درنوني سليم - الخيمة كسند للهوية الأنثوية

سيظل فضاء الخيمة كفضاء سكني جزءاً من التاريخ الاجتماعي للبدو الرحل ونصف الرحل، سيظل هذا الجزء الفيزيائي الذي تتشكل فيه القيم الشخصية حاجة أساسية يطلبها الإنسان، حاجة تتطلع لها المجتمعات لتسجل من خلالها نمط حياتها وأسلوب معيشتها، لتجعل من الشَّعْرِ والوبر والصوف لغة حية مرئية تبعث معاني ذات خصوصية. ولأنه كسائر اللغات الحية الأخرى التي تتطلب تجددا مستمرا، كلمات جديدة تواكب العصر وتقنياته، يعكس فضاء الخيمة، دائماً هذا التجدد وهذه الحيوية، فعندما نتحدث عن هذا النمط من المسكن نحن نتحدث عن الإنسان، عن المكان، وعن الزمان، فعندما ينصب الإنسان خيمته يكون في نفس اللحظة في موقع في الفضاء ومعرض لخصائص بيئية محددة. ولكن عليه كذلك أن يعرف نفسه في هذه البيئة، والذي يعني أنه يجب عليه أن يعرف كيف يكون في مكان محدد؟ الخيمة الأولى هي بداية تشكل الذاكرة والحلم لدى الرجل والمرأة فلا غرو إذن أن نجد هذا التداخل بين الأسرة والخيمة والحنين لذلك العبق الذي يستحيل نسيانه. هذا التواصل العذب يجعلنا لا نبدي أي استغراب لفضاء البيت أو الخيمة الذي ينمي إحساس الأمومة الذي تحدث عنه «غاستون باشلار» Gaston Bachelard [1884 – 1962] في كتابه « جماليات المكان» فذلك الإحساس الفطري موجود بوجود الإنسان فكما أننا نلجأ للبيت لتغذية الإحساس بالأمن كذلك نلجأ للبيت لملء أنفسنا وقلوبنا بالعاطفة والدفء والاستقرار وممارسة النظام اليومي الذي يصنع فينا القدرة على التعامل مع الوقت ويوجد فينا الوعي بأهمية النظام. لقد قال ( باشلار ): « حين نحلم بالبيت الذي ولدنا فيه وبينما نحن في أعماق الاسترخاء القصوى ننخرط في ذلك الدفء الأصلي في تلك المادة لفردوسنا المادي.. سوف نعود إلى الملامح الأمومية للبيت »[1].
نحن نتحدث هنا عن تمازج غامض بين الإنسان والمكان، بين الذات والموضوع، بين الوضوح والغموض وبين الشخصي والعام، المسكن يشكل هذه الظاهرة الغامضة المتشابكة، حينما يكون الحديث عن تصميم الخيمة كفضاء سكني يتحول الحديث إلي خطاب عام أكثر منه خطاباً متخصصاً، فالكل يعني له هذا الفضاء شيء ما، ويختلط بذاكرته ويشكل بيئته المدركة المتحولة، على أن هذا الفضاء السكني لا يعني لكل منا الإطار الفيزيائي فقط بل إنه يمتد إلى أسلوب الحياة، إلي نظام العلاقات اليومية داخل الأسرة وخارجها، وتصميم هذا الفضاء يفترض منه أن يتعامل مع هذا النظام ويرضيه، في حديثنا عن فضاء الخيمة وتصميمه سنتحدث عن المرأة بصفتها انعكاس لفكرة السكن، فنحن نرى المسكن ظاهرة أنثوية أكثر منها ذكورية، لذلك فلا يمكن لأحدنا أن يتناول المسكن كفطرة أو حتى كواقع معاش دون أن يتحدث عن علاقته بالمرأة، هذا الكائن البشري الذي التصق بهذا التكوين الفيزيائي الاجتماعي النفسي. فأحد معاني المرأة هو السكن أو معنى كلمة (سكن) هو (المرأة التي يسكن إليها) مصداقا لقوله تعالى « ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة»[2]. هذه الآية تشير إلى ارتباط السكن والمسكن بالمرأة كما أنها حددت آلية واضحة يمكن اعتبارها ظاهرة اجتماعية وهي أن العلاقة الحميمة بين الإنسان والمكان تبدأ وتتطور في ظل السكن بوجوده الفيزيائي ووجوده الاجتماعي ممثلاً في الأسرة. ولو حاولنا تقصي معنى كلمة «مسكن سوف نجد أن هذه الكلمة لها حضورها المادي مصداقاِ لقوله تعالـى: « والله جعل لكم بيوتكم سكناً»[3]فإذا كانت الخيمة هي الصورة المادية فإنها تتحول إلى مسكن بوجود الإنسان وخصوصاً المرأة فتصبح في هذه الحالة من المحرمات التي تصنف من أعلى مراتب الخصوصية كما في قوله تعالى« ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة»[4]. إذن هناك ثلاثة أبعاد تجعل المسكن أكثر حضوراً بالنسبة للمرأة فكونه وعاء فيزيائيا هو في هذه الحالة الحافظ للمرأة وخصوصيتها من أعين المتطفلين، وكونه استقراراً أو سكينة ذلك أنه يعني المرأة نفسها ملجأ الرجل أمه وأخته وزوجته وابنته، مدرسته الأولى التي تعلم فيها وشب على نهجها. أما البعد الأخير فهو نتاج للأول والثاني فالمسكن يحتوي المرأة وأي تغير في نوعية ودرجة هذا الاحتواء يعتبر مؤشراً لتغير دور المرأة في المجتمع. ففي المجتمعات الجمعية استخدم المسكن كوعاء لحفظ المرأة في المجتمع مما جعله شديد الخصوصية يتخذ موقعاً بعيداً عن الحياة العامة ويتوارى خلف ستائر وأحجبة مصمتة لا تنفذ إليها عيون المارة لذلك نجد أن المقارنة بين وضع الرجل والمرأة في المجتمعات الجمعية تكشف لنا أن الرجل نشيط اجتماعياً ويميل إلى الخارج بينما المرأة سلبية اجتماعياً وتميل إلى الداخل مما جعل المسكن فيزيائياً وسطاً يحمي المرأة ويركز على الأسرة كمستخدم رئيسي ولكن هذا لا يعني أن الرجل لم يوجد الفضاءات الخاصة به، بل على العكس من ذلك فلقد اتخذ الرجل أجمل فضاءات المسكن ولكنه فصلها كلياً أو جزئياً عن بقية فضاءات العائلة. وإذا كان المجتمع الجمعي جعل المرأة ترتبط بالمسكن فإن المجتمع الفردي قلل من هذا الارتباط حيث أصبحت المرأة أكثر نشاطاً في المجتمع بينما قلت ارتباطات الرجل بالقبيلة والأسرة الممتدة، ارتباطات وثيقة تجعله دائم التعلق بالخارج في السابق، فلقد انفصل الرجل عن تلك الروابط مما جعله يتعلق بداخل المسكن أكثر بينما أدى خروج المرأة للتعليم والعمل إلى بروز نطاق اجتماعي نسائي جعل المرأة ترتبط بالخارج بشكل كبير. ولو حاولنا تتبع التحول الذي طرأ على هذا الفضاء السكني الخاص في مجال الدراسة خلال العقود القليلة الماضية فهل نستطع أن نقول أن المسكن انتقل من الوضع الجماعي إلى الوضع الفردي؟ إن الملفت للنظر هو استمرارية القيمة الرمزية للكرم وان اتجهت أكثر لإبراز المكانة الاجتماعية لصاحب المسكن عن طريق التركيز على المجالس، ولكن كيف تغير وضع المرأة وأين أصبح خط التماس الفاصل بين قسم الضيوف وقسم النساء في المسكن. قبل المضي في الحديث عن وضع خط التماس في المسكن البدوي المتحضر نود أن نوضح أن المرأة البدوية رغم التغيرات الكبيرة التي طرأت على وضعها إلا أن أغلب الآراء اتفقت على أنها مازالت الملكة في مسكنها ومازالت مرتبطة به أكثر من الرجل وذلك لأن المرأة البدوية لها وضعها الخاص فهي ملتزمة، مما يجعل المسكن هو النطاق الترفيهي الذي تروح فيه المرأة عن نفسها.

[1 باشلار غاستون: “جماليات المكان“، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر بيروت، ط2، 1984، ص38.
[2] سورة الروم، الآية (21).
[3] سورة النحل، الآية (16).
[4] سورة النور، الآية (29).


* درنوني سليم: مقتبس من رسالة ماجستير أنثروبولوجيا


.
http://nsa14.casimages.com/img/2010/05/04/100504064948962267.jpg
 
أعلى