستفحل بالعديد من المؤسسات الحكومية ؛ من ذلك الفساد المالي و المحسوبية و عدم الجدية أو غياب الإخلاص بالعمل . و هذا ما أثار غيضه و زاد من شغفه للمطالعة أكثر للإرتقاء بنفسه و فكره عن ذي عالم . فسعى إلى أن يحول كل هذه الملامح على
صفحات قصصه التي طوّع ، أثناء سردها،قلمه فانسابت كتاباته بلهجة ساخرة ،متهكمة على الشخوص الذين كان سخيّا معهم لدرجة منحهم أدوار البطولة ، بل و مكنهم من دور الراوي حيث جاء السرد على ألسنتهم ، فكانت قمة السخرية إذ يضع البطل في موقف لا يُحسد عليه فيعترف بنفسه عمّا يجول بفكره من حقد و أنانية أو نوايا تعفّنت بأعماقه ..
الكاتب و الأديب مصطفى الحاج حسين ، رجل قلّما تجود به الساحة الأدبية ، فبرغم القسوة التي غلبت على تفاصيل حياته من داخل الأسرة أو خارجها ، فقد جعلت منه إنسانا مسالما ، يرفض الظلم للغير و يدافع عن الفئات التي قست عليها الظروف كما قسى عليها المجتمع ، فأوْلى هؤلاء حيزاً لابأس به من مساحة ما نقله في كتاباته ، فأقحم بقصصه ابطالا واقعيّين قست عليهم الحياة و المجتمع على حد السواء .. و من هنا تأتي مجموعته القصصية هذه لتشهد ميلاد ملحمة
أبطالها شخصيات متواجدة بكل زمان و مكان ؛ هم
الإخوة و الاقارب ، هم الأصدقاء و الزملاء بالعمل ،
هم المسؤولون و العمال بمختلف القطاعات ..
المبدع و الكاتب ذو القلم الجريء ، لم يدّخر تفصيلة واحدة ليغوص بأعماق الأحداث، فكتب بكل عفوية و شجاعة مميّزين .
و هذه المجموعة القصصية تحوي خمس عشرة قصة
لا يخلو أغلبها من الرّمزيّة ،فقد ترك الأديب مجالاً للقارئ
ليكمل ما بين السّطور ، فاسِحًا له مجال التأويل بحيث لا يصعب عليه ، خلال قراءته للأحداث ، أن يلحظ البعد الثاني لكل قضية قيْد الدّرس ، خاصّة لما تكون البطلة امرأة أو مستضعفةو ينهش لحمها القريب قبل البعيد ، أو لمّا يقف الجيران مكتوفي الأيدي ، فحتما أنّ تلك الأرملة أو الثكلى بائسة الحال لن تكون ، بمواصفاتها تلك والشبيهة جدا للمضطهدة و السّبيّة ، إلا رمزا لدولة
عربية استخف بها ربّ العائلة قبل ان يفسح المجال
واسعاً للأجوار كي يكملوا رسم عنفهم بجدارة فتكتمل المأساة ..
هذه المجموعة القصصية هي نافذة للآخر ،للقارئ
لكل من شعر بالظلم بأي مرحلة من مراحل حياته وخلال صيرورة البقاء من أجل الحياة ، و لم يسعفه خياله و لا قلمه ليعبر عمّا يودّ كشفه علنًا .
فهذا الكتاب هو بمثابة صرخة عالية ، آهة شاهقة التردد ليعود إليه صدى صوته من خلالها . هي نفحة يتنفس عبرها القارئ ليسمع أنينه لمّا يصير الألم لذاذة نكتبها لتُقْرَأ ، لمّا يصير الشجن وليدا نحضنه و نطبق عليه فنحويه داخل أضلاعنا ، نلفّه كما تلف الأم وليدها ، نلفّ أحزاننا حتى تصير جزءً منّا ، حتى تتشابه ملامحنا به ، فنراها منعكسة بمرآة الحروف تتكاثف و تتراصّ ، تتسع و تتمدّد ، تتوغل بأعماق النفس ثم تسبح بفضاء الخيال
لتكتشف أنك تقرأ للأستاذ ( مصطفى الحاج حسين ) . فتعجب كيف أمكن له مسك كل تلك التفاصيل الصغيرة و التي ساهمت و إلى حد كبير في بناء شديد الارتفاع
استدرج خلاله كل التفاصيل ؛ ذوات ، فواعل ،شخوص ، جميعها تحضر لتنسج كل المعاني ، فيحضر السرد والخطاب منسجمين إلى حدّ الجمالية بلغة سلسة مستساغة ، لكن لا تخلو من إبهار القارئ الذي يمسك بتلابيب الصورة والمشهدية حتى النهاية، فلا نقف معه كــقرّاء ، على فواصل، إذ الكتابة فيض من التشويق، يأخذ بنا إلى ظلال الحدث ، فلا نتوقف حتى نبلغ النهاية .. كالمياه تنساب الكلمات مسترسلة و الحبكة مكتملة الجمالية ، عذبة الخرير ، فلا تشعر و أنت تقرأ
للأستاذ ( مصطفى ) بالملل ، بل هي تأخذك الى عمق الحدث و بكل نعومة الاسترسال .. قلم جريء و معطاء ، بجرة يأخذنا إلى عوالم قصصية تشير إلينا بإحكام ربط حزام الأمان ،لنسافر عبر الكلمة الحرة و الصادقة بأجواء يغلب عليها طابع الواقعية فتُجنّد الخيال فقط لخلق
مسامرة بين هذا و ذاك ، بين نفسك تراها بمواقف و
حالك لو استفدت ممّا هو مغاير ، لتحصل تلك الإضافة من خبرات الكاتب ، فيحصل ما يسمى بالمساهمة خلال عمل تشاركي بين الكاتب و القارئ ،تسهم بها في تطوير ذاتك ، و إلا فما نفع المطالعة لو لم تضف للقارئ فيتمكن من تطوير فكره عبر تجارب الكاتب ؟
قصص تحمل أكثر من دلالة بهذه المجموعة ..
نصوص تحملنا إلى ضفاف النهاية بمهارة ربّان يحمل
أفكاره و تجاربه و بعض خصوصياته مرتسمة ببعض
أركان النصوص ..
قلم مشبع بالسخاء حدّ الاكتفاء ، بل و يحملنا إلى
ارتفاعات شاهقة من الجمالية و ارتفاعات أخرى تفسح
مجال التأويلات المتاحة فيكتسي النص،على يد المبدع
تأشيرة للسفر و التوغل داخل خبايا شخوص القصة ..
مجموعته القصصية هذه ، جاءت لتلخص
مسير حياته و مسارها ، فكان كاتبنا ( مصطفى )"العقاد"
، و هذه تسمية أطلقها عليه الأديب و الناقد الأستاذ ( محمد بن يوسف كرزون ) ، الكاتب والناقد السوري الأصل ، فكان أنموذجا حيّا للإنسان الذي عمل على تغيير الوضع السلبي بمحيطه وبمجتمعه ككل ، لإيمانه بأن الكلمة و الأدب إن لم يغيرا الشعوب فلا جدوى من الكتابة أصلا ..
فإن لم نستظل تحت أغصانها وارفة ، فلن
تكون غابات كثيفة بما تحمله من معان و عبره ترفرف بأجمل الكلم و تهدينا رفيفا عذبا لكل معنى ينساب عند كل نسائمها المنكهة أدبيات ؛ من قصص و شعر ..
تلك هي الظلال ، و تلك هي النخيل الباسقات تحملنا
إلى عوالم قصصية ، ترفعنا إلى التحليق عبر مجموعة « المبدع ذو الضّفّتين » بقلم الأستاذ ( مصطفى الحاج حسين ).. قراءة ممتعة .
بسمة الحاج يحيى
تونس.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى