محمد هلال - رؤية نقدية في رواية نشأت المصري "كائن رمادي".. توتر اليقين يعانق عبثية الحياة!..

كما هو مألوف بين النقاد بأن العنوان هو بوابة النص أو كما يحلو للبعض عتبة النص ؛ وإن كان في بعض الأحيان لايتوافق العنوان مع هذا المنطق.. ولكنه هنا صريح جلي " كائن رمادي " ليس ملغزا أو مواربًا لكنه أوضح من أن يثقل بالشرح .. وحتى تقف على مايقصده المؤلف من فلسفة الرمادية هنا اسمع إليه يقول على لسان بطل الرواية " وليد" لإحدى زوجاته : " ياإيمان، نحن أيضًا علاقة مؤقته بحكم الزمن والموت ".. وعليه لاوجود للإطمئنان مادام كل شيء مؤقت، فكل مخلوق مؤقت بانتهاء عمره ولو عاش ألف عام أو يزيد مثل النبي نوح.. الزمان نفسه الذي نقيس به أعمارنا، مؤقت، والأرض التي نعيش عليها مؤقته، والجبال الراسيات مؤقتة " ينسفها ربي نسفا"، والسماء أيضًا مؤقتة ، حتى الموت الذي يهلكنا مؤقت؛ فإذا قامت القيامة سيموت الموت كما في الحديث.

إذن قلق المؤقت الذي هو قلق اليقين أو على الأصح توتره أشبه بمن يبحث عن الخلود في ضوء شمعة مطفأة ! لكنه رغم تلك الحقيقة الدامغة هو قلق يغزو النفوس جميعًا بقدر أو بآخر ونسب متفاوته ؛ ربما لعدم اليقين بما سيحدث لنا بعد موت نفوسنا وتحلل أجسامنا.. هى على كل حال فكرة ترتدي ثوب الفلسفة لكنها ليست فلسفة بالشكل العلمي فهى فكرة عامة يشترك فيها البسيط الذي لايقرأ ولايكتب مع الذي لايبرح المكتبات والكتب ومعامل التجريب والمخترعات.. فكرة نفسية تغزونا بعد إكتساب العديد من الخبرات وتراكم التجارب الحياتية سلبًا وإيجابًا .. ومن هنا تولد الرمادية عند الشيوخ .. وهنا يستوى الغث والسمين في نظر البعض لأن الكل مؤقت ، ومؤقت يعني زائل أو بنص القرآن الكريم :" كل شيء هالك " القصص 88 .

تُرى لهذه الفكرة ـــ كراهية المؤقت وحب البقاء ـــ أو قل الصراع النفسي من أجل الديمومة التي هي عكس المؤقت جذور قديمة يمكن الرجوع إليها وتأصيلها ؟ نقول: بكل تأكيد نعم .. فقد ورثها البشر عن أبيهم آدم .. وما كانت غواية آدم ومعصيته والأكل من الشجرة المحرمة إلا الإنتصار على المؤقت، طمعًا في الخلود والمُلك الذي لايبلى .



وهنا تتجلى ملامح تكنيك الرواية بهذا الصراع فقد عمد المؤلف أن لاتكون فصولًا عادية كما هو المتبع، واستبدل الفصول بمسمى "الجولة " ؛ الجولة الأولي ، الجولة الثانية وهكذا .. وكأننا داخل حلبة مصارعة أو ملاكمة .. وذلك يليق جدًا بفكرة الصراع مع المؤقت وتوتره.. هو ليس صراع العراك والمغالبة والصمود ولكنه صراع من نوع آخر فرضته طبيعة الحلبة والمصارع الآخر القوى الجبار" القدر".. فكان صراع المُتعب الذي لايملك من الأمر شيء إلا الاستسلام . . فالرمادية هنا هي الأصل الصريح عكس مايقول منطق الأشياء إن الأسود لون صريح والأبيض لون صريح وبمزجهما يأتي اللون الرمادي .. ربما يليق هذا في دنيا الألوان ، ولكن في عوالم النفس البشرية فالرمادية هي الحقيقة الكامنة في اللونين .. صحيح ليست حقيقة صارخة أو معلنة لكنها كامنة كمون النار في الحجر.

وهكذا نرى منغصات آدم القديمة تتجدد في " وليد" .. وبالمناسبة اسم وليد موفق جدًا ليس لأنه بمعنى مولود ولكن بما يوحي بصغر سنه.. لأن داخل كل إنسان كبير السن طفل يقول له: لست كبيرًا .

لاأنسى مقولة أو تغريدة فنان تشكيلي كبير مقامًا وسنًا يعتب على " المؤقت" وسرعة دوران عجلة الحياة قائلًا: " هي الدنيا مستعجله ليه قوى كدا ؟! " .

ـــ ملمح آخر .. حول اسم رمادي.. أو الرمادية المأخوذة من الرماد .. الذي يجلب لذاكرتنا كلمة " التراب" .. فلو كان العنوان كائن ترابي.. لأختلف الأمر تمامًا.. فالتراب يمكن إضافة الماء إليه ويتم تشكيله أو الزراعة فيه يعنى تكمن فيه الحياة .. أما الرماد فهو نتائج إحتراق مواد إشعال الأفران في القرية والحمامات العامة في المدن لايمكن أن يكون وحده تربة تصلح للزراعة، أى للحياة .. وكم كان عبقريًا وأظنه الحس الجمعي بمدلولات اللغة حين قالوا في عام الشدة في خلافة عمر بن الخطاب " عام الرمادة " .

من وحى الرواية تتجلى عدة مستويات من الرمادية، الأولى وهي الرمادية الفلسفية والتى هى نتاج نظريات وأسئلة كونية عن الوجود وماهيته وهذه لاشأن لبطل الرواية بمعالجتها.. ثم الرمادية العامة ـ إذا صح التعبير ــ الحاصلة عن تراكم الخبرات كما أوضحنا وهذه أيضًا لاتليق ببطل الرواية ولا يصلح لها وإن كان يتكلم بمثل كلام أصحابها: " أغلبية من حولي رماديون ولايشعرون بذلك كأنهم مصابون بعمى الألوان والأفكار.!" .. " أنا لا أخاف الموت لأنني لا أعرفه لكنني أخاف الألم وأهرب منه ."

نوع ثالث من الرمادية يمكننا وصفه بالرمادية المَرَضية وهى ماعليه بطل الرواية .. فهو وإن كان يبدو متزنًا بليغ العبارة في أحايين كثيرة إلا أنه في حقيقة أمره مريضًا نفسيًا.. يشى بتلك الحالة تصرفاته التى يمارسها بأنانية شديدة .. فعندما هبطت عليه ثروة من حيث لايحتسب كمن يعثر على كنز مدفون أو تصادفه قطع آثار ثمينة أو مات عمه الذي في البرازيل وهو وريثه الوحيد ــ كما تفعل الأفلام العربية قديمًا ــ لم يفكر صاحبنا في عمل مشروع خيري بسيط باسم السيدة التي وهبته تلك الثروة الطائلة فيما يسمى صدقة جارة بل لم يتذكرها أو يذكرها حتى بدعاء طيب . أيضًا لم تراودة خواطر الاعتناء بزوجته المريضة التى عاشت معه الحياة بحلوها ومرها حتى أقعدها المرض ..مثل فكرة السفر بها بحثًا عن الشفاء في بلاد الطب المتقدم يشجعه على ذلك وفرة الثروة، ولم يسأل نفسه : ماذا لو كان الوضع مقلوبًا .. هل كانت ستتركه في مرضه وتذهب لتعيش حياتها؟! ولكنه فكر أول ما فكر في جارته القديمة التى ترفض الزواج منه ومن غيره ؛ فالسياق يؤكد أنه كان يشتهيها رغم كبر سني عمرها.. وأمام سطوة المال ووفرته فرح الأبناء ووافقت تلك السيدة وفرح هو لتحقيق رغبتة كانت مستحيلة.

ترك الزوجة المريضة ولم يفكر في جلب خادمة تعتني بها.. وترك البلاد وسافر إلى اسطنبول ليعيش حياة الرفاهية .. ولأنه رمادي مريض نفسيًا لم يجد الهناءة والسعادة في تحقيق ماكان محرومًا منه .. فيعود مرة أخرى إلى القاهرة . ومن جديد تعصف به رماديته المريضة، فيسافر إلى مدينة المنصورة ويصادف " السيدة رحمة" تلك السمراء التي أخذت بتلابيب نفسه، رغم قلة جمالها وكبر سنها ، ووجدت فيه فارسها المأمول والمتاح فللثروة سحر وقوة باطشة .. والنماذج على ذلك كثيرة .

وفي لحظة هدوء "المرض الرمادي " يقذف بحقيبته الرمادية ويقرر إجراء عملية المياه البيضاء في عينه .. وكأنها لحظة الخلاص والشفاء والإنعتاق من تلك الرمادية .. وأغلب الظن أن مثل هذه الشخصيات لاشفاء لها ولو افترضنا جدلًا أن امتدت " حياة الرواية" جولة أخرى لو جدناه في علاقة جديدة مادام بين يديه مايوفر له ذلك وهي أموال السيدة التي لايذكرها حتى بدعاء .

يبقي أن نقول : نجح الكاتب بشكل كبير في رسم تلك الشخصية المعقدة واستبطان الصراع الداخلي والتمزق الرمادي المرضي الذي يفتتها رغم مايبدو عليها من وجاهة وصلابة وجاذبية .


2.jpg



1(1).jpg




3.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى