جييرمو كابرير انفانتي - الرواية: التجديد والنموذج القديم.. ترجمة: عبدالهادي سعدون

الرواية دون شك، إختراع إسباني. فالرواية الصعلوكية ليس لها أسبقية في القدم•، مع ما يريد البعض أن يشير إلى كتاب (الحمار الذهبي)، أو هذه الخلطة من الحب والهزل في كتاب (القداح). ولكن الرواية المعاصرة ظهرت كتقليد لأدب (الباروديا Parodia )• عن طريق كتب الفروسية. بلا شك، فإن ثربانتس الذي يعد قدرة ذكائية مدهشة وصانع معجزات في كتاباته، فقد أطلق على (الدون كيخوته) صفة كتاب وليس رواية. هذا على الرغم من أنه أراد للكتاب أن يكون « الأول الذي يكتب بشكل روائي باللغة الإسبانية»، كما يذكر في مقدمة كتابه رواياتن
مثالية، الذي لم يكن بأية حال من الأحوال كتاب روايات، بل قصص أو روايات قصيرة. ما يثير الإنتباه هو أن ثربانتس لم يتذكر أبداً الإنفانتي خوان مانويل وكتابه (الكونده لوكانور)، التي تشكل نماذجه القصصية، سابقة لعهد أستاذه المعلن بوكاشيو. الدون كيخوته من جانب آخر، هي عمود الرواية الصعلوكية. ولكن هل سيكون هذا الذي يساعد باختفائها من إسبانيا، وليس في فرنسا أو إنكلترا، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؟

الواحد يحتمل الكل

مثلما أثبت ثربانتس في (رواياته) داخل الرواية الواحدة، بأن الرواية تحتمل الكل. فمنذ تشكيل روبنسون كروزو بواقعيتها الخيالية حتى تقليد الباروديا بهجينها الوحشي لدى سويفت في رحلات جليفر. ولكن الواقعية من الممكن أن تكون سلاح خطر بيدي المؤلف، وكذلك قراءه. وهؤلاء الأخيرون قد رجموا بيت ديفو بالحجارة عندما أعترف لأحد الصحافيين بأن كروزو ليس شخصية واقعية. لقد اخترع كل شيء: الرحلات والغرق والجزيرة. نكون إذاً أمام الواقع الذي يبدو كفشل في الإختراع. ثربانتس لم يعان من هذا الإنفصام، وهو دون شك يكمن في بداية رواية الدون كيخوته نفسها، إذ يقول: « في مكان ما من لامانتشا، لا أريد أن أذكر له أسماً «. هنا إعلان ماكر: متذكر، وفي الوقت نفسه فشل طوعي للذاكرة. ومنذ حينه يذكر كنموذج للبدء.
الرواية ليست جنساً معيناً ( مع الذكر بوجود أجناس عدة في الكيخوته داخل الرواية)، وإنما صيغة أدبية، كالشعر والمسرح. التكهن أو الإقرار بهذا التكهن على أن الرواية قد انتهت هو كقولنا بأن الشعر على وشك الإنتهاء أو أن المسرح يحتضر. وهو كما نتحدث عن أجناس الرواية الرعوية أو الرواية الملحمية، أو عن رواية الفروسية، إذ لا وجود لها وذلك لأنه لم يعد من معنى لوجودها، أو أن ما بقي منها هو تقليد لها، كما هي عليه الدون كيخوته. القبول بأننا نقرأ كتب ميتة، هو التهيؤ لان تنتهي واحدة من هذه « الجثث اللذيذة» للبعث من جديد ولكي تكون محكومة في الوقت نفسه إلى « قبر أدبي متعدد».

تنحي الشكل القديم

هناك احتمال عودة إلى ديكنز، المعلم المطلق للرواية الإنكليزية، الذي عرف كيف يتقبل محدودات الصيغة ليقف إلى جانب حاسية الفكاهة التي تكسب النقاد حتى الآن، وفي الوقت نفسه لكي يكسب قراءً جدد. بالطبع هناك ظاهرة برزت في الرواية ولكنها ليست تلك التي تنتمي إلى صناعة كتب الرواج (البيست سيلر Best Seller)، وهي ما تسمى اليوم بالسينما. إن السينما تعرف (أو قد تعلمت) القص وهي تظهره بالعودة لسرد كتب ذات نجاح شعبي، كما حصل في نموذج الحديقة الجوراسية. من جانب آخر، فالسينما حاضرة لتشجع الرواية منذ العام 1915، عندما عرض غريفيث فيلمه مولد أمة، الذي حاز على نجاح كبير، نجاح أكبر من الرواية الأصل، وهي في الوقت ذاته قد شكلت نمط رواية متوسطة ما بين النجاح والأصل في طريقة سردها السينمائي.
لقد حصلت للرواية خطوب لا تحصى. واحدة منها ذات أصل أمريكي لاتيني، وكان لها إعلانها المنطوق بالعكس، من قبل ناقد بيرواني هو لويس ألبرتو سانشيز، حيث سك جملة جعلته شهيراً ـ لبعض الوقت ـ، قال سانشيز: « أن اميركا اللاتينية، رواية دون روائيين». لو عاش سانشيز لتأسف لمقولته تلك، لأنه لو حدث شيء ما في القارة الأمريكية خلال الأعوام الأخيرة، فهي الغزارة الروائية، كل واحدة برفقة صاحبها. وهكذا ابتدأ ما يسمى اليوم بأدب الإنفجار (BOOM ) في أعوام الستينات ولم يمت حتى الآن. هذا على الرغم من أن على البعض أن يمنحوا الميت تنفساً من فم إلى فم ـ بينما المعتاد أن يكون من (فم على فم آخر) ـ .
الروائيون الأنكلوسكسونيون، الشهيرون منهم مثل ديكنز، لم يبتكروا أبدا أية مدرسة أو أن يعلنوا عن برامج صالحة كنموذج. أما الروائيون الفرنسيون، فعلى العكس، دائماً ما كانوا منشغلين بابتكار مدرسة معينة أو ترك نصب مميز. شعارهم عبارة عن معضلة بحد ذاته. لقد خلق أميل زولا الطبيعية ومدرستها. ولكن مستقبل الرواية، الفرنسية أو غيرها، ليس في الاستاتيكية الجمالية التي تحدث عنها آلان روب غرييه في مقاله (نحو رواية جديدة). لقد ترك غرييه الكتابة ويقوم اليوم بعمل أفلام ممتلئة بنماذج ملتوية تتحدث بصوت المؤلف.
دون شك، فإن الرواية ،جديدة كانت أم لا، قد ماتت. وإن تتبع أثر ثربانتس و بترونيو، يجب أن يعيدنا لتفقد الأثر من أجل رواية قديمة. ما أقوله، هو ما تم توضيحه لاحقاً، وما يتم التعرض له اليوم، وكأنه دين أزلي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى