رعد خالد تغوج - اللهيب المزدوج .. الأيروسية مقابل الأدب

"نحنُ خِرافٌ ضِعافٌ في مملكة الرب" ... هذا ما قاله الراهب هيبا عندما أرتعش شبقاً من هيباتيا (منكوحته) الغنوصية أو الهرمسية، ولم يكن "الوطئء" وقتها بمعزل عن "الموطىء إليه" لأن "الذي جمعه الرب لا يفرقه البشر" كما تقول البشارة الأنجيلية التي وُظفت في الزواج الكاثوليكي لتصبح قسماً بين روحين!

لقد أتخذ المجاز منذ نشأته صيغة "النجس" و"الدنس" ، لهذا كانت نهايته وخيمة لا يحدسها إلا من ركع بين فخذيه، لهذا قال الشيخ الأكبر محي الدين أبن عربي للمُصلين من حوله :إن ربكم في ملائتي وإن معبودكم تحن قدميَ هاتين!!

وما حصل للشيرازي ذات يوم، الذي وصل الكشف والمشاهدة عنده أعلى درجات الإشراق والنورانية، يفتح المجال جيداً للبحث عن العلاقة المجازية بين الله والخمر أولاً ، والعلاقة بين الكبت الجنسي والتوتر الأقصى للمجاز من ناحية أخرى.

هذه العلاقة الأنطيولوجية التي جعلت شعر الشيرازي أعذبُ من الراح وأصفى من الماء الزلال ، حيث قال:
أشعل بنور الخمر كأس فؤادي = وقفت بكَ الدنيا على أعتابي
كأسٌ رأيتُ بها الحبيبَ = فهل أتى نبأٌ يُحرم خمرة الأحبابِ؟

الشطر الأخير من البيت الثاني جعلت الفقهاء يُكفرون الشيرازي ويرمونه بالمروق والزندقة.


*****

في قصيدة "البردة" لكعب بن زهير التي ألقاها بين يدي الرسول، يستهل الشاعر قصيدته بالبيت الأتي:
بانت سعادُ فقلبي اليوم متبولُ = مُتيمٌ إثرها لم يُفد مكبولُ

هذا البيت يوحي بأن الشاعر مشغوفٌ بسعاد حتى جعل قلبه أسيراً لها معلقاً بها شغوفاً بأثرها، لكن السبب الرئيسي الذي جعل أبن زهير يقول هذه القصيدة هو أنه كان على قائمة المطلوبين قتلهم بأمر الرسول نفسه، فقد كان "ماجناً" و"كافراً" كما تخبرنا كتب الأدب، فوصلته رسالة بأن النبي سيقتله، فأسرع متجهاً صوب النبي ليعلن إسلامه، فهل المقام مقام عشق وغرام وذكر المحبوبة والبكاء على الطلل؟ أم هو مقام الإعتذار والتوبة وإعلان الإسلام؟

يقول زهير أن سعاد بانت ( بعدت) ، والحقيقة أن سعاد هنا هي الجاهلية، أو حياته قبل الإسلام، فقد بانت تلك الحياة وهو الأن متخلٍ عنها قهراً وقسراً وليس طواعية، لأن إسمه ورد على القائمة السوداء أو "إرشيف السوء" حسب تعبير جاك دريدا، وليس هذا فقط ، بل أن القصيدة تسير بإطراد تصاعدي وبتخلي تدريجي عن سعاد "الجاهلية" نهائياً..

فهو يقول في البيت الثالث مادحاً سعاد أمام النبي :

هَـيْـفاءُ مُـقْبِلَةً عَـجْزاءُ مُـدْبِرَةً = لا يُـشْتَكى قِـصَرٌ مِـنها ولا طُولُ

لكنه يتخلى قليلاً عن سعاد في البيتين السابع والثامن فيقول:
لـكِنَّها خُـلَّةٌ قَـدْ سِـيطَ مِنْ دَمِها = فَـجْـعٌ ووَلَـعٌ وإِخْـلافٌ وتَـبْديلُ
فـما تَـدومُ عَـلَى حـالٍ تكونُ بِها = كَـما تَـلَوَّنُ فـي أثْـوابِها الـغُولُ

ثم يبدو عليه التحسر لأنه ترك لهو الجاهلية ومجونها، وإنتقل من تلك الحياة الرغيدة إلى الإسلام، فيقول في البيت الرابع عشر:
أمْـسَتْ سُـعادُ بِـأرْضٍ لايُـبَلِّغُها = إلاَّ الـعِتاقُ الـنَّجيباتُ الـمَراسِيلُ

هنا يعلن أنه من الصعب الرجوع إلى سعاد ، أو الحياة الجاهلية ...

وأخيراً يأتي البيت الذي يمثل قمة التوتر النفسي عند الشاعر، ويُمثل إرتعاشته الجسدية لأنه ترك حياة الجاهلية ودخل الإسلام مكرهاً، فيقول:
يـسْعَى الـوُشاةُ بجنبيها وقَـوْلُهُمُ = إنَّـك يـا أبْـنَ أبـي سُلْمَى لَمَقْتولُ

ما الذي جعل الشاعر "يُجنس" القصيدة في مطلعها ، ويُسقط سعاد (العشيقة) على الجاهلية(الحياة القديمة)؟ ثم يُعاود مرة أخرى التخلي النهائي عن سعاد في بيت لا جنسية فيه ولا حس أنثوي، وهو البيت الأخير؟؟

*****
في قصيدة أبو فراس الحمداني "أراك عصي الدمع" يستهل الشاعر قصيدته بالبيت التالي:
أراك عصي الدمعِ شيمتك الصبرُ = أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمرُ

المطلع يشي – كما في قصيدة سعاد- بالعشق والغرام، لكن الواقع يقول أن أبا فراس الحمداني، وبعدما حبس وإلقي في غياهب السجن، وشمت منه الشامتون وأولهم المتنبي، خاطب سيف الدولة بهذه القصيدة، وما يهمنا في هذا المقام هو بيت واحد يُمثل قمة التوتر النفسي عند الشاعر، وفيه أستخدم أبا فراس خطاب "التجنيس"، وهذا البيت هو :
وفيتُ وفي بعضِ الوفاءِ مذلةُ = لأنسةٍ في الحي شيمتها الغدرُ

الخطاب هنا متجه صوب سيف الدولة، والوفاء هو لسيف الدولة، والأنسة هي سيف الدولة، والذي غدر هو سيف الدولة لأنه لم ينقذه من السجن، ولم يلجم شامتيه ويخرسهم إلى الأبد.

نستخلص أن أعلى درجة من درجات المجاز مرتبطة بالجنس، أو بالهتك والتدنيس، ف"سعاد" رمز الجاهلية عند كعب بن زهير، والأنسة رمز سيف الدولة عند الحمداني، وهذا التأنيث لللغة يقابله كبت جنسي مرتبط بهيمنة ذكورية.

***

في فيلم "قاهر الظلام" الذي مثل فيه محمود ياسين دور طه حسين، يركز الفيلم على حياة طه حسين العاطفية، وما لفت انتباهي هو دور زوجة طه حسين الفرنسية.

تعرف طه حسين على سوزان بيريس في مدينة منوبلييه الفرنسية، حين كان يدرس هنالك التاريخ اليوناني والقانون الروماني القديم، وكما يقول طه حسين في مذكراته "الأيام" فان سوزان عوضته عن حاسة البصر، لأنه كان يرى من خلالها الوجود كله، وتقول سوزان في كتابها عن حياة طه حسين الصادر عن دار المعارف في مصر عام 1987م ، تحت عنوان "معك" ، وبغض النظر عن العنوان الذي يشكل نص موازي كما يقول جاك دريدا، والذي يقول أكثر ما يقوله المتن نفسه، فأن الكتاب مليء بالشحنات الذكورية، فهل قام طه حسين بتمصير فرنسا المتمثلة بشخصية سوزان الكاثوليكية، بحيث أصبحت اللغة "مجنسة" أم أننا وقعنا تحت رحمة المترجم الذي قام بترجمة النص الفرنسي"معك" ليس إلى لغته العربية فقط، لكن إلى أيديولوجيته أيضاً ، بحيث وقع هو ووقعنا نحن في مركزية اللغة المترجمة كما يقول أنطوان برمان؟

يقول طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" : أتمنى أن أرى منظر عاشقين يتعانقان على ضفاف النيل...

هذه الجملة جلبت ويلات وتكفيرات لطه حسين بحيث أصبح معها متبنياً رسمياً للتغريب كما وصفه مصطفى صادق الرافعي في كتابه" تحت راية القرأن" ، لكن هل نستطيع ربط هذه الجملة بأبن عربي والشيرازي وبل وتاريخ "سعاد" الذي تغير أسمها إلى "ليلى " أو "لبنى" أو "بثينة" ووصولاً إلى "جميلة بوحيرد" و أخيراً إلى "خبز أمي" في المثال الساطع على العقدة الأوديبية في الثقافة المعاصرة؟؟

كتابات طه حسين مليئة بالحس الأنثوي والخطاب الجنسي ، فالذي قصده طه حسين في قولته تلك، هو الفكرة المجردة لحاسة النظر، والمهم عنده هو النظر وليس صورة العاشقين، فلقد كان بأمكانه أستبدال هذه الصورة بصورة طباخين أو صورة قطط وحيوانات تلهو، لكنه فضل التجنيس، وهذا كما يقول لوسيان غولدمان، هو أعلى درجة من درجات المجاز، حينما ترتبط الشعرية بالجنس.

***

حين ألف فرويد كتابه "الحياة الجنسية" كان لهذا الكتاب وقع الفضيحة على أقاربه وأصدقاءه، وخصوصاً ما كان متعلقاً به من ناحية الجنس عند الأطفال، أو عقدة أوديب وقتل الأب والتعلق – جنسياً – بالأم، وما دام الباب الجنسي قد فتح على مصرعيه في الغرب، فأن التلقي الشرقي لهذا الموضوع سيكون أضغاف مضاغفة، طبقاً للحكمة الخلدونية التي تتحدث عن تماهي المغلوب مع الغالب، أو ما قاله مصطفى حجازي وهشام شرابي عن سيكولوجيا الفشل والتخلف، وتجليات الحطاب الجنسي تظهر في السينما والأدب أكثر منها في الفكر والفلسفة، لأن الفلسفة بخطابها المنطقي تُخفي الجنس وتطمره بل وتشوه جميع الأثار الدالة عليه ، كما فعل اليهود بالتاريخ العبري، وكما يقول لينين " إن المفكرين هم أقرب الناس إلى الخيانة لأنهم الأقدر على تبريرها".

في السينما ظهر فيلم beautiful mind من بطول راسل كرو، الذي يتحدث عن سيرة حياة العالم الفيزيائي جون ناش وإصابته بالفصام، وسرعان ما ظهرت نسخة عربية "جنسية" مطورة لهذا الفيلم، وهو فيلم " أسف على الإزعاج" من بطولة أحمد حلمي ومنى شلبي، فأي تعبير أو فكر أو فكرة تظهر في الغرب، يتم تبيئتها داخل الثقافة العربية وربطها مباشرة بالجنس.

المثال الثاني هو رواية "البعث" للأديب الروسي ليو تولستوي، التي تقع في ستمائة صفحة تقريباً، والتي تتحدث – كسائر الأدب الروسي، عن الصراع الطبقي ، وبقايا الإقطاع في روسيا والكفاح الأيديولوجي، والبرجوازيا ودور البوليتاريا في القضاء عليها، وسرعان ما تم تبني هذا الفيلم جنسياً في الثقافة العربية، ليصبح فيلماً إباحياً عن إمراءة عاهرة ورجل شرطة، وذلك في فيلم "أشياء ضد القانون" الذي مثل فيه محمود ياسين دور البطولة، ومديحة كامل، دمية الشاشة المصرية عضرئذٍ دور العاهرة!!!


.
Carota, par Joan Miro

joan-miro-carota.jpg
 
أعلى