سعد محمود شبيب - إنعام كمونة والإبحار في منجزها: قراءات جمالية لنصوص حديثة..

نخالُ قلمها لم يزل ينبض بثقل غير مسموع لكنه يسابق الريح بأجنحة من نار ، حباها الله ان تصف كل شي كما هو : تألق المبدعين والام المعذبين وجراحات المنسيين والذكريات المطمورة مع الراحلين ، الطرقات ، الجامعات ، الناس، والكمد والآهات ، كل شيء ترسمه كما هو ، حتى جعلتنا عند بعض سطورها، نشعر انها لم تعد تنتمي الى هذا العالم ، تنسلخ عن الوجود وتحلق نحو عوالم أخر، تصفها بعمق َوان لم تطأها قدماها، وتتغلغل بأعماق أنفس لم تدرك بحكم عمرها اصحابها، وتلك هي الناقدة الكبيرة والشاعرة المميزة، إنعام كمونه، نسغ التأمل والضياء ..
لقد اغترفت هذه الأديبة اللامعة من خزين الثقافة العميقة وسعة الاطلاع والمقدرة على صياغة الشعر، فوقفت على أطلال عشق قديم واستضاءت بقنديل يكاد أن ينفذ زيته ، لتزور قبر السياب، وتبحر في قصائد عميقة لشعراء كبار مثل شلال عنوز، والدكتوره سجال الركابي، والسياب نفسه، وسواهم كثير، فاستجمعت أشلاء ناي مهشم لتولد سطور من رحم العدم حيث تحلق فوق اللا مكان ، كلمات تحاكي المشاعر العميقة َوالارهاصات المكتومة لاصحابها، فولد من النص الواحد نصوص جديدة، يمكن ان يكون كل منها اغرودة ادب قائمة بذاتها.

تخاطب من ظلمتهم الحياة ومن جحدتهم القلوب ومن سكنتهم الانكسارات ، كما هي عادتها وهي تحمل ضمادها في حقيبة القلب لتحاول مداواة الجروح ومداراة الأنفس التي تكتم الآلام العظام.

يقع الكتاب بما يزيد على عشرة فصول، كان الجهد الذي بذلته المؤلفة واضحا وكبيرا وشاقا في آن واحد، ذاك ان الإبحار في خلجات النفوس اصعب من الإبحار في الخلجان والمحيطات دون مبالغة.
عند مطالعتك لأول فصل من كتابها، وهو يتناول نقد بحث طويل للشاعر عبد الجبار الفياض، تبحث الشاعرة والناقدة كمونه حياة السياب بعد ان تزيح التراب عن شاهد قبره، وتميط اللثام عما خفي من حياته، عبر التعمق بقصائده او ما نطلق عليه الفاظ : الحدس والتحسس والقراءة للنص بعيني صقر، والكشف عن مكنونات روحه واسرار حياته بشقيها : المشرق والمظلم.
ثم تبدع المؤلفة اكثر وأكثر حين تتناول قصيدة للشاعرة الدكتوره سجال الركابي، فتكشف المؤلفة عن مقدرة كبرى في سبر اغوار الادب النسوي كونها واحدة منهن، تتحسس مشاعر بنات جنسها وما يصبين اليه وما ترمي نحوه نصوصهن، فتضع كل بيت منها تحت مجهر البحث، وتحلله لغويا وفلسفيا وواقعا لتخرج لنا بقطعة ادبية مشرقة لأديبة متألقة..
وحين تتناول مطر الدفء للشاعر شلال عنوز، وما نسجته ايادي المبدعين : جاسم حمد ال الجياشي، فاطمه السعدالله، وليد العرفي، قصي الفضلي، شاهين الدوسكي وسواهم.
، ستكتشف من خلال تحليلاتها أن من أصعب الصعاب هو الخوض في البديهيات ، وأن تنسلخ عن المتعارف عليه، فكانت كتاباتها أشبه بقمر لا يقيده مدار ، وصورة تمزق الحصار والإطار ، فهي تتساءل في المألوف وتصيب بالدهشة كل من حولها، فيتساءل أحدنا مع نفسه عن عدم غوصه في أعماق هذا المألوف ، وكيف فاته سبر أغوار الثوابت مثلها، ليكتشف أننا نحن الثوابت الواهمين ، وكل ما حولنا يتجدد ويتغير رغم ثبوته في أذهاننا كحقيقة مجردة .
فالنص الشعري يبحث دائماً عن فضاءات الرؤيا , تعينه مساحة المقدرة الشاسعة في اللغة حد الموهبة فيها ، لأنَّ الشكل وحده لا يمنح الشعر البقاء أو الحياة .
والشاعر المتمكن - بطبعه - يحاول أن يقبض على اللا محدود من الكلمات , لذلك يكاشف اللغة برموز يعرفها هو , مخافة ضيق الدلالة.
إنَّ قراءة عميقة لنص الشاعرة هذا ، تشترك فيه رموز وتأويلات عدّة , منها كشف المخبوء , وترميز المكبوت , المتمثل بالآخر المحتفي بحمولات عدّة دالّة على تصورات خيالية , ومثل هذه اللغة الرامزة هي التي تمنح النص فرضية التنوّع الجميل ، التنوع الذي لا يدع تسربا لقطرة من ملل ، بمضمرات خفية زرعتها في بطن كتابها , الأمر الذي يدعو القارئ لأن يقف طويلاً عند كل سطر.
فالكشف عن المعنى لا يقل أبداً عن كونه استنفاراً لطاقة المتلقي الذي يربط وعيه بمدركات عالية ، قد تبلغ منحى (الما ورائية) وبشغف إنساني واضح لا يخفى على طفل صغير يتوق للّعب والحنان، أو طاعن في السن يشتاق ليد حانية تعينه على مبارحة كهفه الداكن المعتم، وغايتها الكبرى العظيمة ، بالمنظور لا الخفي المستور الذي يتستر بالتكهنات ، ليتحقّق كشف النص ولذّة معانيه عبر فلسفة الاستقراء وعدم اليقين بشيء حتى تجربته ، فلسفة ليست بالمنحى البرغماتي الذي قد يتهم بالإلحاد ، فالرب عندها واحد أحد ، هو الخالق الصمد الذي لم يُخلق والموجود بذاته ، لكنها تؤمن بالعقل الذي يقف عند كل شيء مدققا، مسجّلا، محصيا ، مجربا، صانعا ومبدعا..
إن الذي يدعو للغرابة ,هو أن الكاتبة وكلما اقتربت من ذاتها , تنكّرت لها , حتى تنال حظّها من الفرادة والسمو في القصيدة , ويبدو أنها أدركت طريقها، بعد أن علمت أن عدم الخضوع والركون إلى الواقع , هو في جوهره , انفتاح للفكر , واتساع لأفاقة الدالّة على التثمير، فسبرت اغوار معان فلسفية عميقة، وتطرقت نحو نيرفانا التي ضمتها بعض النصوص، وهي
مرحلة التغلب على ميول الرغبات بالإنعتاق والتحرر من هوية الذات, وبالأحرى الوصول لمرحلة السكينة والسعادة.
كما وربطت بين النتاجات الادبية والمونولوجيا اي الحوار مع النفس أو مناجاة الذات، معتمدة كذاك على
الابستومولوجيا أو نظرية المعرفة ، أحدى مجالات الفلسفة التي تُستخدام العقل والحواس لإكتشاف العالم المحيط بالحدس... فضلا عن السوسولوجيا ، والانثروبولوجيا علم الإنسان وما يحيط به من بيئة ، والتي ادخلتها عالم الادب فاصبح الادب متلونا بالفلسفة، والفلسفة مصطبغة بالادب.

ومن هنا ، تبدو القصيدة لدى الناقدة كمونه، إرثاً روحياً ترسّخَ فيه ذلك الصراع القائم بين الأنا والآخر , الآخر الذي يتداخل مع ذوات أخرى بقصد تهميشها . ويفترض منّا هذا التأويل , أو الظن , علاقة متبادلة بين التابع والمتبوع .
وبناءً على التأسيس , يمكن لنا أن نفهم دلالة القصيدة عند الشاعرة , على أنها نتاج تغيير وخلخلة في العلاقة بين طرفين يحكمها منطق الشوق الذي لم يثبت على حالة واحدة .
وفي مناخ هذا القصد , يصبح الفهم لدينا , انبثاقاً من تجربةٍ ذاتية روحية مفادها الوصول إلى تصوّر جديد للبحث عن الذات الضائعة بين الباطن والظاهر , والثابت والمتحوّل, عبر أفكار تحاول أن تغيرّ الواقع المفروض , وتطابقه مع واقعها هي , فتتخيّل شيئًا خارج دائرة الواقع المحسوس , بدءًا من الخارج ( المكشوف ) وصولًا إلى الداخل ( المخفي ) أو المكتنز بالكثير من أفكار الذات كي تصل الحقيقة التي تبغيها، وهي لم تصل الحقيقة فحسب، بل النجاح في بلوغ قمة الادب والنقد والجمال والابداع النادر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى