مباركة خمقاني - حسّ العرب بالمعـاني

عرّف ابن جني اللغة قائلا: «أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم »[1](1) ومن هنا تظهر وتتضح وظيفة اللغة التي تنحصر في الدلالة على المعنى من خلال اللفظ الذي لهنسج خاص، إذا حاد عنه اللفظ قيل إنه غير عربي.

أولا - عناية العرب بالمعنى:

لقد كانت عناية العرب بالمعنى بالغة، حيث يقول الجاحظ: « قيل للهندي: ما البلاغة؟ قال: وضُوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحُسن الإشارة »(2). ومـن الفصاحة معرفة المعاني وأساليبها على اختلافها وتباينها، قال علماء البيان:« إن الأصل في المعنى أن ُيحمل على ظاهرهِ»(3).

كما تحدث القدامى عن مطابقة اللفظ للمعنى، وفي ذلك يقول ابن طباطبا: « وللمعاني ألفاظ تشاكلها، فتحسن فيها، وتقبح في غيرها، فهي لها كالمعرض للجارية الحسناء، التي تزدادُ حُسْناً في بعض المعارض دون بعض، وكم من معنى حسن قد شين بمعرضه الذي أبرز فيه، وكم من معرض حسن قد أبتذل على معنى قبيح أُلبِسَهُ»(4).

فمن مساواة اللفظ للمعنى وائتلافه قول أبي تمام(5):

ومَنْ يَأْذَن إِلَى الوَاشينَ تُسْلَـقْ = مَـسَـــامعُـهُ بألــسَـــنـةِ حـدادِ

فلما قال: " ومن يأذن إلى الوَاشينَ"، تَمكَنتِ القافية، فلما قال " تُسلقْ مسامعُهُ " وجب أن لا يكون تمام الكلام إلا بألسنة حداد"(6) وكذلك قول البحتري(7):

أَلَنْتَ لِيَ الأيَّامَ من بَعْدِ قَسْـوَةٍ = وعَاتَبْتَ ِلي دَهْري المُسِيءَ فَأَعْتَبَا

فلما قال: " عاتبتَ" لم يكن غير قوله " فأعتَبَا" فهذا هو المتمكن وهو ائتلاف القافية مع بقية الكلام(8).

والمعنى الصحيح معياره مطابقة: العرف السائد، ومسايرة الحقائق المتعارف عليها وما استثار الذوق وحرك المشاعر(9). وقال المرزباني: « حدثني الجاحظ سنة ثلاثين ومائتين،قال: حدثني أبو نواس أنه غاب عن بغداد، فقدم إليه رجل، فقال له: ما من خبر ؟ فقال : نعم أنشد بعض الشعراء مدحا في زبيدة، وهي تسمع فقال :

أزُبـــيــــدة ابــــــــْنــــــَةَ جَــــعْـــفَــــــرٍ = طُـــــــــــــوبي لـــــزائــــــرك الـــمــُثــــَابِ
تُـــعــــطــِيــنَ مِـــنْ رِجْـلـيـــْكِ مــــَا = تــعــطـــي الأكـــفُّ مــــــن الــرَّغَـــابِ

فوثب إليه الخدم يضربونه، فمنعتهم، وقالت: أراد خيرًا فأخطأه، ومن أراد خيرًا فأخطأ أحبُّ إلينا ممن أراد شرًا فأصاب، أما سمعت قولهم : شمَالك أنْدي من يمين غِيرك، وقفاك أحسن من وجه غيرك، وظن أنه إذا قال هذا كان أبلغ في المديح»(10).

وهكذا يظهر حس العرب بالمعاني، وهذا ما سنراه من خلال الانتقادات التي وجهت لبعض الشعراء في مختلف العصور ومع ممر الأزمان حيث يقول ابن رشيق القيرواني : «المعاني إنما اتسعت لاتساع الناس في الدنيا، وانتشار العرب بالإسلام في أقطار الأرض، فمصَّروا الأمصار، وحضَّروا الحواضر، وتأنقوا في المطاعم والملابس»(11) ومن بين هولاء الشعراء:

1 _ امرئ القيس:

جاء في الموشح أن امرأ القيس بن حجر تنازع مع علقمة بن عبدة أيهما أشعر، فقال كل واحد منهما: أنا أشعر منك، فقال علقمة: قد رضيت بامرأتك أم جنذب حكما بيني وبينك، فحكّماها فقالت: أم جنذب لهما: قولا شعرًا تصفان فيه فرسيكما على قافية واحدة وروي واحد... فأنشدها كل واحد فقالت لامرئ القيس: علقمة أشعر منك. قال: وكيف؟ قالت: لأنك قلت:

فللسوط ألــهوب وللــســاق درة = وللــزجـر منه وقـع أخــرج مُـهْـذبِ

فجهدت فرسك بسوطك في زجرك ومريته* فأتبعته بساقك. وقال علقمة:

فـأدركـهــــــن ثـانـيـا مـن عنانـه = يـمـر كـمـر الــرائــح الــمـتـحـلـــــب

فأدرك فرسه ثانيا من عنانه، لم يضربه ولم يتعبه(12).

وعابوا عليه قوله(13):

أغــرك مـنِّي أن حـبـك قـاتـلــي = وأنـك مهـما تـأمـر الـقـلـب يـفـعـل

قال: وقالوا: إذا لم يغرها هذا فأي شيء يغرها؟ قال: وإنما هذا كأسير قال أَسَرَه : أغرك مني أني في يديك؟

وعابوا عليه أيضا قوله(14):

لـهـَا ذَنـْبٌ مـِثـْلُ ذَيـل العـروس = تَــســُدُّ بــِهِ فــَــــرْجَــــهَا مــِنْ دُبـــــُر

وقالوا : ذيلُ العروس مجرور، ولا يجب أن يكون ذنب الفرس طويلا.

وذكروا كذلك أنَّ الأصمعي عاب عليه قوله(15) :

وأركـــــب فـــي الــروع خـيـفـانـه = كــسا وجـهـها سـعـف مـنــتــشـــر

وقال إذا غطت الناصية الوجه لم يكن الفرس كريمًا، والجيد الاعتدال وجاء في موضع آخر أن هذا خطأ؛ لأن شعر الناصية إذا غطى العين لم يكن الفرس كريمًا(16).

وعيب أيضا على امرئ القيس فجوره وعهره في شعره كقوله(17):

ومثلك حبلى قد طرقت و مرضــــــع = فألهيتها عن ذي تمائم محول
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له = بـشـق وتـحـتى شـقها لـم يحـول

وقالوا: هذا معنى فاحش.

وعابوا عليه قوله(18):

فـقـلـت لـه لـمـا تـمـطـى بـصـلـبـه = وأردف أعـــجــازًا ونــاء بـكـلـكـــل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي = بصبح وما الإصباح فيك بأمثل

قال: فانسلخ البيت الأول بوصف الليل من غير أن يذكر ما قال، وجعله متعلقا بما بعده. وذلك معيب عندهم.

وتبقى عيوب المتقدمين قليلة جدًا مقارنة بمن بعدهم حيث يقول على بن أبي طالب كرّم الله وجهه: « لو أن الشعراء المتقدمين ضمهم زمان واحد ونصبت لهم راية فجروا معاً علمنا مَنِ السابقُ منهم، وإذا لم يكن فالذي لم يقل لرغبة ولا لرهبة، فقيل: ومن هو؟ فقال: الكندي، قيل ولم؟ قال: لأني رأيته أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة»(19).

وقال أبو الحسن علي بن يحي: «وأي مرذول في شعر امرئ القيس»(20).

2- الأعشى :

جاء في الموشح: «حدثني محمد بن إبراهيم، قال: حدثنا محمد بن يزيد المبرد، قال : أنشد عبد الملك بن مروان بيت الأعشى:

أتـانـي يُــؤامــِرُنـي فـي الـصَّـبــُو = حُ لـــيــــلاً فـــقــلـــتُ لــه غَـــادِهـــا

فقال: أساء، ألا قال: هاتها»(21).

وأيضا وُسم بالتكلف وبشاعة القول في قصيدته:(22)

لعـــمـرك ما طـول هـذا الـزمـــــــــن = عـــلــى الــمــرء إلا عِـنـاءُ مـُعَــــــنْ
فَــإِنْ يَـتْـبَـعُــوا أَمْــرَهُ يَــرْشـــــــــــــدُوا = وإِنْ يـــســألـوا مـالَــه لا يَــضَـــــــنْ
وَمَــــا إِنْ عَـــلَـــى قَـلْـبِــهِ غَـمْــــــــرَةٌ = وَمَــا إِنْ بَـعــظْــمٍ لَــهُ مـن وَهَـــــنْ
وما إنْ عَـــلـى جـــارِهِ تَــلْــفَـــــــــــــةٌ = يُـسَـــاقِـــطُــهَــا كَـــسِـــقَــاطِ اللَّجَـــن*
وَلَمْ يَسْعَ في الحرب سَعى امرئٍ = إذا بـــطْـــنَـــةٌ راجَــعْــتْـــهُ سَـــكَــــــــنْ
عــلـــيـهـا وإِنْ فَــاتَــهُ أَكْــــلَـــــــــــــــةٌ = تَـــلاَفَى لأخــرى عـظـيــمُ الـعُـكَــــنْ
يَــــــرَى هَـــمَّــــــهُ أبــــدًا خَــصْــــــــرُهُ = وهَمُّكَ في الغَزْوِ لاَ في السِّمَــــنْ

فمثل هذا الشعر وما شاكله يصدي الفهم ويورث الغم.

ومن الأبيات المستكرهة الألفاظ، المتفاوتة النسج، القبيحة العبارة التي يجب الاحتراز من مثلها قول الأعشى(23):

أَفـي الطَّوْفِ خِـفْـتِ عَلَيَّ الرَّدى = و كَــمْ مِــنْ رَدٍ أهـــلـه لـــم يَـــــــرِم

أراد لم يرمِ أهله.

ورد في العمدة أن من حُسن الصنعة أن يطَّرد الأسماءُ مِنْ غير كُلْفَةٍ، ولا حشوٍ فارغ؛ فإنها إذا اطَّردت دلَّت على قوة الشاعر وقلة كُلْفَتِهِ، ومبالاته بالشعر، وذلك نحو قول الأعشى :

أَقَيْسَ بْنَ مَسْعُودِ بْنَ قَيْسِ بْنَ خَالِدِ = وأَنْتَ امْرُؤٌ تَرْجُو شَبَابَكَ وَائِلُ(24)

3 _ حسان بن ثابت :

معلوم أن النابغة الذبياني كانت تضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ، يأتيه الشعراء فيعرضون عليه أشعارهم فأنشده حسان قصيدته التي منها(25):

لَنَا الجَفْنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ بالضُّحَى = وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمَا
وَلَدْنَا بَنِي العَنْقَاء وابْنَي محـــرّق = فَأَكْرِم بنا خَالاً وأَكْرِمْ بِنَا ابنمــــا

فقال النابغة : «أنت شاعر، ولكنك أقْلَلْتَ جِفَانَكَ وأسيافك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك»(26).

وعقَّب الصولي على هذا النقد قائلا : «فانظر إلى هذا النقد الجليل الذي يدل على نقاءُ كلام النابغة، ودِيباجة شعره، قال له: أقْلَلْتَ أَسْيَافَك؛ لأنه قال : « وأسيافنا» وأسياف جمع لأدنى العدد، والكثير سيوف، والجفنات لأدنى العدد، والكثير جفان ، وقال : فخرت بمن ولدت؛ لأنه قال: ولَدْنَا بني العنقاء وابني مُحَرِّق ، فترك الفَخْر بآبائه وفخر بمن ولد نساؤه »(27).

وجاء في الموشح أنه: « حدثني محمد بن أحمد الكاتب، قال:حدثنا محمد بن يزيد النحوي، قال: قال حسان بن ثابت يرثي مُطْعَمَ بن عديّ في أبيات وهذا البيت رديء عند أهل العربية، وذلك أنه قدَّم المكنى على الظاهر، ومثله ربما جاز في الضرورة.


فلو كان مُجدٌ يُخْلَدُ اليَوْمَ وَاحدًا = من النَّاسِ أبقى مَجْدُهُ اليومَ مُطَعَما»(28)


04_ الفرزدق :

ورد في العمدة أن الأخطل قال بالكوفة : « أخطأ الفرزدق حيث قال :

أَبَـنِــي غُــدَانَــةَ إِنَّــنــي حَـرَّرْتُـكُــمْ = فَوَهَـبْتُـكُـمْ لِعَطِيَّةَ بْنِ جُعَـــــــــالِ
لَــوْلاَ عَــطِيَّةُ لاجْتَدَعْـتَ أُنُـوفَـكُـمْ = مِنْ بَيْنِ أَلْأَمِ أَوْجُهٍ وَسِبَـــــــــالِ

كيف يكون وهبهم له وهو يهجوهم هذا الهجاء؟»(29).

ومما يعاب على الفرزدق قوله في الغزل(30):

يَا أُخْتَ نَاجِيةَ بن سَامَة إِنَّنــي = أَخْشَى عليكِ بَنيّ إن طَلَبُوا دَمِي

قال محمد بن يحي: « فلعمري إنه خلاف الغزل وما قال الحذّاق، فإنَّ قتيل الهوى عندهم لا يُودَى ولا يطلب بدمه»(31).

وجاء في الموشح أيضا: « قال: حدثنا الطيب بن محمد، قال: حدثنا أحمد بن سعيد، قال: سمعت الأصمعي يقول: لا أحب قول الفرزدق في الطعن:

* فـــــيـــها تُعـــلُّ صـدورهـن وتـنـهــل *

ويقول: أحسن الطِّعان الخلاس، والخِلاَج، والدراك »(32)

وأخبرنا عُمَر بن شبّة قال: للفرزدق في شعره افتخار بعيد المعنى لا وجه له ومن ذلك(33):

أنا بن خُنْدف والحامي حقيقتها = قَدْ جَعَلُوا في يَديَّ الشَّمْسَ والقَمرَا

ومنها:

أَخَـذْنَــا بِآفَـاقِ الـسَّـمَـاءِ عَـلَيْكُـــم = لــنــا قَـــمَـــرَاهـا وَالـنُّـجُــومُ طَــــوَالِـــــعُ.

ومنها:

إنَّ السَّمَاء التي من دارِمٍ خُلِقَتْ = والأَرْضَ كَـانَـا لَـنَــا عِــزًّا ومُــفْــتَــخِـرًا.

ومنها :

وَلَـوْ أنَّ أمَّ النَّاسِ حَوَاءَ حَارَبَـــتْ = تَـمِـيْــمَ بـن مَـرَّ لَـمْ تَجِدْ مَنْ يُجِيُرُها.



5- أبو تمام: ومن ذلك: عاب قوم على أبي تمام قوله(34):

كــأنَّ بَــنِــي نـبـهـانَ يــوم وفــاتِهِ = نُـجُـومُ سَـمَـاءٍ خرَّ من بَـيْنِها البَدْرُ


فقالوا: أراد أن يمدحه فهجاه، لأن أهله كانوا خاملين فلما مات أضاءوا بموته، وقالوا: كان يجب أن يقول كما قال الخريمي:

إِذَا قــمــرٌ مِـنْـهُـم تـغـوّر أو خَـبـا = بَـدَا قَـمـرٌ فـي جَانِـبِ الأُفْـقِ يَـلْـمَـعُ

و منه أيضا قوله :(35)

مَـنْ لَـمْ يُـعَـاِيـن أبَـا نـصٍـر وقَاتَلَهُ = فَـمَا رَأَى ضَـبُـعًا فـي شِـدْقهـا سَـبُـعُ

وعيب هذا على أبي تمام لأنهم يجعلون القاتل أعلى وأشهر شجاعة ليقع عذر المقتول.

وسُئل دعبل عن أبي تمام فقال: " ثلث شعره سرقة، وثلثه غثٌّ، أو قال غثاء وثلثه صالح"(36). وأخبرنا إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي، عن محمد بن يزيد المبرد قال: مما يعاب به أبوتمام قوله(37):

تَـثَـفَّـى الـحَـرْبُ مِـنـهُ حِـيـنَ تَـغْـلِي = مَــرَاجــلـهـا بِـــشـــيـــطــانِ رَجِــيـــــــــــــمِ

فجعل الممدوح هو الشيطان الرجيم.

وفي قوله(38) :

لَو لَمْ يَمُتْ بَيْنَ أَطْرافِ الرَّمَاحِ إِذًا = لَمَاتَ إذَا لَمْ يُمتْ مِنْ شِدَّةِ الحَزن

فكأنه لو نُصر أيضا وظَفر كان يموت من الغمِّ حيث لم ينصر ويُقتل فهذا معنى لم يسبقه أحد إلى الخطأ في مثله.

كما ذكر المرزباني الكثير من الأبيات التي عيب فيها أبو تمام دون أن يعلل ذلك كقوله(39):

يَومُ أَفَاَضَ جَوى أغَاضِ تَعزِّيــــا = خَاضَ الهَـوَى بَـحْريْ حـجَاهُ المزبِد

واكتفى بالقول عليه: وهذا من الكلام الذي يستعاذ بالصمت من أمثاله و قوله(40):

كـانـوا رِدَاءَ زَمَـانِـهِـمْ فَـتَـصَـدَّعُــوا = فَـكَـأَنَّـمَـا لَـبِـسَ الـزَّمَــانُ الـصُّــوفـــــا.

وقوله (41):

وَلَـقَـدْ أَرَاكَ، فَـهَــلْ أَرَاكَ بِـغـبْـطَـــةٍ = والـعَـيْـشُ غَــضٌّ، وَالـزَّمَــانُ غُــــــلاَمُ

وذكر الآمدي في كتابه " الموازنة" الكثير من أغلاط أبي تمام في المعاني، فأنكر أبو العباس أحمد بن عبد اللة على أبي تمام قوله :

هَـادِيــه جــذْعٌ مــن الأرَاكِ، وَمَــا = تَـحْـتَ الـصَّـلاَ مِـنْـهُ صَـخْـرَةُ جَـلَــسُ

قال الآمدي عنه : «وأصاب أبو العباس في إنكاره أن تكون عيدانُ الأراك جذوعًا، وإن لم يلخص المعنى، لأن عيدان الأراك لا تغلظُ حتى تصير كالجذوع»(42).


وأنكر عليه أيضا قوله :

مِـنَ الِـهـيـفِ لَــوْ أَنَّ الــخَــلاَخِلَ صُيَّرت = لَـهَــا وُشُــحًــا جَـالَـتْ عـلـيـهَا الخلاَخِـلُ.

غير أنه لم يذكر موضع العيب فيه، لكن الآمدي حدده قائلا : « إن هذا الذي وصفه أبو تمام ضد ما نطقت به العرب وهو من أقبح ما وصف به النساء، لأن من شأن الخلاخل والـبُرين أن توصف بأنها تعضُّ في الأَعْضَادِ والسواعد، وتضيق في الأسوق، فإذا جعل خلاخلها وشُحًا تجول عليها فقد أخطأ الوصف، لأنه لا يجوز أن يكون الخلخال الذي من شأنه أن يعض بالساق وشاحًا حائلا على جسدها»(43). وخاصة الوشاح الذي ترتديه المرأة تطرحه على عاتقها فيستبطن الصدر والبطن، وجانبه الآخر على الظهر فصورة الوشاح السعة والطول التي تدل على تمام المرأة وطولها لا القصر والضيق.

6- المتنبي :

كان المتنبي مثقفًا ثقافة واسعة بكل ما عُرف لعصره من معارف وآراء، وقد اتجه بشعره إلى أن يستوعب أساليب هذه المعارف والآراء، وأن يمثل عناصرها المتنوعة حتى ينال إعجاب العلماء والمثقفين لعصره، وكان يتصنع للغريب من اللغة والأساليب الشاذة(44) وذلك كقوله :

فَـتًى يَـشْـتَـهِـــي طُـولَ الـبِـلاَدِ ووقــتُـــــهُ = تــــضـــيـــقُ بـــه أوْقَـــاتُــــهُ والــمـقــاصِـــــدُ

وهذا وقت غريب جداً، فقد جعل المتنبي الأوقات تتضيق به أو بعبارة أخرى مازال يتصنع حتى جعل الجزء أوسع من الكل، فالأوقات تضيق بالوقت ضيقا غريبا، وهذا خلل محبوب في رأيه لأنه خلل فلسفي، ما يزال به حتى يشوش على الناس أفكارهم وحتى يحدث من الارتباك والاضطراب بين المثقفين ما يستطيع أن يثبت به مهارته و تفوقه(45).

كذلك وهِمَ أبو الطيب في قوله(46):

مَضَى الليلُ والفضْلُ الذي لكَ لا يَمْضِي = ورُؤْيَاكَ أَحَلَى في العُيونِ من الغُمْضِ

والصواب أن يقال : سِرْتُ " برؤيتك " لأن العرب تجعل " الرؤية " لما يرى في اليقظة و " الرؤيا

" لما يرى في المنام(47). كما قال تعالى : ﴿يَأَيُّهَا الملأُ افْتُوِنِي فِي رُؤْيَايْ إِنْ كُنْتُمْ للرُؤْيَا تَعتَبِرُونَ﴾سورة يوسف الآية 43.

وذكر ابن منقذ في كتابه بعض الأبيات للمتنبي كقوله:

ولاَ الضَّعفَ حَتّى يَبْلُغَ الضَّعْف ضِعْفُهُ = ولاَ ضِعفَ ضعفِ الضّعْفِ بَلْ مِثْله أَلْفُ

ثم ذكر قول الصاحب بن عباد : هذا البيت يصلح أن يكون مسلَّة في كتاب ديوفيطس(48)


وفي قوله :

عَــظُـمْـتَ، فَـلـمَّـا لـم تـعـظّـمْ مَـهَـابــــــةً عظمتَ فَكَانَ العظمُ عظمًا على عَظَمِ

فقال الصاحب : " هذا البيت يصلح أن يكون ناووسا في كبار المقابر"(49).

كما ذكر أيضا ابن رشيق تعسف المتنبي في قوله لسيف الدولة.(50)

فأنتَ أبو الهيجا ابن حَمْدان يا ابنه = تَـــشـابَـهَ مَــوْلُـودٌ كـــريــــم ووالــــــــــــــــدُ
وحَـمْـدَانَ حَـمْـدُونٌ وحَـمْـدُونٌ حَـــارثٌ = وحَـــارثُ لُــقـمـانُ ولـقْــمـــانُ راشـــــدُ

ففي هذا المعنى من التقصير أنه جاء به في بيتين وأنه جعلهم أنياب الخلافة بقوله:

أُوْلَـــئــــك أَنـــيَـــابُ الـــخِـــلاَفَـــةِ كُـلَّــــهَا = وســائـــر أَمْـــــلاَكِ الـــبِــلاَدِ الــــزَوَائِــــــد

لذلك قال: « وهم سبعة بالممدوح، والأنياب في المتعارف أربعة، إلا أن تكون الخلافة تمساح نيل أو كلب بحر، فإن أنياب كل واحد منهما ثمانية اللهم إلا أن يريد أن كل واحد منهما ناب الخلافة في زمانه»(51). ثم يستطرد قائلا: « وإنما مقت شعره هذا تكريره كل اسم مرتين في بيت واحد، وهي أربعة أسماء»(52).

7- أبو نواس :

توسع أبو نواس في المعاني فقيل عنه: «مازالت المعاني مكنوزة في الأرض حتى جاء أبو نواس فاستخرجها»(53).

ومما أُخذ عليه في شعره قوله في الأسد(54):
كــــــأنَّــــمَـــــا عـــيــنُـــهُ إذا نَــظَــــــــــــرَتْ = بَـــــــارِزَةَ الـجَـفْــنِ عْـــيـنُ مَـخْــــنُــــــوقِ

وصفه بححوظ العين، وإنما يوصف الأسد بغؤورها كما عرف عند العرب.

وقد ذكر ابن قتيبة الكثير من الأبيات التي عيب بها كقوله في الناقة(55):
كــــــأنَّــــمَـــــا رِجْــــــلُــها قَــفَــا يــــدِهَــــــــا = رِجْــــــلُ ولــــيـــــدٍ يَــلْــهُــــو بِــــدَبُّـــــــــــوق

وإذا كان كذلك كان لها عُقَّال و هو من أسوء العيوب وكذا قوله في وصف الدار:
كــــــأنَّــــهـــــا إذا خَــــرِسَـــــتْ جَـــــــــــارِمٌ = بــيـــن ذَوِي تَــفْـــنِـــيــــده مُـــــطْــــــــــرِقُ

شبه ما لا ينطق أبدا في السكوت بما قد ينطق في حال، وإنما كان يجب أن يشبه الجارم إذا عذلوه

فسكت وأطرق وانقطعت حجته بالدار(56).


وذكر المرزباني في كتابه الموشح مآخذ العلماء على أبي نواس، ومن ذلك قوله يصف الخمر(57):

كَأَنَّ بَـقَـايَا مَا عَـفَـا مِـنْ حُـبابِهَا تَفَارِيقُ شَيْبٍ في سَوَادِ عُــــــذَارِ*

فشبه حباب الكأس بالشيب، وذلك قول جائز لأن الحباب يشبه الشيب في البياض وحده لا في شيء آخر غيره ثم قال:
تردت بِهِ ثم اْنفَرَى عَنْ أديمهـا = تـفـري لـيـل عـن بَـيَـاضِ نَهـــــارِ

فالحباب الذي جعله في البيت الثاني كالليل الذي في البيت الأول أبيض كالشيب، والخمر التي كانت في البيت الأول كسواد العذار هي التي صارت في البيت الثاني كبياض النهار، و ليس هذا التناقض من صرف إلى جهة من العذر لأن الأبيض والأسود طرفان متضادان، وكل واحد منهما في غاية البعد عن الآخر، فليس يجوز أن يكون شيء واحد يوصف بأنه أسود وأبيض(58).

قال يوسف بن المغيرة اليشكري لأبي نواس: « أنت منقطع القرين في البيت، وليس لشعرك اتساق، وأنت كثير الإحالة، قال له في أي شيء ؟ قال له في قولك تمدح الوزير وإنما يمدح الوزير بما يمدح به القاضي:

أَمْــشِـي إِلَـى جَـنْــبِـهَــا أُزاحِمْــهَا = عَمْدًا وَ مَا بالطَّرِيقِ مِنْ ضيـقٍ
كــقــولِ كِــسْــرَى فــيــمَا تـمثـلّـــه = من فرْصَةِ اللَّصَّ ضَجَةُ السٌّوقِ

... وعد عليه أشياء قد ذكرها»(59).

وقال المظفر بن يحي : « غلط أبونواس في قوله يصف الكلب :

كـــــأنما الأُطْــــفُـــورَ مِـنْ قَـنَـابـه = مُـوسَـى صَـنَــاعٍ رُدَّ فـي نِـصـابِه

لأنه ظن أن مخلب الكلب كمخلب الأسد والسنور الذي ينستر إذا أرادا حتى لا يتبينا، وعند حاجتهما تخرج المخالب حُجنا* محددة يفترسان بها و الكلب مبسوط اليد أبدا غير منقبض »(60)

وقد ذكر المرزباني العديد من الأبيات التي عيب فيها أبو نواس دون أن يعلل ذلـك العيب ومنها قوله(61):

بــــحًّ صَـــوْتُ الـــمَـــالِ مِــــمَّــــــــا = مِــــــنْـــــك يَــدْعُـــــو و يَـــصِــيــــــحُ
مَــــــــا لِـــهَـــــــذَا آخِــــــــذٌ ُفَــــــــــــوْ = قَ يَــــديْــــــــهِ أو نَـــــــصِـــــيـــــــــــحُ

واكتفى بالقول عن هذا الشعر مما يسقط و يطرح.


ونختم حديثنا عن أبي نواس باجتماعه مع مسلم يوما ما فقال له مسلم: « ما أعلم لك بيتا إلا مدخولا معيبا ساقطا، فأنشدْ أي بيت أحببت، فأنشد أبو نواس إنشاد المدلِّ:
ذكـرَ الصَّـبـوح بِـسَـحْـرَةٍ فـارتَـاحَـا = وأمـلّـه دِيـكُ الـصَـبَـاحِ صِـيَّــاحًــا

]فقال له مسلم [: قف عند حجتك، لم أمله صياحا وهو بشره بالصباح الذي ارتاح له؟ فانقطع أبو نواس انقطاعا بيِّنَا، فجعل الجواب له معارضة، فقال له أنشد أنتَ ما أحببت من شعرك، فأنشد مسلم :
عَاصَى الشَّبَابَ فَرَاحَ غير مُفَنَّدٍ = وَ أَقَـامَ بَـيـنَ عَــزِيـمـةٍ وتـجَـلُّـــــد

فقال له أبو نواس : حسبك حيث بلغت ؟ ذكرت أنه راح، والرواح لا يكون إلا بانتقال من مكان إلى مكان، ثم قلت: وأقام بين عزيمة وتجلد.فجعلته منتقلا مقيما. فانقطع مسلم وتشاغبا وافترقا»(62).

وقال ميمون عن ذلك : " والبيتان جيدان، ولكن قلما من طلب عيبا إلا وجده"(63).

8- أبو العتاهية :

إن الكوفيين يقدمون أبا العتاهية، والبصريين يقدمون أباَ نواس، لذلك قيل: كيف يتقدم عندهم أبو العتاهية وهو يقول(64):

* رَوَيْـــدَكَ يَــا إنـسْــانُ لاَ أَنْـــتَ تَــقـــفـــزُ*

أخرجت ( تقفز) من فم شاعر مُحسن قط؟

كما ذكر المرزباني أيضا أنه قيل لأعرابي مرة: يعجبك هذا البيت(65):
عـــتــــيـــبُ الــسَّـــــاعَـــةَ الــسَّــاعْـة = أَمـــوت الــسَّــاعَــــة الــسَّـــاعَــــة

قال: لا والله، ولكنه يُغُّمِني.

وأخيرا إذا كانت الألفاظ عند العرب عنوانا للمعاني، فإنها تعنى بها فتصلحها وتهذبها وتراعيها لتكون المعاني عندهم أقوى، وأكرم، وأفخم. فكانت آذانهم تأبى المعاني المستقبحة، وتترنم بالمعاني الحسنة.

الإحــالات:

(1)- ابن جني ( أبو الفتح عثمان ت392هـ)، الخصائص، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، ط1، 1421هـ-2001م، 1/33.

(2)- الجاحظ، ( أبو عثمان عمرو بن بحر، ت650هـ)، البيان والتبيين، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت-لبنان، ط1، 1419هـ-1998م. 1/88.

(3)- ابن الأثير، جوهر الكنز، تحقيق محمد زغلول سلام، منشأة المعارف بالإسكندرية، (د ط)، دت، ص: 42.

(4)- ابن طباطبا، عيار الشعر، تحقيق وتعليق: محمد زغلول سلام، منشأة المعارف بالإسكندرية، ط3، دت، ص: 46.

(5)- إيليا الحاوي، شرح ديوان أبي تمام، دار الكتاب اللبناني، بيروت-لبنان، ط1، حزيران، 1981م، ص: 162.

(6)- ابن الأثير، جوهر الكنز، ص: 201.

(7)- البحتري، الديوان، شرح: يوسف الشيخ محمد، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، دط، 1421هـ-2000م، 1 / 83.

(8)- ابن الأثير، جوهر الكنز، ص: 01.

(9)- عبد العزيز جسوس،نقد الشعر عند العرب في الطور الشفوي، مطبعة تنمل، مراكش ، ط1 ، 1991م، ص: 142.

(10)- المرزباني ( أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى ت 384هـ)، الموشح، مآخذ العلماء على الشعراء في عدّة أنواع من صناعة الشعر، دار الفكر العربي، القاهرة، دط، دت ص: 434.

(11)- االسيوطي: ( جلال الدين ت911هـ)، الأشباه والنظائر، تحقيق: عبد العال سالم مكرم، مؤسسة الرسالة، بيروت-لبنان، ط1، 1406هـ-1985م، 2 / 355.

*-مريته : إذا استخرجت ما عنده من الجري بسوط أو غيره.

(12)- المرزباني، المرزباني، الموشح، ص: 35 ،36.

(13)- نفسه، ص: 43.

(14)- نفسه والصفحة.

(15)- نفسه، ص: 44.

(16)- نفسه، ص: 46.

(17)- نفسه، ص:45.

(18)- تفسه والصفحة.

(19)- ابن رشيق القيرواني، العمدة، في محاسن الشعر وآدابه ونقده، قدم له: صلاح الدين الهواري، وهدى عودة، دار ومكتبة الهلال، بيروت-لبنان، ط1، 1416هـ-1996م،1/67.

(20)- المرزباني، الموشح، ص: 47.

(21)- نفسه، ص: 62.

(22)- ينظر: نفسه، ص: 67.

*-اللجن : ورق من أوراق الشجر، يدق ويخلط بدقيق أو شعير، ثمّ يتخد علف للماشية.

(23)- المرزباني، الموشح، ص: 67.

(24)- ابن رشيق القيرواني، العمدة، 1/137.

(25)- حسان بن ثابت، الديوان، دار صادر، بيروت- لبنان، دط، دت، ص: 221.

(26)- المرزباني، الموشح، ص: 78.

(27)- نفسه والصفحة.

(28)- المرزباني، الموشح، ص: 78 ، 79.

(29)- ابن رشيق القيرواني، العمدة 2/ 374.

(30)- الفرزدق، الديوان، 2/224.

(31)- المرزباني،الموشح، ص: 145.

(32)- نفسه والصفحة.

(33)- نفسه ص: 143 ، 144.

(34)- المرزباني، الموشح، نفسه، ص: 397.

(35)- نفسه، ص: 419.

(36)- نفسه، ص: 419.

(37)- نفسه، ص: 375.

(38)- نفسه، ص: 379.

(39)- المرزباني، الموشح، ، ص: 387.

(40)- نفسه، ص: 396.

(41)- نفسه، والصفحة.

(42)- الآمدي ( أبو القاسم الحسن بن بشر ت 370هـ)، الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري، تحقيق: السيد أحمد صقر ، دار المعارف، القاهرة، ط4، دت 1 / 141.

(43)-نفسه، 1 / 148.

(44)- ينظر: شوقي ضيف، الفن ومذاهبه، دار المعارف بمصر ، ط6 ، دت، ص:335.

(45)- ينظر: نفسه ، ص: 331.

(46)- عبد الرحمن البرقوقي، شرح ديوان المتنبي، دار الكتاب العربي، بيروت-لبنان، دط، 1400هـ-1980م،2/327.

(47)- الصفدي: ( صلاح الدين خليل بن أيبك ت764هـ)، تصحيح التصحيف وتحرير التحريف، تحقيق: السيد الشرقاوي، راجعه: رمضان عبد التواب، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط2، 1417هـ-1997م. ص: 290.

(48)- ابن منقذ، البديع في البديع في نقد الشعر، تحقيق: عبد آلي مهنا، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، ط1، 1407هـ-1987م، ص: 211.

(49)- ابن منقذ، البديع في البديع في نقد الشعر، ص: 212.

(50)- ينظر: ابن رشيق، العمدة، 2/139.

(51)- ينظر: نفسه والصفحة.

(52)- نفسه والصفحة.

(53)- شوقي ضيف، الفن ومذاهبه، ص: 138.

(54)- ابن قتيبة، الشعر والشعراء، دار إحياء العلوم، بيروت-لبنان، ط2 ، 1406هـ-1986م، ص: 546.

(55)- نفسه، ص: 547.

(56)- ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ص: 547.

(57)- المرزباني، الموشح، ص: 332.

* -الحباب : الفقاقيع التي تعلو الماء و الخمر – العذار : جانب اللحية أي الشعر الذي يحاذي الأذن.

(58)- نفسه والصفحة.

(59)- نفسه، ص: 347.

* حجنا : معوجة.

(60)- المرزباني، الموشح، ص: 339.

(61)- نفسه، ص: 334.

(62)- نفسه، ص: 350.

(63)- نفسه والصفحة.

(64)- نفسه، ص: 325.

(65)- المرزباني، الموشح، ص: 321.



أ/مباركة خمقاني
جـــامعــة ورقلـــــة ( الجزائر)


* للفائدة عن المجلة الجامعية ورقلة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى