عبدالرزاق دحنون - في ذكرى رحيل القاص السوري تاج الدين الموسى

القاص تاج الدين الموسى يتحدث قائلاً:

سألني الأديب الصديق "خطيب بدلة" في لقاء أجراه معي، لجريدة النور نشر في أوائل هذا العام/ 2009/ ما الذي جاء بك من عالم النفط إذ درست إلى عالم الأدب؟ فأجبت: «من يطّلع على تاريخ الأدب في بلدنا، أو في سواه من البلدان العربية أو العالم سيجد أنّ معظم الأدباء، وأهمّهم على الإطلاق في كل بلد قد جاؤوا إلى عالم الأدب. وليس في جيب أيّ واحد منهم أيّة شهادة عليا من كليّة آداب، أو متوسطة من معهد أدبي، أو حتى شهادة الثانوية العامة الفرع الأدبي، بل جاؤوا من عوالم أخرى...عندنا مثلاً "نزار قباني" و"حسيب كيالي" تخرّجا من معهد الحقوق، "العجيلي" جاء من الطب، "محمد الماغوط" جاء من الثانوية الزراعية بـ"سلمية"، "حنّا مينه" كان حلاقاً، و"زكريّا تامر" حدّاداً، وآخر شهادة حصل عليها "عبد الرحمن منيف" كانت الدكتوراه باقتصاديات النفط من يوغوسلافيا، وهو الذي انعطف إلى الأدب بعد خيبته من العمل السياسي، وبعد أن عمل لبعض الوقت مديراً تجارياً لشركة محروقات ـ ساد كوب ـ الشركة التي أعمل فيها أنا منذ ما يقرب من عشرين عاماً..

أعتقد أنّ الشهادة العلميّة تؤول إلى ثقافة عامّة في سياق العمليّة الإبداعية التي تقوم أساساً على الموهبة والخبرة الناتجة عن المطالعة، فالدوام في مختلف صنوف وصفوف مدارس الحياة واختصاصاتها من السهر في الكباريهات، والدبكة، والرقص مع الحجيّات، وصبّ البيتون بالتنك على الكتف، وتعفير الزيتون، ولقط السنابل مروراً بحضور الموالد وحلقات الذكر، وضرب الشيش، وإقامة صلوات الجماعة وراء أئمة عليهم القيمة في المراحل المبكّرة من العمر، وأخصّ المرحلتين الابتدائية والإعدادية بين عام 1964 وعام 1973، وإلى حدّ ما الثانوية فيما بعد، وفي قرية غارقة في الفقر والأميّة والعبادة ــ"كفرسجنة" الواقعة جنوب غرب معرة النعمان 20كم يعيش ــ بعض من أهلها في المغاور، ماؤها من السماء وضوؤها من الفوانيس ولمبّات الكاز، وأقرب طريق معبّد يبعد عنها مسافة عشرة كيلو مترات، ولم تكن تعرف بيوت أهلها من الكتب سوى المصاحف، وبعض كتب السير الشعبية، وفي مقدمتها تغريبة بني هلال، وبالتالي فإنّ ظهور الموهبة يبدو من المستحيلات أو من عجائب الدنيا.

وإذا ما صادف وظهرت، فإنّها ستذبل في القريب العاجل لأنّها لن تجد من يسقيها، وهذا ما جرى معي أنا بالذات، فلا زلت أذكر من تلك الأيام، وأنا في الصف السابع أو الثامن أنّي كنت أرسم صوراً لـلرئيس "جمال عبد الناصر" أنقلها حرفياً عن صور جاهزة له بعد تقسيمها إلى مربّعات، وأنحت من الحجارة الكلسيّة الطريّة التي كنت أحضرها من "المحفارة" على أطراف الضيعة، بعض أنواع الفاكهة مثل الموز والتفّاح والبرتقال، أو بعض الأدوات مثل الخناجر، وسكاكين الكبّاس، وكتبت بعض القصائد التي لم تكن تتجاوز الخمسة أبيات منها قصيدة ما زلت أذكر أنّ موضوعها كان الندم على يوم من أيام شهر رمضان أفطرته عامداً متعمداً.

إنّ لنشأتي في مثل هذه البيئة الكئيبة التي افتقدت فيها إلى الحذاء الخاص بي قبل ذهابي إلى المدرسة في السابعة من عمري ـ علماً بأن الأحذية المتداولة في القرية في تلك الأيام لم تكن من الأنواع الثمينة بل كانت من "الصرامي" الحمراء، أو من النوع المطبوخ من إطارات السيارات البالية والتي تصدر أصوات مضحكة عندما تتعرّق.

هذه النشأة جعلتني منذ بداية تشكّل الوعي لدّي أنشغل بحكاية العدالة الاجتماعية التي اكتشفت فيما بعد أن هناك تعبيراً عنها في الفكر الماركسي، فانحزت إلى هذا الفكر. إن هذا الانحياز إلى هذا التيار الفكري ـ السياسي القائم على فلسفة التغيير نحو الأفضل، الشعار الأقرب إلى قلوبنا في تلك الأيام، ولأنّ التغيير بحاجة إلى ثقافة واسعة، لفهم الواقع وتفسيره حتى نتمكن من تغييره أقبلت على القراءة خصوصا في الفترة التي شكّلت العقد الثالث من عمري أي بين العشرين والثلاثين، واكتشفت لاحقاً أنّ حكاية التغيير مسألة في غاية التعقيد، والصعوبة، وليس كما كنت أعتقد، وربّما تحتاج إلى زمن طويل، وهزّ أكتاف، وإلى أجيال وأجيال، فلجأت إلى الكتابة في أوقات الفراغ، كخيار آخر للبحث عن ذاتي التي وجدتها في الأدب أكثر من السياسة، وحين شرعت "أخربش" كنت أقترب من الثلاثين، وعلى اطلاع على تجارب قصصيّة وروائية وشعريّة ونقديّة هامّة، لهذا لم أمر بعثرات المبتدئين، وتمّ التنويه من الشاعر الصديق "شوقي بغدادي" ـ لم أكن أعرفه شخصياً في تلك الأيام ـ بأول قصة أكتبها وتنشر لي في صحيفة الأسبوع الأدبي التي يصدرها اتحاد الكتاب العرب، ذلك في النصف الثاني من عقد الثمانينات، وفي عدد من أعدادها الأولى إذ كان يقدّم الأصوات الجديدة على إحدى الصفحات، ولم يصدّق في حينها أن صاحب قصة " زهرة " من الأصوات الجديدة، وظنّ أنه اسم مستعار.. أما لماذا القصة، وليس الشعر أو الرواية أو المسرح؟

أعتقد أنني لست من أصحاب البال الطويل، ولا مّمن لديهم الوقت الكافي للجلوس إلى الكتابة، أو الذين يصبرون على الجلوس لساعات طويلة، أو للاستعجال بالنشر، أو تكون القصة اختارتني دون أن أدري، وعلى كلّ حال أقول أنا كاتب بالمصادفة، وفي أوقات الفراغ، فأنا كاتب هاو لهذه اللحظة، ولم أحترف الكتابة، لأنني أداوم ثماني ساعات بدائرة حكومية وأنام سبع ساعات، والمتبقي لتأمين حاجات البيت، ثمّ للقراءة، ولا يبقى للكتابة سوى القليل، لهذا وخلال ما يزيد عن عقدين من علاقتي بالكتابة أو ما يقرب من ربع قرن لم يصدر لي أكثر من خمس مجموعات قصصية، وتمثيلية تلفزيونية بالإضافة إلى مئات المواد الصحفيّة من زوايا وتحقيقات وقراءات لكتب، هناك ثمّة من يقول إن هذا العدد قليل، لكني بيني وبين نفسي أقول إنه يكفي ويزيد، أصلا لو لم أنشغل بمرض السرطان الذي تسلل إلى صدري قبل نحو سنة ونصف، وأفسد عليّ حياتي الضيقة بالأصل كنت أفكر بالانتقال إلى كتابة الرواية كخيار آخر للتعبير عن نفسي ذلك بعد التفكير بالاستقالة من الوظيفة إذ يصبح لديّ الوقت الكافي للكتابة.

تعددت الموضوعات التي تناولتها في قصصي على الرغم من وجود من أطلق عليّ كاتب القرية، مثل هذا الكلام يحمل الكثير من الحقيقة طبعاً، فالمكان عندي مكوّن رئيسي من مكوّنات القصة، وهو الذي يمنح النكهة المميزة للنص، رحمان لا يمكن للإنسان أن ينساهما حتى يدثّره التراب رحم أمه، ورحم الأرض التي خطى عليها أولى خطواته...لهذا نرى أن معظم الكتّاب لا يكفون عن تناول موضوعات يستقدمونها من الأماكن التي ولدوا فيها، وعاشوا فيها كأطفال وشباب صغار قبل أن تستقطبهم المدن للدراسة والعمل. "حسيب كيالي" كم عاش في إدلب؟ بضع سنوات لا تتجاوز العقدين، وعلى الرغم من ذلك لا تخلو قصة كتبها من "إدلب" وأهل "إدلب" ونكهة "إدلب". أنا لهذه اللحظة أجد نفسي في النص المتعلّق بالقرية أكثر، وهذا ما يلحظ في مجموعاتي القصصية الثلاث الأولى "الشتيمة الأخيرة" و"مسائل تافهة" و"حارة شرقية وحارة غربية" أما في مجموعتي الأخيرتين "سباق بالمقلوب" و"الخائب"، فتحضر المدينة إلى بعض القصص، أمّا بالنسبة للأسلوب، وعلى الرغم من الحديث عن موت المؤلف في مدارس النقد الحديثة، فأنا مع الرأي الذي يفيد بأن الأسلوب هو الكاتب نفسه، لأن قصصي تشبهني، وبهذا الخصوص لا يصحّ في الأديب المثل الذي يردده أشقاؤنا المصريون: «أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه»، لأنّّه من المعيب أن يكذب الأديب...أن يكون فاسداً.. أن يداهن، أو يتملّق، أو ينبطح لأحد.. أديب من هذا النوع لا أعرف مدى الصدق الذي سيميّز نصه حتى على الصعيد الفني.

عن الكتّاب الذين أثروا بي أقول: إنه لا يوجد كاتب لا يتأثر بمن سبقه ويؤثر بمن سيليه.. الشاعر الداغستاني الشهير "رسول حمزاتوف" الذي عاش طويلاً ورحل مؤخراً يقول: «إذا أطلقت نيران مسدسك على الماضي أطلق المستقبل نيران مدافعه عليك»، وكتب الشاعر الصديق حسين بن حمزة في مقدمة إحدى قصائده: «لولا الجذور لدارت الأشجار على حلّ شعرها». لقد تأثرت بالأدب الروسي المترجم الذي قرأته في البداية، وببعض الكتّاب العرب لاحقاً كـ "إميل حبيبي"، و"مارون عبود"، و"حسيب كيّالي". في لقاء أجراه معي الكاتب الصديق نجيب كيّالي قبل نحو سبعة عشر عاماً ونشره أولاً في جريدة البعث، ولاحقاً في جريدة الخليج بعد حصول مجموعتي القصصية الثانية " مسائل تافهة " على الجائزة الأولى بمسابقة الدكتورة سعاد الصباح دورة عام 1992 في القاهرة، وصدورها عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في حينه، وعن مكتبة الأسرة، ودار الينابيع لاحقاً قلت: «كلنا خرجنا من معطف حسيب كيالي»، ولم أكن أقصد فيه الإساءة لأحد من كتاب "إدلب" بالذات، وأنا واحد منهم ليستنفر عليّ البعض على أساس أنه "نسيج وحده" على الرغم من اعتقادي الجازم بعدم وجود كاتب في العالم يمكن وصفه بالنسيج وحده حتى الأنبياء بتقديري تأثروا ببعضهم بعضا، وأثّروا ببعضهم بعضا والكتب السماوية اللاحقة، لخّصت ما ورد في السابقة، والقول مستعار طبعاً فهو بالأصل لـ"دستويفسكي" الروسي العظيم الذي قال : «كلنا خرجنا من معطف غوغول»، والمعطف عنوان لقصة طويلة أو رواية قصيرة لـ"غوغول" الروسي الذي عاش في النصف الأول من القرن التاسع عشر، و"دستويفسكي" الروسي أيضا الذي عاش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عندما قال مثل هذا الكلام لم يكن أقلّ قيمة إبداعية من "غوغول" بل قد يكون أكبر منه بكثير، أو هو بالتأكيد من أكبر الروائيين عبر التاريخ، ورغم ذلك كانت قصة المعطف بداية الطريق لأدب روسي عظيم لاحق..."حسيب كيّالي" فتح الباب باستخدامه للسخرية فيما كتب معتمدا على لغة جديدة مفرداتها قائمة على تفصيح العاميّة وموضوعاتها مستلّة من حياة الناس العاديين، وقد أطلق الناقد الدكتور "نضال الصلح" على هذا الشكل الكتابي "السرد الكيّالي"، وأعتقد أننا نحن كتّاب "إدلب" بالذات لسنا بعيدين عن هذا السرد شاء من شاء وأبى من أبى ـ بالإذن من المرحوم ياسر عرفات.

ثمّة من يصنفني بالكاتب الساخر، وآخر بالواقعي، وثالث بالواقعي الاشتراكي، علماً بأنني لم أفكر في يوم من الأيام بالمدرسة التي يمكن أن أصنّف تحتها، ربما كان هناك مدرسة واقعية ينتمي إليها معظم الكتاب في العالم، أو لنقل واقعاً ننتمي إليه، وطبعا سيتجلى هذا الواقع في معظم كتاباتنا، أمّا ما قيل عن واقعية واشتراكية، فأعتقد أنّ فيه شيئاًً من التعسف.. على كل حال نشأت هذه التسميات في ظل وجود معسكرين متصارعين في العالم الاشتراكي والرأسمالي، وكان الذين أسطروا هذه المدارس وأطلقوا الأسماء عليها من السياسيين والعاملين في المجال الأيديولوجي، وليس في مجال الأدب والنقد، فكان "جدانوف والجدانوفية" في الاتحاد السوفييتي و"مكارثي والمكارثية" في الولايات المتحدة الأمريكية.. طبعا مثل هذه التسميات وتحت عناوينها لم يمنع من ولادة أدب عظيم في الشرق على أيدي أدباء كبار موالين للشيوعية مثل "غوركي وشلوخوف وايتماتوف وحمزاتوف" وسواهم، أو من المعارضين تحت اسم المنشقين مثل "أبلوموف وباسترناك وسولجنستن" وسواهم.. كُتبت أكثر من دراسة عن قصصي منها لنقّاد أكاديميين أذكر منهم الدكتور "محمد رياض وتار" والدكتور"نضال الصالح" والدكتور"أحمد جاسم الحسين" والدكتور"ياسين فاعور" والدكتور"عبد الله أبو هيف" وللأستاذ الراحل "أحمد المعلم" و"جمال عبود" و"علي الصيرفي" و"أحمد عزيز الحسين".. ومنها لكتّاب معروفين أذكر منهم الراحل "ميخائيل عيد" ،و"شوقي بغدادي"، و"نصر الدين البحرة" و"وليد معماري" و"خطيب بدلة" و"عوض سعود عوض" و"محمود الوهب" و"أحمد عمر" و"عبد الحليم يوسف" و"نجم الدين سمّان" و"نصر محسن" و"تيسير خلف" و"نجلا علي".. ومجمل هذه الدراسات وقفت إلى جانب نصي القصصي، وأثنت عليه وهذا ما جعلني أكثر مسؤولية عند كتابة القصة.. لا أستسهل الأمر أبدا بل أعيد كتابة قصتي أكثر من مرة لكي يقول القارئ الذي يتورط بقراءة قصتي: «الله يعطيه العافية».

ثلاث دقائق مع القاص السوري تاج الدين الموسى:

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى