سلام عبود - المشهد القصصي الجنسي بين الفن والمتعة الحسيّة

ما المسافة التي تفصل بين المشهد الجنسي الأدبي والمشهد الجنسي الإباحي؟ أين الحدود الفاصلة بين المشهدين في النص الروائي العربي؟ وكيف يمكن الموازنة بين القيم الجمالية للعمل الأدبي وامتداداته العاطفية، بين المتعة الفنية وعدم الانزلاق الى الجانب الحسي الفاضح من الصورة أو الأحاسيس الجنسية المبتذلة؟

من المعروف أن لعبة السرد الفني اليوم لم تعد بالبراءة نفسها، التي قامت عليها عملية السرد الأدبي التقليدية. فالحديث عن الاغتصاب أو الممارسة الجنسية مثلا يقودنا بشكل حتمي الى ظاهرة الوصف الجنسي، لاعتبارات عدة، أهمها أن الاغتصاب حالة نفسية وعاطفية عنيفة من حالات الاستحواذ الجنسي، أما المعاشرة الجنسية فهي القبول بالآخر قبولا تاما، بما في ذلك الرضا في التعامل الجنسي. وفي كلا الحالين لا يستطيع الأديب رسم صورة واقعية للاغتصاب أو المعاشرة الجنسية التامة من دون الاقتراب من الجنس اقترابا عميقا. ولكن، على الرغم من التداخل المعقد في البواعث الداخلية للظاهرة الجنسية، لا يزال الأدب يقيم مسافة محسوبة بحذر شديد بين الإباحة والتصوير الفني للمشهد الجنسي. فمشاهد اغتصاب ”مريم” في رواية واسيني الأعرج، )سيدة المقام، مرثيات اليوم الحزين(، واغتصاب سلمى ونادية في روايتي هاني الراهب، )خضراء كالحقول( و)خضراء كالمستنقعات(، ومواقعة زينب في رواية فتحي غانم )زينب والعرش(، لم تدفع الأعرج والراهب وغانم الى ولوج المناطق المحرمة: الأعضاء التناسلية، والإيلاج، والقذف، على الرغم من طابع تلك المشاهد التصويري. وبذلك لم ينزلق السرد في هذه النصوص الى ما هو أبعد من حدود المغزى والدلالة الناتجة من عملية الاغتصاب أو الممارسة الجنسية. فحينما نمعن النظر في نص فتحي غانم المتعلق بالممارسة الجنسية في "زينب والعرش"، نجد أن الكاتب جعل المواقعة الجنسية مدخلا لتداع عن الموت، ولاستعادة لحظة الختان القاسية. عينان ميتتان وشفرة الحلاقة، هما الصورتان الوحيدتان اللتان حضرتا الى ذهن ”زينب” في واقعة فض بكارتها. ورغم اضطراب أحاسيس ”زينب”، التي حمّلها غانم مشاعر أكبر مما تحتمل سلبيتها القاتلة، وخصوصاً مشاعر الشجاعة والكبرياء والاحتقار، إلا أن مقاومة ”زينب” السلبية كونت التمهيد النفسي لعملية السقوط الأخلاقي التي أقدمت عليها لاحقا. هنا يظهر اتحاد وثيق بين الميل النفسي والاقتناعات الأخلاقية، التي تشكل العنصر الجوهري للفعل الإنساني الطبيعي، بصرف النظر عن مقدار فهم الشخصية المعالجة فنيا وإدراكها موضوع الأخلاق والحق والحرية.
ففي نص غانم ظهر "بلل" وعري عقب المواقعة، لكنه بلل من نوع آخر. فهو لا يهدف الى وصف الجزئيات، إنما يرمي الى رسم صورة للتراخي والاستسلام والإهمال القصدي، الذي يشبه الإغماء المتعمد نفسيا، أو غض الطرف أخلاقيا. وهو يطابق مشاعر الاستسلام السلبي ومشاعر الإحساس بالانفصال عن الجسد، كقيمة إنسانية. وهذا ما عنيناه بالوحدة بين النفسي والأخلاقي. فهذا المشهد لخص على نحو نموذجي تضاريس الأرض التي سارت عليها الشخصية، ووضع تمهيدا نفسيا وحسيا مقنعا لسلسلة الحوادث اللاحقة، المتعلقة بتطور شخصية ”زينب” الأيوبي. (1)
وفي رواية )مفاتيح مدينة( لهيفاء زنكنة ترسم لنا الكاتبة صورة تفصيلية شديدة الحسية لعملية مواقعة جنسية، حينما يغتصب "منعم" زوجته "ثريا"، بطريقة شديدة الفظاظة، في ليلة زواجهما الأولى: "كان مستعجلا. مزق اللباس ونام عليها مثل ثور هائج. تلقت في وجهها رذاذ انفاسه التي اختلط فيها العرق ببقايا الأكل المتخمر. بحركة لاهثة فتح ساقيها. دخلها بقوة جعلتها تصرخ ألماً فزاد من احتلاله العنيف لداخلها، ملتذا بحرارة الدم السائل بين ساقيها ودفء رحمها. اراد الحصول على اكبر واكبر، بإيقاع متناوب بات يستزيد من لذة التماس بالدفء الرطب، يدخل، يخرج، كل دخول جديد له يزيد من متعته، كل حركة يقوم بها تزيد من الم الأغشية الممزقة بعنف في داخلها. دخول. خروج. اللذة تزداد. سرعته تزداد، حرقتها تزداد. تتشبث به، تمسك بيده، لتوقفه فيدفعها عنه. يرتكز بيديه على كتفها، يلصقها بحشية السرير، زادت سرعته... صرخ محذرا، لا تتحركي، بعد قليل... وتحشرج صوته وهو يدفع نفسه بقوة اكبر واعنف بداخلها... لا تتحركي" (2)
ولو استبعدنا الجزء الأخير من النص، الذي لا يضيف الى المشهد شيئا عميقا، لرأينا أن الجنس هنا ارتبط بفعل التعذيب.
في هذا النص تتخذ المواقعة طابعا حسيا، ترسمها الكاتبة بكلمات حادة، مجسمة، تتقصى أجزاء الحركة، بما في ذلك عمليات الإيلاج. لكن النص لا ينزلق كثيرا خارج غاياته، ويظل محصورا في إطار تصوير الألم الداخلي المصاحب للفعل الحسي، الذي يرقى، أو ينحط، في تعبير أدق، الى مستوى التعذيب. وعلى الرغم من حسيّة المشهد السابق فإن هيفاء زنكنة ليست ولوعة بتصوير الجنس. وربما يكون العامل السياسي هو الذي لعب الدور الحاسم في دفع الكاتبة الى التوغل الى هذا الحد. ففي روايتها )نساء على سفر (2001)(تختتم مشهدا جنسيا حميميا بين جون وإقبال بصورة مغايرة، رغم الإغراء الذي أتاحه الموضوع والمكان والحالة: "فتحت سحاب بنطاله، تخلصا من أنسجة الملابس الخارجية، أمسكت بيده. قادتها مثلما يقاد الأعمى الى بطنها، سرتها... أنزلتها تدريجيا... أرشدته الى مركز أحاسيسها، بوابة الانتشاء المطلق... باليد الثانية ادخلته ببطء شديد الى عالمها" (ص 150). إن تصوير الحركة الجنسية كاستباحة، وردّ الفعل الداخلي كمعاناة ومكابدة، تقترب في بعض وجوهها من الصورة التي رسمها توفيق الحكيم، لمقدمات العملية الجنسية في رواية )الرباط المقدس(، آخذين في الاعتبار الفارق التاريخي بين النصين ودرجة الاقتراب من المواقع الحساسة. فقد سعى الحكيم الى رصد عمليات الإرسال والاستقبال الجنسية، ولكن من موقع معاكس، موقع اللذة، لا من موقع الألم، كما هي الحال عند هيفاء زنكنة.

يصف الحكيم اللقاء بين الزوجة العاشقة وعشيقها بهذه الكلمات: "وطوقني برقة وحرص؛ كأنه يطوق شيئا مقدسا... ووضع شفتيه على شفتي وضعا لطيفا خفيفا، قبلة شبه طاهرة؛ كأنها قبلة الخطوبة!". ثم: "... وساعدني في خلع معطفي بينما شفتاه تلمسان يدي، وذراعي ونحري، لمس النسيم! لقد تجنّب في كياسة تشبه الحياء أن يتعجل أي التصاق بين جسمينا! لكأني به ذلك الذواقة، الذي يريد أن يستمرىء الكأس على مهل، وقال بابتسامة وديعة:
- "أرجوك أن تعتبري البيت بيتك".
وجعل ذراعه حول خصري، واتخذ رأسي من كتفه شبه وسادة... فقادني الى حجرة نومه وتلقى جسمينا "ديوان" وثير!
وقال لي في همسة عذبة:
- "يا حبوبتي!".
وطوّقني والتقت شفاهنا، وتنفسنا والعين في العين، فخيل اليّ أني أشرب أنفاسه شربا، وأنها تهبط الى سويداء قلبي، فأدركت عندئذ أن جسدي كان جوعان حبا! وأن هذا الرجل يستطيع أن يصنع بي ما يشاء... وهنا شعرت بأصابعه اللبقة تفك أزرار ثوبي، وتجردني منه بغير لهفة ولا عجلة... ثم جعل يعجب بي وأنا هكذا... ثم أخذ يداعبني بيده وبفمه... إنها عين القبلة التي عرفتها في ما مضى... ولكنها كانت من قبل تطبع على جسد هامد... يتمنى في قرارته الخلاص، ويود لو يدفع عنه تلك المداعبات الثقيلة التي يتكلف احتمالها تكلفا... أما هذا الحبيب فلا شيء منه أكرهه قط، لقد خيل اليّ أني أريد بدوري لو أغطي جسده بقبلاتي... وأخيرا حملني، وأنا في شبه غيبوبة الى سريره المعطر، وتركني واختفى لحظة، ثم عاد متدثرا في روب دي شامبر خفيف من الحرير الساتان، لم يخلعه عنه وهو يطرح جسمه الى جانبي، وبدأ المداعبة والملاعبة من جديد!.. وجعل يهدهدني بكلمات الحب: يا حبيبتي... يا معبودتي ... يا حياتي... الخ.
لكن الحكيم، الذي يمكن اعتباره صاحب السبق في كتابة أطول نص جنسي حسيّ في تاريخ الرواية العربية، والذي ظنّ فيه الناس سوء الأدب، وظن هو في نفسه الجرأة والشجاعة والتحدي، قطع حبل الوصف، وأوقف السرد بعد تلك الكلمات حينما صار العاشقان "جسما واحدا... لا تفصل بيننا شعرة". (3)
إن اجتراء الكاتب على جعل شخصياته تتلاصق الى هذا الحد، يفوق مقدرة قوانين المجتمع الأخلاقية آنذاك على احتماله. لذلك خُصّ الحكيم بقدر كبير من اللوم بسبب هذا النص. ويتحدث هو نفسه عن ذلك قائلا: "كان المعروف حتى ذلك الوقت أني كاتب (مؤدب) تستطيع كل أسرة أن تضع كتبي بين أيدي بنيها وبناتها بكل ثقة واطمئنان. فلما طالعوا بعض فصول هذا الكتاب دب فيهم ما يشبه الذعر". (4) ومما لا شك فيه، أن ذلك القدر من التصوير الجنسي كان حدا عاليا من الجرأة، لم يكن في مقدور أي كاتب أن يفعله، إلا إذا كان من طراز توفيق الحكيم، الذي ظل يعتقد أنه لم يكن مفسدا بسبب جرأته المبكرة لبعض البنات والأبناء من العوائل المؤدبة فحسب، إنما يتحمل أيضا مسؤولية إفساد أبرز كتاب القصة العاطفية في تاريخ الأدب العربي، وأعني به إحسان عبد القدوس، الذي كان يرى بدوره أنه لا يخالف أستاذه الحكيم في الرأي: "كان يمكنني أن أتجنب كل هذه المتاعب لو رفعت بضعة سطور من كل قصة، ولكني رفضت، لأني لا أستطيع أن أشوه الحقيقة". (5)
لكن ما هي الحقيقة التي خشي عليها إحسان عبد القدوس؟ هل هي محتوى القصص أم بضعة سطور من السرد؟ عن هذا يجيبنا الحكيم: "لا حياء في الأدب والفن"، مفرّقاً بين الفن الصريح والفن المكشوف: "إن الصراحة قد تخجل أحيانا وقد تؤلم وقد تخدش الحياء، ولكنها توحي الينا بشعور جاد بأنها يجب أن تقال وأننا يجب أن نحتمل أن نستمع اليها". (6) توقفت جرأة الحكيم عند الحدود التي يصبح فيها الجسدان "جسما واحدا... لا تفصل بيننا شعرة". تلك العفة في الوصف الجنسي، بمقاييس زماننا، كانت أقصى جرعة من جرعات الشجاعة الجنسية، قامت على التصوير لا التقرير في عرض المشهد الجنسي، وأثرت تأثيرا عميقا في الأجيال اللاحقة لفرط مروقها، فكونت تيارا خاصا في مجرى الرواية العربية. ولم يكن تحول السرد، في خاتمة المشهد الجنسي، من التصوير الى التقرير "جسما واحدا... لا تفصل بيننا شعرة"، سوى محاولة حاذقة لإيقاف انزلاق المشهد الى ضفة الجنس الفاضح في مقاييس ذلك الزمان، والى عدم الإخلال بالتوازن الممكن بين المتعة الفنية والتحدي الأخلاقي. وحافظت الرواية العربية، خلال رحلتها المعقدة، على هذا التوازن في المشهد الجنسي، على الرغم من تنوع صور المعالجات الجنسية وتعددها وتفاوت درجات الجرأة والمروق فيها.

بيد أن بعض الروايات العربية المعاصرة أخذت تجنح نحو التفصيلات الصغيرة، المفرغة من البعد النفسي والجمالي والفني، مفسحة المجال لبروز ظاهرة جديدة في مجال الوصف الجنسي، أخذت تمد برأسها في الأدب العربي الجاد، ألا وهي ظاهرة الوصف الحسي (الإباحي) لعمليات الجماع. من الروايات ما بالغ في ذلك، حتى كادت بعض المشاهد القصصية تكون إثارة حسية أكثر من كونها متعة أدبية. ومثل هذا نجده عند هاني الراهب في روايته )خضراء كالبحار(، حيث نرى ولعا محسوسا بتصوير نهايات العمليات الجنسية. ولا يتوانى الراهب في هذه الرواية عن متابعة ما يعقب الممارسة الجنسية من عمليات إزالة الأوساخ الناتجة من المواقعة. فعملية اغتصاب "مهند" لـ "نورما البدر" تنتهي بالصورة الآتية: "تخلت أخيرا عن عنادها واستجابت لنعمى مضاجعته، فأولج قضيبه فيها". (7) وفي مواقعة أخرى نرى نورما في مشهد لا يخلو من الحسية المباشرة: "مدت يدها وأولجته فيها، أعادت يدها الى حيث كانت، أرختها على ظهره وأطلقت له حرية الفعل والحركة." (8) وفي موضع آخر يتابع الراهب حركة الممارسة الجنسية حتى لحظة الذروة: "حركة مده الأقصى تستمر ثانيتين كاملتين، قبل انجرارها الأخير وتدحرجها، وفي النهاية خروج مهند وخروج سائله". (9)
وبدلا من تصوير المشاعر الناتجة من الرفض والمقاومة يندفع النص في اتجاه الأعضاء الجنسية ليرصد ردود فعلها: فنورما تقاوم زوجها فرجيا، إضافة الى مقاومتها نفسيا: "وفوجىء بالمعمور (اللباس الداخلي). اقتلعه. تمددت تحت شفرة المقصلة لتنفيذ الحكم، اندفع اندفاعاته العادية المألوفة، لكن جسدها راح يصدها الواحدة تلو الأخرى ، تمترست المقاومة في فرجها واكتظت. كان مهند يضرب في رئتيها وليس في مهبلها".
عند مقارنة هذه النصوص بنص فتحي غانم المتعلق بليلة زواج ”زينب الأيوبي"، نرى أن البون بينهما شاسع. ففي الوقت الذي يلجأ غانم الى التذكّر ليعمق لحظة الحاضر القاسية ويكسب المقاومة السلبية بعدا مأسويا، يلجأ الراهب الى مقاومة جنسية حسية، تعنى بتفاصيل الأعضاء لا بمغزى عملها ونتائج فعلها نفسيا وفنيا. وقد يذهب النص، في التفاصيل الصغيرة، الى ما هو أبعد من هذا: "تجلس نورما. ترسم فخذيها زاويتين منفرجتين. تنش أربع ورقات كلينكس وتمسح بها السائل الذي نزل عائدا من داخلها الى السرير. تمسح الشرشف بأربع أوراق أخرى". (10) وهنا يظهر الكلينكس والسائل المنوي العائد من الداخل وعدد من أوراق إزالة آثار الفعل الجنسي الحسيّة.
مثل هذه الصور الجنسيّة ظهرت بإفراط أيضا عند القاص والروائي فؤاد التكرلي في روايته )المسرات والأوجاع(، الصادرة عام 1998. فقد تضخمت غدة الجنس في هذه الرواية، واندفع الكاتب وراء صور هي أقرب الى الاستعراض الجنسي (الخلاعة)، مصوّرا مواقع لا تخدم معرفيا وجماليا بناء الصورة الفنية، كضيق عضو المرأة: "ورغم ضيقها (!) النسبي (!) فقد اندفع منسابا فيها دون أن يريد ذلك". (11) أو مصوّراً عملية القذف وما يتبعها "فلامست عضوي بأصابعها ملامسة خفيفة مثيرة سرت فيه أثرها الحرارة، فانقلبت عليها ففتحت ساقيها على سعتهما. كانت مبللة كما يجب فاتحدنا ببعضنا ورحنا نتساعد على الإيلاج العميق" ، و"شعرت بها تفتح فخذيها على سعتهما وترفع وسطها". ، " فانحشرت بين أحضاني ورطعت رافعة رافعة ردفيها الى الأعلى في الوضع الأمثل للايلاج العميق" (12)
وربما يجد بعض القرّاء تبريرا لمثل هذه المشاهد، لأن موضوع القصة يتعلق بالإنجاب والعقم. بيد أن الواقع لم يكن كذلك، فبعض المشاهد لا صلة لها بموضوع الحمل والانجاب، وخصوصاً المشاهد المتعلقة بـ "توفيق" و"فتحية". فعمليات الإنزال الجنسي هنا لا تصف ولا تتعلق بعقدة نفسية ما سببها فن التعامل مع الجنس وسبل ممارسته بصورة فعّالة. انجذب التكرلي، حاله كحال الراهب، وهما في أواخر العمر، نحو مواطن لا يسوّغها الأدب الراقي، لا لنبوها الأخلاقي فحسب، وإنما لانتفاء وظيفتها الفنية أيضا. فقد اندفع التكرلي في رصد نهايات العمليات الجنسية بطريقة خالية من الحذر: "وأحست هي بالسائل الدافىء يطفىء شوق أحشائها ويهزها هزا لذيذا لا مثيل له" (13) و"كانت مغمضة العينين ففتحتهما حالما غطى بطنها دفء ما قذفه عليه". وبعد مشهد جنسي طويل يُختتم النص بالآتي: "وانساح منه بعدها ذلك السائل العجيب بدفقات غزيرة"، (14) و"هكذا أكملت رحلتي متمسكا بلذتي حتى النهاية وقذفت فيها." (15)
وتصل ذروة الوصف حدا مثيرا في مشهد جنسي يستغرق صفحة كاملة بين "توفيق" و"فتحية": "فشعر بعد فترة بذروته تقبل من أعماق سحيقة في جسده وترتفع، ترتفع، حتى تصل نقطة الانفجار الذي لم يعهده من قبل، وتنبثق الروح مع مائه الذي يفيض منه ويفيض ويفيض بغزارة". (16) وفي هذا الموضع أميل الى الظنّ أن مثل هذا الفيض الغزير لا يغني المضمون الأدبي، وإنما يتوجه نحو الأحاسيس الجنسيّة المباشرة.
ظاهرة المغالاة في التصوير الإباحي، ونبو المشاهد، وخلو بعضها من الضرورة الفنية، دفعت بعض متتبعي الأدب الى القول إن التكرلي أخذ جزءا من قصته، وربما بعض أجوائها، الجنسية خصوصاً، من الأدب الروسي وعلى وجه التحديد )سانين(، رواية الكاتب الروسي ميخائيل أرشباشيف ( 1878- 1927، ممثل الاتجاه الطبيعي، روسي الأب وبولوني الأم، حصل على الجنسية البولونية عام 1923). وقد ورد ذكر هذا النص في رواية (المسرات والأوجاع) كجزء من قراءات "توفيق"، شخصية الرواية الرئيسة. ومن المرجح أن يكون هذا النص ترك أثرا مزدوجا على الكاتب وعلى شخصيته الروائية في الوقت عينه. وكان إعجاب بطل )المسرات والأوجاع( برواية (سانين) قد دفعه الى قراءتها ثلاث مرات، وجعله لا يخفي مشاعر الحسد التي قابل بها شخصية سانين : " حسدت سانين ، كما هي عادتي كل مرة، حسدته لإدراكه ويقينه وسيطرته على ذاته وجرأته وصفاته الأخرى التي جعلت منه إنسانا عاديا وأسطوريا في الوقت نفسه" (ص 173). وعلى الرغم من أن تقويم بطل التكرلي لـ "سانين" كشخصية و)سانين( كرواية كان مفرّغا تماما من المشاعر الجنسية، إلا أن الحقيقة خلاف ذلك، كان الميل الجنسي- الجنس كلذّة طبيعية- هو الأثر الأبرز الذي تركته هذه الرواية على المؤلف وشخصيته الروائية. وقد أقر التكرلي في وقت لاحق بهذا التأثير في مقابلة له مع صحيفة الرياض في 21 يوليو 2005 - العدد 13541 :" اطلعت عليها في الستينات بالصدفة وهي تدعو إلى التمرد على سيئات المجتمع، تأثرت بها كثيرا لأنها لامست ما اشعر به، فأنا أيضا كنت ضد تقاليد المجتمع السيئة وجسدت ذلك في كتاباتي." وهذا التوضيح المتأخر يذكرنا بالاعتراف الشجاع الذي أدلى به ابراهيم عبد القادر المازني، الذي اعترف لصحيفة الرسالة عام 1937 بأنه طعّم روايته "ابراهيم الكاتب" بخمس صفحات من رواية كان قد ترجمها وأهملها عنوانها "ابن الطبيعة". بيد أن المفارقة الفنية اللافتة هنا لا تكمن في التأثير والتأثر، وإنما تكمن في أن الرواية التي أعجب بها المازني واقتبس بضع صفحات منها كانت هي رواية "سانين" ذاتها لميخائيل ارشباشيف. ومن المفيد هنا أن نشير الى أن شخصية "إبراهيم" في رواية المازني "ابراهيم الكاتب" أشد قربا الى شخصية "توفيق" من شخصية "سانين" الأصلية التي أبدعها ارشباشيف، وأجواء الرواية أكثر تشابها مع "ابراهيم الكاتب" من الأصل الروسي: العلاقات الجنسية، ميول الشخصية، الولع بالقراءة، الحمل غير الشرعي، المذكرات. وليس من العسير على دارس الأدب أن يعثر على صلة واضحة تربط بين ضعف وتشتت بناء رواية "المسرات والأوجاع" وبين الضغوط النفسية الداخلية والضغوط الخارجية التي تعرض لها التكرلي. وربما هي الأسباب ذاتها التي دفعته الى الإفراط في جرعة الجنس. فالتكرلي الذي حقق نجاحا كبيرا في روايته )الرجع البعيد( (1980)أخفق في الوصول الى نتائج معترف بها, جماهيرياً, في روايته الثانية )خاتم الرمل( (1995)،التي بدت للقارئ أقل بريقا وأكثر شحوباً وبعداً عن الواقع اليومي المألوف. التأثير العقلي المباشر أو غير المباشر كان له أثر واضح أيضا في بناء شخصية "توفيق"، وهذا العامل يؤكد أن زراعة جسم أجنبي في بيئة محليّة قد يتسبب في اضطراب بناء الشخصية القصصية وفي خلخة وحدة النص، وهذا ما ظهر على شخصية "توفيق" الذي انتهى من باحث عن اللذة, فردي النزعة, الى ملتزم أخلاقيا ومضح، حينما يوافق على قبول "فتحية" وجنينها الذي زرعه صديقه في رحمها، من دون وجود أسباب داخلية عميقة تقوده الى ذلك؛ وهذا موقف مغاير تماما لموقف "سانين"، الذي تنكر لـ "سينا" بعد إغوائها، في الوقت الذي سبق له أن ثأر من الرجل الذي أغوى أخته "ليدا"؛ أما العامل الخارجي، المتمثل في ضغط الواقع السياسي، فقد دفع الكاتب الى إحداث الاستطالة الفنية الخاصة بالحرب العراقيّة الإيرانيّة. فـ "سانين" العراقي لابد له، لكي يكون عراقيا خالصا, أن يعيش الحرب؛ ولكي يتميز عن "سانين" المصري: " ابراهيم" في رواية المازني "الدكتور ابراهيم" تضخمت عنده غدّة الجنس، فدفعت المؤلف الى ولوج مناطق لا يحبذها الأدب الراقي، لم يعاود التكرلي تكرارها بالنبو ذاته في روايته اللاحقة )اللاسؤال واللاجواب (2007) (. وعلى الرغم من ظهور عامل الجنس بصورة ملحوظة في كتابات التكرلي، بما في ذلك الجنس مع المحارم، إلا أن قصصه ظلت بمنأى عن الجنس الفاضح، فلم تقترب نصوصه السابقة من تلك المواقع من قبل في عمليه القصصيين الطويلين) بصقة في وجه الحياة) التي كتبت في 1947- 1949 ونشرت عام 2000) و( الوجه الآخر) التي كتبت في 1956- 1957 ونشرت عام 1960، وكذلك في قصصه القصيرة في (الوجه الآخر) (1960) وما أضافته اليها مجموعة(موعد النار) الصادرة عام 1991.

وما دمنا نتحدث عن الإيلاج الجنسي والقذف لا بد أن ننوه بأن هذه الظاهرة جذبت بعض النسوة من الكاتبات أيضا. فبعضهن انجررن الى الوصف الجنسي الحسي في هيئته التفصيلية، ربما كرد فعل على تهمة العجز أو الإتباع أو فقدان الحرية الشخصية، التي توصم بها الكاتبات. لذلك راح بعضهن يحاولن الوصول الى المناطق المحرمة كنوع من الجرأة الأخلاقية والفنية، كما يوضح هذا النص لعلوية صبح: "كان يشعر لحظة دخوله بي أن عضوه يخترق بئر ما بين فخذيّ. يهبط الى قاعه الذي لا قاع له، مع وصوله للرعشة". بيد أن الكاتبة سرعان ما تتنبه الى خطورة تلك النزوة الوصفية، فنراها تحاول تخليص المشهد من حسيته الجنسية، من طريق ترقية بعده العقلي وتحويله الى وصف تجريدي ذي امتدادات ذهنية: "ولكنه حين يزمّ ويرتخي بعد الوصول، يكتشف خوفه من الأسرار المجهولة في اختراق الفراغ والموت. وحين يعود ويطفو هامدا فوق مائه، يبتلع خوفه من أن يخرج من بئري ومني، وخوفه من أيضا ألا يخرج أبدا". (17) وعلى الرغم من الجرأة التي تمتع بها هذا الجزء من النص، إلا أن الكاتبة لم تتمكن من كسر حدة الفصل بين الذكورة والأنوثة تماما، فقد ظل القلق التحريمي قائما بين السطور. فعضو الذكر سمّته عضوا، بينما اضطرت الى استخدام الكناية للدلالة على عضو التأنيث، حيث جعلته بئرا. لكنها استجمعت جرأتها في مشهد تال واستدركت هذا النقص في التحدي فسمّت العضو الأنثوي عضوا أيضا، لكنها اكتفت أيضا بالتسمية العمومية ولم تسمّه باسمه الحقيقي. وكانت تلك حكمة فنية منها، ما كان لها أن تتخطاها، كي لا ينزلق نصها الى لعبة الحسيّات، التي تقرب السرد من الابتذال:
"قولي لي هيدا شو اسمه؟ وهو يشير بإصبعه الى عضوه.
ولا يكف، في كل مرة، حتى يسمع مني الجواب. يكرر الأسئلة كما يكررها الأستاذ لتلميذه حتى يسمع الجواب الصحيح. ولكنني لا أضحك وأنا أكرر له الأسماء، أسماء ما يشير اليه بإصبعه، الى عضوه والى عضوي". ( 18) ويلاحظ القارئ، هنا، كيف قامت الكاتبة بالانتقال من السرد من طريق التصوير الى التقرير، كي تمنح نصها المقدرة على إخفاء التفصيلات الجنسية الفاضحة، تحت إحساس داخلي منها بخطورة المواضع التي تعالجها، وربما إحساسا منها بانتفاء الحاجة اليها كتفصيلات حسية مباشرة. وإذا كانت علوية صبح نجحت في نصها السابق في ممارسة دورها الرقابي الداخلي الفني، فإنها تفقد هذا الدور حينما يخرج نصها من حدود الوصف الأدبي الى الجزئيات الحسيّة الجنسيّة. فقد لامست علوية صبح موضوع المني والقذف الجنسي بسفور حينما جعلت إحدى شخصياتها تصف ممارساتها الجنسية قائلة: "غالبا ما أضغط على رأسه بيديّ وأنا أحكي، أحكي ما يريد أن يسمعه وهو يشمشمني وأعود بدوري وأشم سائله المنوي على فخذه أو على باطن فخذي، وأمرغ وجهي فيه أحيانا". (19) من دون شك، لم تكن الكاتبة، في نصها الأخير، تتحدث عن لاعبة بهلوانية، تملك هذه المقدرة الفريدة على "شمشمة" السائل المنوي الموجود ليس على فخذها حسب، وإنما على "باطن فخذها". فمثل هذه المبالغات الفنية الجسدية - الالتواءة البهلوانية لشمشمة باطن الفخذ - ليست سوى سوء فعل كتابي، سببه الإفراط في جرعة التحدي الأخلاقي. لذلك أزعم أن بعض مشاهد الجنس، المبالغ فيها، لا تخدم محتوى النص، ولا تخدم تعميق صورة الشخصية في وعي القارئ، كما انها لا تساهم في تعميق الحالة النفسية والشعورية، لأنها ملمح نابع من خارج النص، من التطرف والمغالاة الفنية، التي قد تصب، من دون وعي، في حقل الإثارة المحضة، كما أنها تثلم صدقية النص، كناقل للحقائق النفسية والسلوكية.
إن تأثير المبالغة أو الحماسة الوصفية على واقعية النص، واقعية الفعل وما يلازمه من أحاسيس وانفعالات، نجدها عند غير كاتب وكاتبة. ففي نص هيفاء زنكنة السابق نجد أثر الحماسة والإنفعال الشخصي بموضوع النص واضحا في قولها: "دخلها بقوة جعلتها تصرخ ألماً فزاد من احتلاله العنيف لداخلها، ملتذا بحرارة الدم السائل بين ساقيها ودفء رحمها". (20) فالتلذذ بـ"دفء رحمها" هنا لا يقل زيفا عن "تشمم باطن الفخذ" عند علوية صبح، فات على النسوة من الكاتبات الإمساك به، على الرغم من أن تلك المواضع كانت شؤونا نسوية بحتة. وفي الواقع، إن المسألة تتعلق بالصدق الفني، وبوضوح أكبر بالمسؤولية الفنية، أي بالحسابات التي يقيمها الكاتب مع مفردات نصه وحالات شخصياته. ومثل هذا نجده واضحا وجليا في مبالغات فؤاد التكرلي الجنسية، التي دفعته الى رسم تفاصيل زائدة فنيا، ناهيك بكونها باطلة عاطفيا وحسيا، لو أننا نظرنا الى المشهد الجنسي في اعتباره فعلا قابلا للتقويم: "وأحست هي بالسائل الدافىء يطفىء شوق أحشائها ويهزها هزا لذيذا لا مثيل له". (21) فالتكرلي، هنا، لا يتوقف عند حدود القذف، بل يواصل فيصف درجة حرارة السائل، ثم يتابع تأثير هذا السائل "الدافئ" على أحاسيس الشخصية. وتلك صورة زائفة من الناحية الفنية، لا تقل فسادا عن الإيلاج حتى الرحم أو "تشمم باطن الفخذين". فالتلذذ الجنسي عند المرأة يقوم على الممارسة الجنسية كاتصال ومشاركة، لا على عملية القذف، التي يقوم بها الرجل. مثل هذه البديهيات الجنسية تشير الى شأن واحد هو أن المبالغة في الوصف، والمغالاة في رسم التفاصيل غير الضرورية فنيا، ترغم الكاتب على فقدان التوازن الوصفي كعملية فنية.

التوازن في الوصف والتصوير، لدى الكاتب والفنان، عملية فنية وليست أخلاقية في الدرجة الأولى. ففي رواية (طواحين بيروت) لتوفيق يوسف عواد، يقوم رمزي رعد بمواقعة "تميمة"، ويستغرق مشهد الوصف من بدئه حتى منتهاه حوالى خمس صفحات. وفي مشهد آخر يصور الكاتب مواقعة جنسية ثانية بينهما، ولا يتحرج في عرض صور يتخللها وصف لعري الجسد، لا تخلو من التفاصيل الدقيقة: "خصلة منه ملتاعة تحجب عينا، والعين الأخرى فارغة إلا من الجسد العاري بنهديه النابحين. بالصرة الخافقة زورقا يتهادى على الموج. صلا ينطوي في كثيب. بالردفين المكورين. بالساقين الملساوين البارقتين. بالغابة الصغيرة الكثة حيث يرود الشرف وحشا مفترسا وتنام الفضيلة في مغاور السباع". (22) أما المواقعة الأولى، أو الاغتصاب، التي تمت في لحظة اضطراب من حياة الفتاة الجنوبية "تميمة نصّور"، فاختتمت بالمشهد الآتي: "وإذا أصابعه تتلمس تحت القميص مظانها، يتوقف هنا، ويقفز من هنا الى هناك فهناك، وإذا هو ينحدر، يمرغ في ربوة أنوثتها وجهه، يوسعها لثما وشما ونفخا، في نشوة سرت منها أعضاء المرأة وتوزعت في دمائها دفعات من حمى، فأحست أنها محمولة على عربة عجيبة تمخر في بحر، ولها خيل من أمواجه الهائجة الهادرة...". هكذا يمضي توفيق يوسف عواد متصاعدا، جامعا بين الوصف الخارجي وإطلاق طاقات الخيال: "وترتعد فرائصها بردا. تعرف من أين هي آتية هذه الموجة الرهيبة. من بحار الجليد. من المهدية (قريتها)!". (23) حاله كحال فتحي غانم، يسعى توفيق يوسف عواد الى استدعاء صور مرّة من تجربة "تميمة" الحياتية المتواضعة، لتعميق لحظة المعاناة، وإن بدت هذه الصور متكلفة بعض الشيء، مقارنة بصور فتحي غانم. كما لم تنس" تميمة" أن تنظر الى السقف، كما فعلت ”زينب”، مفتشة عن علاقة حسية للمقارنة، مأخوذة من الحاضر، حتى لو كانت في هيئة حشرات تدور في سقف الغرفة!
إن تسلسل الوصف والتصوير السابق يوحي بأن توفيق يوسف عواد مقدم، لا محالة، على لحظة مواقعة حسية مكشوفة، لكنه لا يفعل ذلك، بل نراه على العكس، يصعد الطاقة الروحية للنص، منفلتا من أسر الحدود الحسية، التفصيلية للجسد، مرغما تميمة على الصراخ بملء فمها: لا، لا، لا، لا، على الرغم من أنها، في حقيقة أمرها، كانت تحمل بلل ”زينب الأيوبي" ورخاوتها واستسلامها.

ولذلك السبب كررت "تميمة" المحاولة الجنسية مرة أخرى، ولكن من غير أن تنهي المواقعة هذه المرة بـ"لا" طويلة، مدوية، وإنما بخدر المستسلمة. وهنا نرى أن توفيق يوسف عواد هيأ لنفسه فخا أدبيا محكما، لكنه لم يقع فيه، لأنه كان على وعي تام بقضية المعادل الفني، الذي يرسم الحدود بين الوظيفة الجمالية والغاية الأخلاقية، بين التعبير الفني والإثارة. وذلك هو عنصر التوازن السحري في النص الأدبي، الذي يلعبه الرقيب الفني الموجود في أعماق الكاتب، والذي اسمه القيمة الجمالية.
لكن، ما الحدود بين الجمالي وغير الجمالي في المشهد الجنسي؟


.

الفنان محمود سعيد
صورة مفقودة
 
أعلى