روهات آلاكوم - الإيروسية في الأغنية الكردية (النهد) - ت: خلات أحمد

"يعتبر الفلكلور مرآةً للوضع الاجتماعي، نستطيع من خلاله، أن نرى أوجهاً عديدة للتطور الاجتماعي. وقد أشاد جميع المثقفين والمستشرقين الذين وقفوا على الفلكلور الكردي، ونقبوا فيه، بثرائه، خاصة الشفاهي منه، وللأسف، لم يُجمع ويدون بشكل كامل حتى الآن، وما تم جمعه وتدوينه، لم تجرِ عليه دراساتٌ وافيةُ؛ وفي تدقيقنا لهذا الفلكلور الشفوي، فإننا نرى أن موضوع المرأة أخذ دائماً مكانة رائعة، وهذا أمرٌ يؤكده معظم الباحثين في هذا المجال.
كيف نظر المجتمع الكردي إلى المرأة في القرن التاسع عشر؟، تستطيع الاجابة على هذا السؤال بمساعدة مادة الفلكلور.
لقد دافعت المرأة الكردية عن إرادتها قدْر مااستطاعتْ. وتحدت جميع المصاعب التي اعترضتها، وهربت مع عشيقها عندما أرادت: “هروب المرأة من عادات الدنيا”، مثل يوضح وفاء وجرأة المرأة الكردية؛ لكن الحصار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ضيّق الحلقة حولها باستمرار، وسدّ أمامها سُبُل الخلاص، وهي بدورها، لم تنحنِ لتلك المصاعب، خاصة الهجوم على العشق، والذي تمت ادانته عن طريق الأغاني والملاحم والأمثولة والأساليب الأدبية الأخرى."
عندما نتمعن في الأغاني، نرى بأن “النهد”، قد أخذ مكانة خاصة فيها. ففي كل أغنية عن العشق، قد ذكر فيها النهد، قليلاً، أو كثيراً، وهي، بلاشك، تؤسس لأدب إيروتيكي، حيث تظهر تدفقاته جلية في هذه الأغاني التي استخدمت فيها لغة راقية؛ فالفتاة ترغب أن يكون عشقها مقروناً بالصداقة، وتطلق على فتاها صفةَ الضيف، وترمي بالمال والجاه جانباً، وترى العشقَ، أسمى مافي الوجود:
تعالَ، عزيزي
“أيها الشاب “أمينو”، تعال ليلة،
ضيفاً على والدي،
لتطوف بنهديّ، أنا الحورية.
هذا أشهى لك من آغاوية الرمانية”.(1)
كلّتْ عيناي من مراقبة طريقك
“أقبلْ أيها الشاب.
ـ رأسي فداءً لرأسك ـ
في ليلة من ليالي الخريف،
وكن ضيفاً على صدر ونهدي صديقتك”(2)




إن الإيروتيك حاضرٌ بقوة في أغاني العشق، والتي لانستطيع التأكد بأن هذه الأغاني قد ألفت من قبل العامّة، والطبقة الأرستقراطية ليست بأية حال هي مؤلفتها. إنه الشعب نفسه، وقد بقيت دائماً بمنأىً عن أدب الدعارة، والذي يرتكز كما هو معروف على إثارة الغرائز الجنسية لدى القارىء، بالرغم من أن الحدودَ تضيق أحياناً بين هذين الأدبين، والأغنية الفلكلورية الكردية بثرائها واسلوبها الراقي، ظلت دائماً بعيدة عن تخوم أدب الدعارة، وحافظت على تميزها عبر السنين، وهذا في حد ذاته، يشكل مقياساً على قوتها واستمراريتها.
نرى، في الميثولوجيا الكردية، وفي الملحمة الخالدة “مَمْ و زِيْنْ”، كيف أصبحت زين رمزاً للعشق تضاهي الآلهة اليونانية “آروسا”، والرومانية “آمورا”، وظلت تدور على ألسنة الكرد عبر السنين، دون أن تفقد شيئاً من قيمتها وشهرتها، وفي نفس الملحمة، تمرّ عدة شهادات عن النهد، من قبيل “فتيات بنهود كالرمان”، أو “فتيات بنهود مستديرة”(3)؛ وهذا يدل على أنّ النهدَ قد أخذ مكانته الخاصة في الأدبيات الكردية، سواء الشفوية منها، أو المكتوبة، وأصبح موضوعاً إيروتيكياً، ومن ناحية أخرى، فإن التشبيهات والنعوت التي أطلقها أحمدي خاني، مبدع ملحمة “مم وزين”، ستأخذ مكانتها في وصف النهد، فيما سيلي من الأدب الكردي.

النهد: كلمة ايروتيكية
يعتبر النهد رمزاً للأنوثة، وقد عدّ عبر السنين، وفي كافة الأجناس الأدبية رمزاً للبركة والجمال، لِما له من أهمية في عملية الرضاعة، إضافة، إلى وظيفته الأهم: “الإيروتيك”.
النهدان مثل باقتان من الورد، عندما ندسُّ رأسَنا بينهما، تهتز مشاعرنا، ونثمل برائحتهما وملمسهما البضّ، ولهما الدور الهام وصداهما المؤثر في أي منا. وقد اعتبرت نهود الفتيات دليلاً على نضجهنَّ وزينة لهن، وعاملاً في جذب الرجال،إليهنَّ كما أعتبر حجمهما، مقياساً للإنوثة، ويمكن للنساء، وبعامل النهدين أن يجعلن الحياة الجنسية أكثر إثارة.
في قصة التطور الانساني، نرى بأن ذكر النهدين أصبح أكثر سهولة، في القرون الماضية، ولم يسبب هذا، أبداً، أية اشكالات اجتماعية حتى الآن، وكما نرى في وسائل الإعلام، ثمت عدة قبائل أفريقية، تكشف نساؤها عن نهودهن دونما أي خوف. تُرى ماهو الأثر الذي تركته الحضارات القديمة في الأغنية الكردية؟، بالرغم من أن جواب هذا السؤال، ليس موضع بحثنا، لكن، يمكن في كل الأحوال الإجابة عليه.
في اللغة الكردية، هناك مفردات كثيرة تدل على النهد، واستخدام هذه المفردات، يختلف باختلاف مناطق كردستان، وكلمة “نهد” بالكردية (Memik)، تنحدر من الكلمة اللاتينية (Mama)، وتأخذ هذه الكلمة معنى الأم في لغات متعددة، وعندما ينادي الأطفال والدهم يقولون (Mama)، وبما أن نهود الرجال قد ضمرت، وبقيت بلا مهمة، فليس هناك أي ترابط بين الرجال وكلمة (Mama)، كما تسمى بعض المواد الغذائية المعدة للبيع بـ (Mama)، وباضافة الحرف المساعد K، تصبح الكلمة (Memik)، والكلمات الكردية، والتي تستخدم للدلالة على النهد:
Cicik بز . Sing صدر . Pisir تلابيب. Pasil عب. Singber قطوف الصدر. Guhan ضرع. Hingl ثدي.
وتستخدم كلمتا “ضرع، وثدي” في أوساط العامة، أكثر مما في أوساط الإرستقراطية، ومن ناحية أخرى، فإن كلمة ضرع، تستخدم بشكل واسع للحيوانات، مثل ضرع البقرة، وبالرغم من استخدام كلمتي التلابيب والعب للدلالة على النهد، إلا أنهما تدلان على جزء من البدن، أو مايحيط بالنهدين من ألبسة، مثل “أغلقي تلابيبك”، أي أغلقي الأزرار التي في ثوبك ناحية الصدر، أو “ضعْ نقودك في عبك”، كمكان لحفظ الأشياء الثمينة، وسنقف فيما بعد على بعض الأمثلة: “عبها مليء بالتمر”، “عبها مليء بالزبيب”، والتي تمر في بعض الأغاني الكردية، وتمر كلمتا التمر والزبيب، كناية على النهدين، بمعنى أن زمان وسياق استخدام هاتين الكلمتين، تحددان معناهما، ولهذا نستطيع استخدامهما للرجال أيضاً، وفي المناطق المحيطة بـ قُونَيه (كردستان تركيا)، يقولون: يرضع الصغير من تلابيب أمه، بدلاً من قول: يرضع الصغير من نهد أمه.
تستخدم في الكثير من الأغاني الكردية كلمة “Singber/قطوف الصدر” للدلالة على النهدين، وتستخدم كلمة “Sing/الصدر”، في اللغة الكردية، وكما في لغات متعددة أخرى، للدلالة على القسم العلوي الأمامي من الجسم، وكذلك للدلالة على النهد كما في اللغة الألمانية: “Brost”، والسويدية “Brust”، وفي اللغة الكردية وفي الأغاني الفولكلورية خاصة، تستخدم كلمتا الصدر والنهد مترافقتين مترادفتين إيروتيكيتين، وكما تستخدم فيها كلمة “Singber/قطوف الصدر”؛ لكن، من أين تأتي كلمة “Ber/قطوف”؟ تستخدم هذه الكلمة في اللغة الكردية للدلالة على حمل أشجار الفاكهة،
وكذلك الجزء الأمامي من صدر المرأة، وعندما نربط بين معنى الكلمتين، نلاحظ منطقية الربط. وبالرغم من الاستخدام المتكرر لكلمة Cicik/البزّ، في اللغة الشفوية للدلالة على النهد، فاننا لانراها في اللغة المكتوبة. كما أن الحلمة بشكلها ولونها قد أخذت مكانتها الخاصة في الأغنية الكردية، وكذلك المنطقة المحيطة بها: شاماتها ونتوءاتها اللحمية الصغيرة، والتي تسمى باللاتينية “Areol Mamme/حديقة الشامات”، وقد ذكرت هذه المنطقة في الأغنية الكردية بـ حديقة الورود، مثلما يقال: “نضجت قطوف صدر عيشاني، ازدانت بشاماتها الصفراء والحمراء”(4)، كما ترد “شامات وخطوط النهود”، وعليه، فاننا نرى بأن الحلمة والمنطقة المحيطة بها قد أخذت مكانتها في الأغنية الكردية.
مَنْحُ النهدين
الأمر المثير للانتباه أكثر من غيره، هو أن أغلبية الأغاني في أوصاف النهدين، قد غنيت من قِبَل النساء أنفسهنَّ، وهذا ماينفي عدة أحكام عن فعالية النساء في العلاقات الجنسية، وكذلك يلقي الضوء على مكانتهن ودورهنَّ في المجتمع. وهذا الأمر قلَّما حدث في المجتمعات الاسلامية، وهو موضوع لم يورد ذكره بكثرة في اللغة التركية، وليس بنفس المستوى من الانفتاح والحرية، كما في اللغة الكردية. تٌرى، هل نستطيع وبالاعتماد على هذه الأغاني الفلكلورية القديمة، أن نعتقدَ باستقلالية المرأة الكردية؟ بالرغم من أن المقال غير مقام مثل هذا السؤال. لكنه، من الأهمية بمكان ذكر ذلك، فالمرأة الكردية عندما تعشق، فان أول هباتها لرجلها “نهديها”، تقدمهما لـ “حليل روحها”، و”عزيز قلبها الجميل”، وترى في هذه الهِبة، أغلى من كل شيء عندها، ترمي بخوفها، وترتب عطايا عشقها في ترانيمها:
درويشي عفدي
“هذا وشاحي الأحمر المزهّر،
أعقد فيه نهدي الأشقرين، وأهبه لعزيز قلبي”.(5)
أحمدو روني
“أحمدو روني، لعليّ فداءٌ لك،
اسمي “بسنه”
أناملي مرمر شاميّ
صدري، وقطوفه، قصر ومروج،
أدرّ عليه قطيعك المشاكس،
أني سمحتُ لك، راضيةً”.
ولتسعد حبيبها، تقدم المرأة له كل ماتطاله يداه، والهِبة الأكثر أهمية في هذه الأغاني هي “النهد”، ويتضح ذلك من أغنية “أيها العزيز”:
“ليتني فداؤك،
سأحضر عزيز داري للرحيل
سأجهز فطوراً لعزيز داري،
سأسفح عليه السمن البلدي.
إذا لم يرضِ ذلك عزيز الدار،
سأقدّم له نهديّ،
آهٍ.. أيها العزيز.
لعلي فداؤك.
برية ماردين، برية صعبة
يلهث فيها أشقر “قره داغ” المحروقة.
الحلى الذهبية والفضية، تلتهب
على صدر حبيبي، أنا المسكينة”.(6)
في هذا العشق الحار الشفاف، تستطيع الفتاة أن تهدي أحد نهديها، لمن يبشرها بقدوم حبيبها، مع أنه ليس بحبيبها، لكن، ولروعة الخبر الذي يحمله، تقدم له أحد نهديها ـ طبعاً، فقط في الأغنية ـ، وهذا يبرهن على عمق عشقها في الواقع:
“فتاي، أنا فداؤكَ، وجبل آرارت شاهد،
من يناديني: “كدو”، لقد جاء فتاكِ،
سأهبه عيني اليسرى، ونهدي الأيمن”.(7)
وفي أغنية “عزيز البرية”، الفتاة مستعدة لتقديم “قبلة خدها اليمنى”، لمن يحمل لها خبراً من حبيبها:
عزيز البرية
“حلفتُ اليمين الأعظم،
مَنْ يبشّرني بخبر من عزيز الدار،
سأمنحه طواحينَ والدي السبعة
على نهر نصيبين.
وإن لم يرضَ بذلك،
سأمنحه قبلة من خدي الأيمن”.(8)
في بعض الأغاني، تكون المرأة مستعدة دائماً للقاء حبيبها، وأحياناً تفقد الصبر، ولكي يصل إلى نهديها، تجهز بنفسها الزمان والمكان، عندما تواجهها المصاعب من جهة الأب، الأم، أو الزوج السيء، تزجّ بنفسها في مآزقَ، وفي الوقت نفسه، لاتريد أن ينتبه أحدٌ إلى لقائهما. المرأة الكردية في رؤيتها للعشق كأسمى ما في الوجود، شكّلت أساساً فلسفياً: “ليت الذي يقف بين قلبين وأربعة عيون، لايرى الخير أبداً”، عندما نفكر في هذه الكلمات الذهبية، نتلمس الهدوء والراحة التي فكرت بهما في حريتها ومتطلباتها، ومع ذلك، فان هناك العديد من التحفظات، تنأى بنفسها عنها: “عندما يغيب القمر”، أي في الظلام، عندها فقط، تستطيع أن تلتقي بحبيبها بأمانٍ:
“قمر قريتنا، صافٍ مشرقٌ
وكأنه لأجلنا، لايريد الغياب،
يافتاي..
تعالَ، عندما يغيب القمر.
أفتح لك صدري، أنا العاشقة،
نهداي قشدة بلدية مرشوشة بالسكر”.(9)
بلى، أيها الضيف
“ياضيفنا، إن كنتَ تسأل عن المذاق في دار والدي،
ثمت على جدرانها، جرتان
وضعتا على تربيعتين
ثمت كوة، خلف إصطبل دار والدي،
في الليل، في منتصفه، انسلَّ منها،
وإن أحسَّ بك والديّ،
سأقول: لم تكن ضيف صدري ونهدي،
بل حارس ليلي تائه،
عَطِشٌ يبحث عمّن يسقيه”.(10)
في عدد من الأغاني، يصبح لقاء الفتاة والفتى، لاهداء النهدين، عادة معاصرة، وكما سنرى، في الأغنية التالية، فإن الفتاة تفصح لوالدتها ولاتخفي عنها بمكنون صدرها:
“اقصد دار والدي.. أنا الفتية،
سأدخلكَ بين فراشي وفراش عزيز قلبي،
وإن نادت والدتي: من هذا؟ ولِمَ الضوء؟
سأقول لها: أيتها الثكلى،
هذه من عادات فتيان وفتيات هذا الزمان،
اليوم.. ثلاثة أيام، وعزيز قلبي زعلان،
سأضع نهديّ في فمه، ليرضي”.(11)
منح المرأة نهديها لرَجلها، يزيل كل أشكال الشك واللاثقة في علاقة الحب بينهما، وتصبح هديتها هذه ـ عن طريق الأغاني ـ قواعد وقوانين العشق، وتأكيداً له، ومن جهة أخرى، تستطيع اختراق القوانين، ورميها جانباً، لتتكشف حالة اللاحب وبرودة المشاعر؛ فهي في منحها لنهديها لرجلها، لاتمنحهما فحسب، بل تتحدث، أحياناً، عن تثبيت ملكيتهما له:
بافي سَيْرو
“بافي سيرو، ليتني فداؤك،
لِمَ أنت صامت؟
لاتجاوز منازل “آلوجا” الأربعة وراء الديار،
صدري ونهدي ـ أنا الصبية ـ كحدائق طور ماردين،
لِمَ لاتثبّت ملكيتكَ لها؟”.(12)
الوظيفة الثانية للنهدين
أ ـ كدواء: أرادت المرأة في عدة أغانٍ، أن تجعل من نهديها دواءً لمعالجة زوجها أو حبيبها: كريماً تضعه على موضع الجرح، لتروّح عن قلبه، وهي لم تجد ماهو أنجع وأغلى من نهديها لمعالجة الجرح:
بافي فَخْرو
“ ذهبتُ إلى “بولِنْدي” صبري حجي ليس في الدار،
لأجل استقلال “الشيخ سعيد”، قامت مجازر الأتراك،
توجه صبري وهو كليل إلى الألمان،
أخشى أن جروح صبري حجي ـ وهو أسفل الخط ـ
بلاطبيب، بلا دواء،
سأشق نهديّ،
ليكونا له مصلاً ومرهماً، وأنجع دواء”.(13)
من ناحية أخرى، فإن هذه الأغاني تقترب من أغاني الحِداد، وإن لم يكن ثمت من موت أو قتل؛ لكن النواح والبكاء موجودان، وفي حالة كهذه، أعتقد بأن ذكر النهود مرتبط بالرغبة في سرعة شفاء الجرحى، حيث ترغب الفتاة وبهبة نهديها لحبيبها الجريح، من رفع معنوياته، وزيادة فسحة الأمل للشفاء، والترويح عنه، ولهذا، فهي بافي فخرية
“بافي فخرية، ليتني فداؤك،
من الجمعة إلى الجمعة،
هذا هو اليوم الثالث، وبافي فخرو جريح،
يرقد بين الأغطية ـ أنا المفجوعة ـ،
سأرفع أكمامي وأطراف ثوبي،
أقصد الحكيم “آراكل”، في خرائب “هادهاكا”
“آراكلو”،
استخرج من صدري ونهدي ـ أنا الفتية ـ
مرهماً لمداواة جراح حبيبي”.(14)
ب ـ كغطاء: اعتبرت النهود، لدفئها وملمسها البضَ الناعم، كغطاء ثمين، وشُبهت بالمضافة والقصر؛ وترمي هذه الأغاني إلى أن المرء، يستطيع أن يستريحَ حقاً، وفقط، على صدر ونهدي حبيبته، ويتدفأ بهما في ليالي الشتاء: “ليتني في ليلة من ليالي كانون الشتائي، كنتُ ضيفاً بين نهدي الجميلة”(15)، والاحتضان بين الرجل والمرأة، عُرف كأحد مقومات الحب، ودخول الرجل بين نهدي حبيبته، يؤكد هذا الحب، ويظهر ذلك جلياً في عددٍ من الأغاني:

هَسّو
“إنه الليل، رطبٌ ونديٌّ،
يالصبايَ،
اصطبلنا موحل
تعالَ، ادخل بين غطائي وفراشي، أنا المتضرعة إليك،
إن لم يعجبك،
ستجد عند رأسك، زوجاً من النهود الشقراء،
حلماتها حمراء، وأرضيتها بيضاء”.(16)
جـ ـ كضوء: في عدة أغانٍ، يضيء النهدان “كإنارة الليل”(17)، فالضوء والأشعة التي تحيط بهما، تبدد الظلام الذي يغلف المغني (المغنية):
عيشي
“عيشي، ليتني فداؤكِ،
صبايا وعرائس هؤلاء “الكوجر”، أخذن بقلبي،
صدر ونهد عيشانتي
قمرٌ مضيءٌ فوق بيادر هذا الخريف”.(18)
د ـ كتسلية: في ليالي الشتاء الطويلة، حين يمر الوقت بطيئاً، أو عندما يضيق صدر الفتى، ويفكر بالرحيل والاغتراب، فإن الفتاة، وفي عدة أغانٍ، تعاتب فتاها، ليدخل بين نهديها، ويتسلى ويسرَّ بهما، وباختصار، فان النهدين هما مصدر للترويح عن النفس، وتزجية الوقت الطويل من الليل، وبهذا الشكل، يمر ذكر النهدين في عدة أغانٍ:
شاهينو
“شاهينو، ياالمجنون، كم أنت مجنون!
لاتأخذني، ولاتخطفني،
من أين ستأتي بمهري الغالي،
أنت لاتخاف الله، لتهزَّ عطف الفضة على صدري.
صدري بستان الزهر والتفاح،
إذا ضاق صدركَ،
اقصده فترة
لتروّح عن قلبك الهموم”.(19)
حوريتان
“ياروحي، ياروحي،
تقف حوريتان أمام دار والدي،
تقول الأخت الكبرى، للصغرى:
حلَّ الليلةَ ضيفٌ على دار والدي ووالدكِ،
هو عزيز جداً،
وأنا لاأعرف ماذا سأقدّم له؟ ماذا يليق به؟ مايجوز له؟
في الليل، في منتصف الليل،
سأسلّم له نهدي الأشقرين.
ليالي الشتاء، طويلة ليالي كانون، طويلة،
انهض، اجلس، وداعبهما”.(20)
ومن ناحية أخرى، عندما يذهب حبيب الفتاة إلى الجيش، أو يغترب في بلادٍ بعيدةٍ، عندها تقدم له نهديها، لضيق صدره:
الحذاءُ الأسودُ
“إذا حللتَ ضيفاً على دار والدي،
سأفرش لك قرب غرفة الإيوان،
سأقدم لك نهدي الأشقرين لشهوة روحك،
وليسرَّ قلبُك بهما حتى الصباح”.(21)
هـ ـ كـطعام: في أغانٍ كثيرة، يتمّ ذكر النهدين، كأنواع متعددة من الأطعمة، مما يدل على أن مذاق ولذة النهدين، بقيت ولفترة طويلة، ترنيمةَ المغنيين (المغنيات)، كما سنرى فيما بعد، إن النهد يشبه بالفاكهة، فيما عدا ذلك، فإنه شبيه بـ الفطور، الغداء، الاسحار، المكسرات، الكباب، العسل:
“سأقطف حلمتي نهدي،
أجعلهما فطوراً للكهول،
وغداء للشباب”.(22)


تأثيرات: الذكور الذين لايمنحون النهودَ حقَّها
كما يبدو، وفي عدد من الأغاني الكردية، فإن المرأة، ليست مسرورة بزوجها دائماً: “الأزواج الذين لايوفون حقوق النهدين”، وهؤلاء، لايعدّون في رأي المرأة رجالاً، وتطلق عليهم ألقاباً معينة: “أجرب، بوم، عاجز، مبلول، أبرص، مخفوس، متهدل، حيوان، شرشوح، نسوانجي” رخو..الخ”، وأسباب هذا الجفاء كثيرة، كأن تكون المرأة قد خطفت بالرغم من ارادتها، الزواج دون حب، الزوج البصّاص، الضعف الجنسي، وأسباب أخرى كثيرة، وأخيراً، البرود في العلاقات العائلية والجنسية، والذي يصل إلى حد الجفاء، إلى درجة تتعذر فيها الراحة للمرأة، والنساء لايحبذن “الرجال الذين يديرون ظهورهم للنساء حتى الصباح”. إن هذه الأسباب، مهدت للمرأة امكانية البحث عن عاشق جديد، كما سيتبين ذلك في أغنية إمرأة تشكو إلى عاشقها الجديد: “تعالَ، واقتل زوجي العاطل”. وتبدو النساء في هذه الأغاني حزينات كسيرات:

“بوابة دار والدي ـ أنا اليتيمة ـ مغبرّة وضبابية،
انهض، واقتل زوجي، الكلب العاطل،
دسَّ فمكَ في عنقي الأميري،
وامتصَّ نهديَّ”.(23)
خليلي قازي
“أتمشى في دياربكر المحروقة بمشمشها،
أطواقي وسلاسلي تتهدل على قدي الأهيف،
ليفعل والدي الخير، ولايراه،

لم يرض بتزويجي من “خليلي قازي”، الفتى الكرمانجي،

وأعطاني لهذا المدني، ذو القبعة المثقوبة،
يسهر على صدري حتى الصباح”.(24)
تبدو في هذه الأغاني، المرارة وعدم رضى المرأة من زواجها، ونستطيع تلمس حالة عدم الرضى هذه بسهولة في أغنية “أيها السيء”، لَما تحتوي من تنديد شديد بالزوج السيء، وهي تُغنى من قبل إمرأة في قلبها حسرة كبيرة. وكما نفهم من مضمون الأغنية، فإن الزوج (بصّاص) يخدع النساء، يدور بين البيوت. وأثر النهدين في الأغنية كبير جداً، حيث تحاول المرأة بتأثير نهديها، أن تستعيد زوجها، فهي تمزج الرجاء بالعتاب بالشكوى بالنُصح، لتعبر عن مشاعرها؛ وتبدأ الأغنية هكذا:

“لايسعد الرعديد بصدر الجميلة، أيها السيء.
صدري ونهداي، أنا الظبية
كقصر ماردين المحروقة بزجاجه الجديد
لا، والله،
كمثل عنقود عنب في بساتين “علي رمّو”
نضج بتأنٍ على عريشته”.
...
“أيها السيء، يامحروق الدار،
أدعوكَ، كل ليلة من ليالي الله،
لتطوف، ولتقبّل صدري ونهدي، أنا الظبية،
هما لك
صحن عنب طري طازج
في “ميركا ميرا”، أسفل قره داغ،
امضغهما كالكِتَّان،
اعصرهما، حتى يسيل منهما الماء،
اثلمها بقلم سكينك،
وعضَّهما، ليخرج السكر.
أيها السيء
كل ليلة من ليالي الله،
أدعوك، لتجلس قربهما،
التهمهما، ولاتبقِ شيئاً”.(25)
وصْفُ شكل النهدين
عندما ذكر المغني النهدين، شبّه شكلهما ولونهما ونضوجهما بأشياء محددة، وبنى التشابيه بينها على أسس منطقية، وقد أخذ هذا الأمر مكاناً واسعاً في الأغنية الفلكلورية الكردية.
أ ـ شكل النهدين: في أغانٍ عديدة، شبه النهدين بأنواع معينة من الفاكهة، لماذا الفاكهة؟، أعتقد أن هذا التشبيه قد بني على أساس استدارة النهدين وقرب شكلهما من أنواع معينة من الفاكهة، وكذلك بشكل أكبر اللذة التي استمدها المغني من الفاكهة يوماً ما، فأعاد اكتشاف هذه اللذة في النهدين، فتمازجت استدارة ولذة الفاكهة مع النهدين في هذه الأغاني، ومن الفاكهة التي استخدمت كرمز للنهدين: التفاح، العنب، البرتقال، التمر، التين، الجوز، الشمّام، اليقطين، الرمّان: “نهداها ـ مخروبة الديار ـ احمرّا، كشمّام سهل هَسِنا”.(26)

بلى مَيْرِي
“نهدا ميرمتي
تمرتان من تمر بغداد،
تينتان من تين شنكال،
عنب من عنب بِسِندر،
يقطين من يقطين دياربكر،
لاأعرف ـ أنا الفتي ـ ماذا أفعل بهما، في ليلتي هذه”.(27)

كما أن المغني، بالاضافة إلى استدارة ولذة الفاكهة، يعيد اكتشاف فوحها الطيب في رائحة النهدين، ويشير إلى ذلك في عدة أغانٍ: “امتصتْنا رائحة النهدين، التهمتْنا رائحة النهدين”، وذلك لأنهما يبقيان تحت الثياب طويلاً، فيتدفآن، ويعرقان ويسخنان كالبيض، وعندما تختلط رائحة ودفء بخار النهدين، تصبح الدنيا ملكاً للمغني؛ كما وشبههما بأشياء أخرى، تظهر المقارنة صفاتٍ مشتركةً، مثل: “النبع، الزهور، الحديقة، البستان، الفنجان، الذهب والفضة”، ماهو وجه الشبه بين النبع والنهد؟ أعتقد أن هذا يعود إلى كون الحليب والماء يشربان، فرأى المغني أن النهدين نبعان يدران الحليب بدل الماء. ماهو المقدار الذي تهدأ به مياه هذين النبعين لوعة قلب المغني؟ يتوارى جواب هذا السؤال وراء وظيفة النهدين التالية:

ياأنتِ
“آهٍ، ياأنتِ، أيتها السمراء،
في قرية “دودو”، واديان
نهداكِ الأشقران، فيهما نبعان،
ياأهلي، أنتم لاتقولون شيئاً!
أني (أموت) بعيني وحاجبي السمراء،
وأنتم لاتصدقون”.(28)
أيتها السمراء
“عصرتُ الحلمتين،
سال منهما مقدار ثلاثة فناجين ماء،
شربتُ فنجاناً،
صرتُ ثملاً،
خفيفاً كتبن طائر”(29)





-------------------------------------
جريدة الاتحاد
العدد 1567 ــ 22/5/2007
* الإيــــروســـيــة فـــي الأغــنـيــــــة الـكــــرديــــــة (1-2)
روهات آلاكوم
(النهد) العشق غلاَّبٌ على كل شيء
الترجمة عن الكردية: خلات أحمد
 
أعلى