حسين عبد الخضر - الكتابة الايروسية بين الفعل الثقافي والتبشير الايديلوجي

لم يكن من الاعتباط إطلاق لفظ أدب على الكتابة الفنية، فهذه المفردة تستبطن معنى يبين الدور الوظيفي للكتابة الفنية بوصفها نشاطا اجتماعيا، إلا أن الالتزام بمعنى مفردة أدب (الذي يَتَأَدَّبُ به الأَديبُ من الناس؛
سُمِّيَ أَدَباً لأَنه يَأْدِبُ الناسَ إِلى الـمَحامِد، ويَنْهاهم عن المقَابِح) سيولد لدينا إشكالا تصنيفيا عند التعامل مع أنواع من الكتابة الفنية لا تلتزم بالدلالة الأخلاقية للمفردة، مع محافظتها على الخصائص الفنية والجمالية، لتشترك في هذه الخصائص مع الأجناس الأدبية الأخرى، ولتنطوي بالتالي تحت عنوان الأدب بمعناه المختزل في الكتابة عن الذات والآخر بغض النظر عما يفرضه العرف الاجتماعي من التزامات أخلاقية وجد الكاتب نفسه، لسبب ما، مضطرا لتجاوزها، معلنا عن رفضه أو تحديه للدور الوظيفي الذي تشير إليه المفردة في الفهم العام .

وتبرز الإشكالية، الوظيفية والتصنيفية، بشكل ملح في الكتابة الايروسية بشكل عام، كونها تتقاطع في أدواتها مع معنى مفردة أدب والدور الذي يجب أن يلعبه هذا النشاط الإنساني، كما تتنافى مع الأعراف الاجتماعية والمفاهيم الأخلاقية العليا باتخاذها من المحضور موضوعا لها . وإذا كنت لا أجد ترحيبا اجتماعيا للكتابة الايروسية (الذكورية) كونها عاملا من عوامل الانهيار الأخلاقي، فإن الأمر يصبح اشد خطورة مع الكتابة الايروسية (النسوية) نظرا لما تمثله المرأة في الفهم والطموح الاجتماعي من كونها حارسة للأخلاق كونها مربية للأجيال، مع أنها في الوقت نفسه، مصدر الغواية والسقوط في الخطيئة، مما يجعل لتعريتها جسدها وحديثها عن مكامن اللذة فيه، بل وتوصيفها للعملية الجنسية، أثرا اكبر في شيوع ثقافة اللذة والتحلل الجنسي الذي قد تكون الكتابة الايروسية واحدة من أدوات تحققه .

إلا أن وضع التحلل الجنسي هدفا للكتابة الايروسية قد يبدو تعميما يتجاهل المزايا الفردية لكل نص وكاتبة على حدة، مع افتراض أن الكاتبة تجهل اثر بوحها الجنسي أو حتى التلميح إلى الجنس في نفس القارئ، ومع افتراض قارئ من نوع خاص، قادر على تحييد غرائزه ومتابعة الفعل الجنسي في النص وفهم دلالته ضمن السياق العام . إذ تتباين النصوص الايروسية باختلاف المرجعيات الفكرية للكاتبات واختلاف أغراضهن من الكتابة والقدرة الإبداعية . ففي الوقت الذي نستطيع أن نحكم على نص ايروسي بأنه نص مبتذل تريد أن تعلن عاهرة أو مكبوتة عن وجودها عن طريق تفكيرها بـ (لفظ مكتوب) نجد أنفسنا مضطرين إلى التعامل بطريقة مختلفة مع نص آخر لكاتبة أخرى. تستطيع بعض الكاتبات ممن يمتلكن مرجعيات فكرية محددة (بغض النظر عن خطأ أو صواب هذه المرجعيات) توظيف الجسد الأنثوي والعملية الجنسية وتحميلها بإيحاءات تخرج بها عن وصف الابتذال لغرض الابتذال من خلال اقترانها بوحدات سردية أو مفردات تحملها بعدا آخر، وتجعلها في علاقة تضاد أو تقابل لتشكل بالتالي المعنى الكلي للنص، والذي قد يكون مقبولا في قيمته النهائية . لكن المشكلة تبقى قائمة هنا أيضا، حتى مع اخذ نزاهة مقاصد الكاتبة وقدرتها الإبداعية بعين الاعتبار، إذ يقف القارئ دائما في الطرف الآخر، ليكون لا حاكما على النص فقط، بل وسيلة للحكم أيضا بالاعتماد على المعاني التي تتولد لديه عند عملية القراءة التي تمثل تلاقي وعيه مع وعي النص، مع أن هذه المعاني قد لا تكون ضمن قصديات النص أو الكاتبة .

يمكننا إذن تصور أحكاما ربما كانت متعددة بتعدد القراء، أو يمكننا تخمينها بالنظر إلى البنى الثقافية القارة في الكيان الاجتماعي، ونظرة كل من الرجل والمرأة إلى بعضهما، لنستنتج بالتالي أن الرفض لا يطال هذه النصوص فقط، بل يتجاوزه إلى رفض إبداء الإعجاب بها، وربما يحكم عليها بالحضر لا لكونها مخالفة للأعراف الصحيحة والأخلاق العليا، وإنما لأنها ممارسة خاطئة .

وإذا كانت علاقة النص بالقارئ هي علاقة خبرة بالإضافة إلى المتعة، فما هي الخبرة التي يزودنا النص الايروسي بها؟ وما هو المألوف الذي يريد إبراز قيمته ولفت أنظارنا إليه؟ ما هي مجهولات الجسد الأنثوي أو خفايا العملية الجنسية التي يريد اطلاعنا عليها؟ ولا أظن أن خبرة الإنسانية بأمر توازي خبرتها بالجنس، لأن الجنس غريزة والإنسان قد ينسى إشباع فكره، لكنه لا يستطيع نسيان غرائزه، ومع ذلك فهو يخجل عن التصريح بها، كون الغرائز مرتبطة بالنشاطات الدنيا للحياة الإنسانية، فهي الخطوة الأولى التي ينطلق منها لممارسة نشاطاته الحياتية وليس الغاية . وقد يكون انعدام الخبرة في النص الايروسي مع افتقاده المعنى المتعارف لمفردة أدب، هو ما دعا البعض إلى تسميته بأدب اللا أدب .

دوافع الكتابة الايروسية
يمكننا الإلمام بدوافع الكتابة الايروسية النسوية ليس عن طريق مخاطرة التخمين الذي قد يقودنا إلى الوهم، وإنما بالاستماع إلى جملة من الأسباب التي تطرحها كاتبات هذا النوع من النصوص، والتي يمكن تصنيفها إلى دافعين أساسيين . يتمثل الأول برفع صوت المرأة بوجه التسلط الذكوري الذي كبح صوتها وحولها إلى مجرد أداة لمتعته، وبلادة هذا الرأي واضحة، فهو يحول الكتابة إلى فعل استمناء، ويدعو المرأة إلى التحرر من سلطة الذكر بتوزيع جسدها على اكبر عدد من الذكور المتسلطين .
أما الدافع الثاني فيتوغل عميقا باتجاه تهشيم البنى الثقافية والعقائدية السائدة، ويتفرع من ايديلوجيا شاملة ترى ضرورة تغيير النمط الحياتي بخلق مشاعة جنسية، وكاتبات من هذا النوع يتحركن صوب أهدافهن بوعي، وتمتلك أعمالهن رصانة فنية، ومواصفات جمالية، بحيث يمكننا وضع نصوصهن إلى جانب النصوص الدعائية المبشرة بنظام سياسي أو فكر عقيدي، فالاحتفاء بالجسد يترافق مع عملية محاولة زعزعة المفاهيم السائدة، وغالبا ما تكون هذه المفاهيم دينية . ومع أن كلمة تطور تتردد كثيرا في أحاديثهن إلا أنهن يستمددن شرعية وجود نصوصهن من نصوص ايروسية تعود إلى حضارات موغلة في القدم، مثل الحضارة السومرية . مما يفرض علينا أن نتساءل، في إطار الحوار الثقافي، عن خطأ أو صواب الموقف الايديلوجي الذي دفع إلى كتابة هذه النصوص، وما إذا كان علينا تقبله في ظل ثقافة الاستماع إلى الرأي الآخر الذي لا يحتم علينا قبوله ويسمح له ــ الآخر ــ بالإدلاء برأيه .

وليس من الخطأ الاعتقاد بأن الحصول على الشهرة يمكن أن يعتبر دافعا أساسيا لكاتبة النص الايروسي، فصدم الذائقة وإرباك الوعي، يعد وسيلة جيدة للفت الانتباه وإعلان الحضور .
ونلاحظ انه رغم اختلاف مستوى الوعي الذي يجعل مفردات مثل تمرد، اضطهاد، سلطة ذكورية، تتقافز ببلادة على السنة الصنف الأول من الكاتبات، إلا أن هذه المفردات تتكرر بوعي في أحاديث الصنف الثاني، ويلتقي كلاهما في محاولة خلق مشاعة جنسية تضمن للأولى تحررها من السلطة الذكورية القامعة لـ (حرية الجسد) وللثانية تغيير النمط الحياتي للمجتمع .

حسين عبد الخضر

..........................
* ملاحظة / لقد تعمدت وضع مفردة عاهرة في هذا المقال، فهذه المفردة تنطوي على التقييم الاجتماعي للمرأة المتحررة جنسيا، وأظن أنها يجب أن لا تثير حفيظة أحد، خاصة من أنصار التحرر الجنسي .


.
Obéron, Titania et Puck : La danse avec les fées,
par William Blake
william-blake-danse-avec-fees.jpg
 
أعلى