يبات علي فايد - همهمات في قصيدة (عشتار قلبي) للشاعر توفيق قسم الله

استهلال:
أول معرفتي بالشاعر توفيق قسم الله كان اطلاعي على نص له من قصائد النثر تلكم، فسخرتُ منه كلَّ سخرية، واستعجبت من ذلك الشاعر، وتلكم الشاعريَّة.
للأسف وقتها لم يمدني أيٌّ من معارفه بشعره محتجَّا له به، أو مدافعا عنه بعرضه، بل قامت قيامة صغيرة بين معارفه، وبيني، أما توفيق فقد هاجمني حينها، وتوعدني كثيرا بنقد شعري سلبا، ثم فوجئت ذات طواف على الأزرق، بنص له، بعنوان: (إمبا) كان مما أعجبني جدا، فنشرته على صفحتي مبديا إعجابي الشديد به، ولمتُه أن ينشر مثل تلكم الأباطيل العاجز أصحابُها عن إتيان الشعر، وهو القادر على قول هذا الأدب الرفيع. وهأنا أُدرج في استهلالي هذا مطلع تلكم القصيدة التي عرفتني عليه بصورة مخالفة لتلكم الترهات.
"هيّا ( تودّبْ)
حان وقتكِ فاصهلي
عرقُ الجباه السمرِ أصبح انهرا
وقلوبُهم تمتدُّ ناصعةَ البياض
من المحيط إلى الخليجِ تجذُّرا
مِنْ رائحٍ خلف الزمان
ومقبلِ
لا تسألي عن ظالمٍ
هزّ العصا
لا تسألي
امبا
وعينُكَ حائرة
ما بين أمرٍ واقعٍ
نكأ الجراحَ
وذاكرةْ".
* إمْبا ( جبل باللغة التقرنية.
* تودّبْ ( لغةً تعني أنتظمْ باللغة التقرنية، وهو نوع الرقص للثوار الإرتريين بعد النصر أو عند الترفيه.
أقول: ثم انطلقت الصداقة بيننا، أدامها الله.
أما النص الذي اخترته للهمهمة حوله فهو نص (عشتار قلبي):
"وأكتبُ شعرًا..
وهذا فؤادي
إذا جفّ مني يراعي..
تكلّمْ
تألمتُ ..
لكنما هكذا الحب
لا حبَّ إن لم أعانِ
ولمْ
أتألّمْ
وشوقي إليكِ
وقد جاوز الحدَّ
صلّى العذاب عليه..
وسلمْ
.
وكلّ الذي فات من باردِ العمر
إذْ لم يكن فيه وجهكِ..
أبكي عليه..
وأندمْ
.
أنا يا فتاتي
عصيٌّ على الحزنِ
لا كالشواهق..بل.. وأشدّ
ولكنْ
أمام جلالة عينيكِ..
هشٌّ ضعيفٌ..
محطّمْ
وحبّكِ صعبٌ
ومن لم يكن بحليمٍ
وكان الهوى عنده قاب موتٍ
فأحرى به
أن يداريَ
أحرى به فوق ذلك
أنْ..
يتحلّمْ
ولم يكفِ ما كان مني
ولا من جنوني
فما زلتُ بي
أتتلمذ حبًا
وما زلتُ بي ..
أتعلّمْ
وقلتِ لماذا...؟!
فقلتُ :
لأنكِ عشتار قلبي
وليس كمثلكِ أنثى
بها أنا دون سواها
أنا عبقريٌّ وملهَمْ
أقول
بكل اختصار
ومن غير شرحٍ
لأنّكِ أنتِ
لأنّكِ أنتِ
لأنكِ..
حبي المعظّمْ".
هذا نص شاهق، شاهق شاهق، فيه الكثير من الإبداع والتميز، والتأنق. بل فيه الكثير من اللغة الرفيعة التي تسمو بك شجنا شجنا. ثم إنَّ لتوفيق تعابيره الخاصة التي ابتدعها، ولعلها سعة ثقافته، ومعرفته بعديد الألسن، فتعدد الألسن مما يهب تعدد الثقافة، وبالتالي الاستفادة من تلكم الثقافات في الكتابة، لتسمو بالأدب سموا عجيبا.
لا أظنني أحتاج إلى التنبيه إلى أن القصيدة على المتقارب ذي التفعيلة فعولن، ولعل تأكيدي هذا ناتج عن اختزاني بعض النصوص التي تمثلت بالتفعيلة والتفعيلة منها براء، ولعلي قلت ما قلت التفاتا إلى أولئك الذين يرصون الحروف ظنا منهم أن الشعراء حينما يكتبون شعر التفعيلة هكذا يفعلون دون ضابط لهم ولا رابط، وأنهم يأتون بين الفينة والفينة بقافية، ويقيني أن الأمر ليس بتلكم السهولة، فلينظر أحدكم ما يكتب.
ثم إني من بعد تأنٍ ونظر في شعر التفعيلة، أستطيع أن أقول أنه أصعب من الشعر العمودي، ولقد رأيت كبار الشعراء المحدثين، الذين يتعاطون الشعر العمودي وشعر التفعيلة وهم يخطئون في النوع الأخير هذا، وهم الجهابذة في الشعر العمودي. ومجمل قولي إن الشعر العمودي مما يصعب ضبط إيقاعه، وهو خدَّاع مخاتل، إلا لمتمرِّس فطن، ويقيني أن توفيق منهم.
يستفتح توفيق النص بمقدمة مذهلة إذ يقول:
"وأكتبُ شعرًا..
وهذا فؤادي
إذا جفّ مني يراعي..
تكلّمْ".
فهو يقول لحبيبته، أنه يكتب لها شعرا، ثم إنه سيكتب إلى أن يجف يراعه، بنفاد حبره، لكنه لن يتوقف، فلئن جف قلمه، فإن فؤاده سيتولى أمر التحدث إليها، علما بأن قلمه لم يجف، وإنه إنما يطمئن حبيبته تقربا، وتحببا، وتزلفا.
ثم إنه يقول لها:
"تألمتُ ..
لكنَّما هكذا الحب
لا حبَّ إن لم نعاني
ولمْ
نتألَّمْ"
يا لروعة الشعر! يا لجمال التعبير، يا لمعرفة اللغة!
يقيني أن من يقرأ للشاعر توفيق سيتعب معه إن لم يكن ملما بالعربية بقدر، ذلك أنه يكتب عن خلفية ثقافية هائلة، وعن تمكن شعري كبير.
ها هو يقول لحبيبته: تألمتُ، ثم يتدارك مقولته بتودد جميل لها فيقول: لا تبتئسي لما بي، فإن الحب هو المعاناة والألم، وإن من لم يتألم، ولم يعانِ ما أحب قط، ثم يتودد لها بمقولة جميلة جدا وهو يقول:
"وشوقي إليكِ
وقد جاوز الحدَّ
صلّى العذابُ عليه
وسلَّم"
وها هو يحدث عن شوقه إليها، وليس شوقا فقط، وإن كان الشوق كافيا، كونه نزاع النفس إلى الشيء تلهُّفا، فهو يضيف على التشوق مجاوزة الحد، ويقيني أنه يعني حد الاحتمال، والتصبُّر، ثم إن هذا الشوق صلى عليه العذاب، وسلَّم، بمعنى أنَّه ترحَّم عليه العذاب ذاته، وسأل له السلامة إشفاقا مما يكابده.
ثم يقول لها:
"وكلّ الذي فات من باردِ العمر
إذْ لم يكن فيه وجهكِ..
أبكي عليه..
وأندمْ"
إنَّه يجعل كل ماضيه خسارة تستحق الندم والبكاء، إلا ما كان فيه وصالها له، وليس هذا فحسب، بل إنه جعل ابتداء كل ما مضى من عمره بدونها بارد، في وصف عميق، "بارد العمر"، هذا الوصف المذل المستحدث، حالةٌ لا حياة فيها، ولا دفء، ولا نبض، فكأنَّ حياته بغير حضورها ممات، أو أشبه بالممات.
ثم يقول:
"أنا يا فتاتي
عصيٌّ على الحزنِ
لا كالشواهق.. بل.. وأشدّ
ولكنْ
أمام جلالة عينيكِ..
هشٌّ ضعيفٌ..
محطّمْ"
يا لروعة الوصف! ويا لجلال التقاء القوة بالضعف في صورتين متحدتين لتكون صورة أروع أروع!
فهو يخبرها أنه لا ينتابه الحزن، فهو في صموده كالجبال صلابة وصبرا، والأدهى أنه يقول لها أنه أشد، ثم يستدرك قائلا، ولكني أمام عظمة وجلال عينيك، هشٌّ ضعيف أنا، بل محطَّم، ويا للهوى!
ويمضي توفيق في النص بذات الجمال إلى أن يقول:
"ولم يكفِ ما كان مني
ولا من جنوني
فما زلتُ بي
أتتلمذ حبًا
وما زلتُ بي ..
أتعلّمْ"
فيقول لها:
لم يكفِ ما كان مني من حِلمٍ، وصبر عليك، وعلى إبائك، وانصرافك الممض، وتدللك المتعب، وإعراضك القاتل، كما لم يكفِ ما كان من جنوني حينا يأسا من إقبالك، إذ ما زلت تلميذا في الحب، أتعلم في مدرسته. وهو ههنا إنما يتزلف إليها، ويتقرب، ويتحبب بإيجاد الأعذار في جنونه، والتماس العذر لنفسه في حِلمه عليها.
ثم إنَّها تتساءل عن كل هذه الأحوال المتقلبة، والتعلم في مدرسة الحب، مستعجبةً فيأتي بسؤالها الذي يجيب عليه في تودد، من ذكر جمالها، ووصفها الذي لا مثيل له فيقول:
"وقلتِ لماذا؟!
فقلتُ :
لأنكِ عشتار قلبي
وليس كمثلكِ أنثى
بها أنا دون سواها
أنا عبقريٌّ وملهَمْ
أقول
بكل اختصار
ومن غير شرحٍ
لأنّكِ أنتِ
لأنّكِ أنتِ
لأنكِ..
حبي المعظّمْ".
يا لعظمة الختام، وروعته:
إنه يجعلها سيدة عبقريته، وإلهامه، ومواهبه، ثم يختم لها، ولنا معها، باختصار السبب الذي جعله بهذه الصورة من التقرب والتذلل، والتودد والتزلف، والضعف والهشاشة، فيقول:
"لأنك، أنت" في تكرار باكٍ ومتوسل، ليختم بخاتمة غير متوقعة، فيقول لها: لأنك حبي المُعظَّم، ووالله لو قال حبي العظيم لكفى، لكنه جعله معظَّما، زيادة في المعنى تعظيما.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى