عبدالرحيم التدلاوي - قسوة الواقع المغربي وتناقضاته في مجموعة «غيبوبة على منظر ساقط» لمحمد مباركي

«إن جمال الوطن في حرية أبنائه، وكرامتهم، ومادام أن المستمتع بخيرات البلاد هم جماعة من المتسلطين الذين استحوذوا عليها، وهمشوا باقي أبنائه، ويعيشون بدون حساب أو عقاب: عاشوا أمراء وماتوا أمراء، فهجرته أفضل، مادام أن أرض الله واسعة. إذ ما الفائدة من البقاء فيه وأحد هؤلاء قد هدد بإبادة الثلثين لصالح الثلث الباقي؛ ويقصد به الطبقة المرفهة». (من نص حين كان جواز السفر حلما).
«غيبوبة على منظر ساقط» مجموعة قصصية صدرت عام 2015 ضمن منشورات الموكب الأدبي في وجدة، يقدم فيها القاص المغربي محمد مباركي نصوصا تسعى إلى انتقادها هيمنة العالم وسلطته السالبة للحق في الاختيار، فالنصوص تعمدت البوح والفضح والإدانة لواقع القهر الاجتماعي وظروف الحياة العامة في مغرب نهاية الألفية الثانية.

البحث عن التواصل كقيمة إنسانية

شخصيات المجموعة مسكونة بالوجع، تبحث عن خلاص لا تعرفه إلا عن طريق البوح للآخر أو العثور على شخص قادر على منح التوبة بالإرشاد إلى الطريق الصحيح، فالشخصية الأولى نجدها في نص «طبيبة ملاك»، وهي تبحث عمن ينصت لها، هي التي عاشت محنة الإقصاء والتهميش، نتيجة اعتبارها فضلة غير صالحة للحياة، فقد قذف بها إلى المزبلة. أما الشخصية الثانية والحاضرة في نص «امبارك»، فظلت تمارس تخديرها حتى تنسى واقعها المر، ولولا تلك اليد الحانية، وذلك الصوت الشجي، وذلك الضوء المقبل من المسجد ومن أعماق النفس، لضاعت روحها، ولكانت من الضالين، لكنها أنقذت في آخر لحظة لا لشيء إلا لكون روحها طاهرة، رغم ما تظهره من سلوكات منحرفة. إن حجم قول الشخصية الأولى يعبر عن مدى معاناتها؛ فهي تعبر من خلال الاستحواذ على السرد عن صمتها القهري الطويل؛ لقد استعادت لسانها فاندلق كلاما حزينا. لم تفسح لصديقها المجال للتعبير، لكون الصديق لم يعرف ما يكابده السارد الثاني للنص، ثم إنه تكلم بما يكفي، وحان دور المقصي والمبعد، والمهمش، ليحتل بؤرة الاهتمام. أما امبارك، فقد جاء في مشهدين، وعتبة انتقالية، في المشهد الأول تم تصويره وهو يعيش حالة الضياع، بممارسته لهذيانه وفحشه، وفي المرحلة الثانية تم تصويره محمولا على أكتاف خلق كثير بعد توبة وجيزة، أعقبتها وفاته. أما عتبة الانتقال من السيئ إلى الأحسن، فعبرت عن بزوغ يد الرحمة التي مسحت أحزانه، ومنحته الصفاء الروحي المطلوب؛ لقد نظرت إلى داخله لا إلى مظهره، فوجدته يستحق الخلاص. شخصيات النصوص متعطشة للتواصل الإنساني ودفئه، راغبة في البوح عما يعتمل في داخلها من معاناة، وقهر وتهميش.
وفي نص «صبي في ليل البحر»، تنقسم الشخصيات إلى ثلاث مجموعات: الأم وابنها، والحوار بينهما منساب كونهما يتقاسمان الشرط الوجودي نفسه، والسارد، والأصدقاء الثلاثة الذين يتقاسمون الوضع الاجتماعي نفسه. فإذا كان الحوار انسيابيا بين الأم وابنها، فإن السارد، رغم تضامنه اللامشروط، لم يستطع التواصل معهما، وظل كلامه حبيس نفسه، وسجين دواخله، وصار بالتالي، شبيها بالحوار الداخلي، وفي حين، تحقق التواصل بين الطرفين الأول والثالث، لكنه حوار بارد، وغير إنساني، ما يؤكد أنه لم يكن من أجل التواصل المطلوب، والمعبر عن التضامن، بل كان حوارا مفصولا، كان من نتائجه قذف الأم وابنها للشاب بشتائم حارقة؛ وقد حقق هذا السباب إشباعا لدى السارد الذي رفض لباسهم. وعن اللباس نجد السارد غير راض عن العري الذي تشهده المدن الساحلية، إذ عبّر عن امتعاضه من ذلك بقوله، في القصة نفسها: أعياني المشي، فجلست على «الكورنيش» موليا ظهري جحافل المارة تمشي الهوينى. نصف عراة كانوا يمشون، وكأن نهار العري على الرمال الملتهبة لم يكفهم. ونلحظ هنا انفصال السارد عن الناس، إذ ولاّهم ظهره، إن انفصاله كان بسبب عريهم، وأنه في الأخير
يرفض هذا الفعل، خاصة في الشارع، فإذا قبله على مضاضة في البحر، فإنه يرفض ذلك في الشارع. فالعبارات المختارة لم تكن اعتباطا، بل كانت قصدية، تعبر عن سخط السارد، وأكدتها الجملة الأخيرة في النص: سلقت مؤخراتهم الممسوحة بنظرة حاقدة. وهي النظرة نفسها التي حملها السارد تجاه الأصدقاء الثلاثة. والأمر نفسه نجده في نص «ألا يوجد فيكم رجل رشيد؟»، فمنظومة القيم فيه تعرف انقلابا في دلالتها، وتنتج عنها هالة وسلطة لمفاهيم أخرى يمنحها المكان لقاطنيه، ويرجح صواب المنطق المتعارف عليه. فقد صار السارد هو الشاذ وسط العراة، فاللباس عورة لدى قاطني المنطقة؛ لقد انقلبت القيم رأسا على عقب.
ويظل التواصل الإنساني أهم ركيزة تمكن الإنسان من تحقيق توازنه، وممارسة حريته، واستعادة إنسانيته المسلوبة ففي نص «على رصيف الصدفة»، يتمكن الضريران من نسج علاقة حب تفضي إلى الزواج، وتكون الخاتمة معبرة عن هذا التآلف والانسجام، برد الضرير على أبي الضريرة: لأنها ستفهمني أكثر.
على النقيض من ذلك، نجد في نص «غيبوبة على منظر ساقط» السارد يكشف عن سلوك الزوج الشاذ، ويظهر أنه السبب الحقيقي في قطع حبل التواصل بين الزوجين «فتحت عينيها عميــــقا، لتجـــد نفسها في غرفة الإنعاش، نائمة على جرح منظر ساقط لذكورة مؤثثة بالأنوثة، تذكرت المنظــــــر.. وصرخت صرخة مدوية وغرقت في غيبوبتها ثانية». هذا التفاهم هو المبحوث عنه في كل النصوص، لأنه يعبر عن الحرية، وعن إنسانية الإنسان.

السجن الكبير

وحين يغيب التواصل بفعل الإقصاء والتهميش، فإن الوطن، على الرغم مما يختزنه من جمال، يصير سجنا ينبغي التخلص منه؛ فلا فائدة من العيش فيه، تقول شخصية نص «حين كان جواز السفر حلما» ردا على محدثها في شأن الوظيفة، هي التي نوت الهجرة: «تركتها مع الوطن وبعر أحصنة «الكوتشيات»، وريع الأرض، ومنظر غروب الشمس في «أرفود» ورمال الشواطئ والصحراء». حيث يصف السارد مجتمعه بمجتمع القمع وقتل الأحلام، وإسكات أصوات الاحتجاج وطرح الأسئلة، مجتمع يصير فيه الإنسان جراء ذلك قامعا لنفسه بالوكالة. هؤلاء المستبدون والمستغلون، صنعوا أحزمة فقر، جعلت الإنسان يفقد كرامته مقابل لقمة عيش ممرغة في الوحل. كما في نص «كلبنة» الذي يعري واقع الحال: «ركبت هذه السيدة صحبة كلبها عربة «كوتشي» يجرها حصان بربري قوي. وأمرت السائق أن يتجول بها في الهوامش. أرادت اكتشاف الوجه الخفي للمدينة الجميلة. مكنتها هذه الجولة البطيئة من مشاهدة مظاهر الفقر المدقع الباعث على التقزز والشفقة». وفي ظل هذا الوضع لا غرابة أن يتمنى الفقير أن يصير كلبا للأجنبية؛ فهو يتمتع بحياة النعيم. بخلاف الكلب الذي ظل يتمنى أن يحظى بحريته التي كبّلها النعيم، وصار رهينة بين يدي سيدته. بيد أن الكلب، وبعد أن عاش تجربة الكلبنة الحقة، استطاع أن يخاتل صاحبته التي استعادته من حياة الانطلاق، بممارسة جزء من تلك الكلبنة في غياب صاحبته.

البعد الفانتاستيكي

العجيب أو الفانتاستيكي فعل خارق للمألوف والمعتاد، يجمع بين الواقعي والسحري في تركيبة مسبوكة تروم إبهار المتلقي ويولد لديه الحيرة والسؤال. يتحقق هذا البعد في نص «هل تتغير الجغرافيا؟» يقول السارد: «أطللت بضجر من نافذة غرفة نومي فهالني منظر البياض الناصع يغطي الدور والأشجار والطرقات، صرخت هل أثلجت السماء في عز الصيف؟». ليكشف لنا النص أن حركة تكتونية عنيفة في باطن أرض المغرب الأقصى اقتلعته من جذوره من التخوم إلى التخوم، وكانت سببا في تحركه كسفينة عائمة فوق المحيط الأطلسي وهو يبحر الآن في اتجاه بحر الشمال». وقد سعى السارد بشتى الطرق إلى إقناع المتلقي بطرحه. وفي الوقت نفسه دفعه إلى الكشف عن أبعاد هذا العجائبي الذي اكتنف النص.

نهايات النصوص

تعتمد قصص المجموعة على المراوغة والتركيز والتسريع في الحدث نحو نهاية غير متوقعة. وهي نهايات تجمع بين الأمل واليأس، بين السعادة والخيبة. صحيح أن غالبية النصوص تتميز بخيبة انتظار شخصياتها، لكن فسحة الأمل حاضرة في نصوص أخرى؛ فقط، علينا أن ننظر إلى الأصائص الطينية على حافة النافذة وقد أينعت أزهارها. وفي الأخير.. عرّت مجموعة «غيبوبة على منظر ساقط»، الواقع المغربي وكشفت عن تناقضاته الصارخة، ونزعت أقنعته الشفافة، كما قدمت رسائل دالة، تنتقد الواقع الإنساني وتفاوتاته الطبقية، عبر كتابة ارتكزت على التقابل الضدي والتوازي، للكشف عن المظاهر الخادعة.




Apr 16, 2018
القدس العربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى