خليل صويلح - حين أسمع كلمة «إيروسيّة»...

رياح العفة تهبّ على الثقافة السورية
«أدب غرف النوم»! تحت هذا العنوان المثير، اجتمع عشرة روائيين ونقّاد سوريين في «ملحق الثورة الثقافي»، وبدا أنّ المشاركين في الملف اتفقوا ضمناً على فتح جبهة ضد الروائيين الجدد ممن تحتوي أعمالهم على مشاهد جنسية واعتبروها مجرد موضة عابرة لا تستحق الانتباه.
كأنّ المقصود من هذه الحملة تعميم «حزام عفّة» روائي، في مواجهة أي نص متمرّد على القيم الاجتماع“عالم المسرّات” في عمل محفور (Print) للفنان الياباني كيتاغاوا أوتامارو (1753ـــ 1806)ية الراسخة. أو كأن جزءاً من النخبة الثقافية السورية قرّر أن الوقت حان لـ«الحكم على الأدب الإيروتيكي بالإعدام» على حد تعبير روزا ياسين حسن في معرض ردّها على الحملة التي قادها الملحق. وأضافت الروائية السورية الشابة «يبدو أنّ كل جديد يصطدم به العربي السعيد بثباته، يسمّيه «موضة»، وذلك للتقليل من شأنه وقدرته على التغيير. هكذا اعتُبرت مدارس النقد النسوي موضةً، والكتابة عن المثلية موضةً. وأعتقد بأنّ الذي كان في قفص الاتهام هو الأدب بحد ذاته».
الروائي فواز حداد اعترف في ملفّ ملحق «الثورة» الأسبوعي: «أفضّل أن أضع الكتب الأدبية التي تتناول الجنس... في مكان متوارٍ في المكتبة». وتحدث الناقد نذير جعفر عن «فقاعة إعلاميّة»، معتبراً أنّ بعض الأعمال الروائية «تعكّز على الطابع الفضائحي... لاكتساب شهرته الزائفة». فيما اعتبر الروائي خيري الذهبي أنّ مقاربة الجسد في الرواية لوثة موقتة وسيسأم أصحابها قريباً. وربط صاحب «التحولات» بين هذه الموجة ومسلسل «كاساندرا» المكسيكي و«ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي وشعبان عبد الرحيم وميلان كونديرا... في خلطة عجائبية اعتبرها الوصفة السرّية للكتابات الجديدة. واتهم الكتّاب الجدد بعدم معرفتهم بالتراث العربي. ويطمئننا إلى أنّهم سيعودون إلى حظيرة الأدب عندما يهجرون رائحة الجسد إلى «عطر الجسد».
والغريب أنّ الانتقادات التي شغلت الساحة الثقافية في دمشق، منصبّة على «الرواية السورية الجديدة» بالدرجة الأولى... ثم تعرّج على الرواية العربية. لكن الساحة السورية تكاد تخلو من تلك النماذج تقريباً، عدا بعض الشذرات المبثوثة في هذا النص أو ذاك. ففي ظل رقابة صارمة، من العسير جداً أن يخرج نص روائي إلى النور بالمواصفات التي تناولها المشاركون في الملف... وبعضهم تحدّث عن نصوص «بورنو ـــ روائيّة» بتعبير معدّ الملف غازي حسين العلي. وهو روائي شاب سبق أن جرّب حظه في الكتابة الإيروتيكية ولم ينل نجاحاً يُذكر، فعاد إلى مقاعد العفّة الأدبية ليقود هذه الحملة المظفّرة.
أما الكاتبة الشابة لينا هويان الحسن، فتحدثت عن نصوص «تتشخلع روائياً»، وكان سبق لها أن قالت عن زميلاتها: «أنا أكتب أدباً. أما الأخريات فيكتبنّ قلة أدب»! وفي الموقع نفسه تقف أنيسة عبود التي اشتهرت بالكتابة عن النعنع البري ومشاتل الحبق والورد الجوري، ربما بحكم عملها مهندسةً زراعيةً، لتطلق صفة «قطيع» على الكتّاب الذين تناولوا تابو الجسد في أعمالهم، معتبرةً أنّ تلك النصوص تدخل في باب «الغواية والإثارة والتحريف وتسليع الجسد وتحويله مادةً إعلانيةً مسطّحة».
ضحية هذه الحملة في المقام الأول روائيات من الجيل الجديد، تتميز كتاباتهن بشيء من الجرأة في تناول المسكوت عنه. لكن الوسط الثقافي السوري المغلق يربط بين بطلة الرواية وكاتبتها، كما حصل مع هيفاء بيطار إثر صدور روايتها «إمرأة من طابقين». وهذا الالتباس بين التخييل الروائي والسيرة الذاتية أساء إلى تجارب كثيرة وضعت في دائرة ضيّقة من الاتهامات المجانية... وإذا بثرثرات المقاهي تنتقل إلى صفحات الجرائد و«الصالونات الأدبية». أيّهما الأخطر على الأدب: نصوص إيروسيّة أم حياة ثقافيّة تصنعها الشائعة؟
ولم يقف ملف «الثورة» عند الحدود السورية، بل تجاوزها إلى الأدب العربي ككل. فإذا بالناقد جهاد نعيسة يضع روايات علوية صبح في خانة الإباحية من دون أن يرفّ له جفن، مشيراً إليها بالأحرف الأولى من اسمها. ويكشف أحد النقّاد المجهولين أن هذه الموجة الجديدة ليست سوى نتيجة «إفلاس اليسار العربي، ما دفع هؤلاء الكتّاب إلى افتعال قضايا وهمية منها موضوع التحرّر الجنسي». فيما تنصح إحدى «المربّيات» الفاضلات بعدم إدخال الكتابة إلى غرفة النوم، والاكتفاء بإجلاسها في صالون الضيوف لتأمّل صور الأجداد المعلّقة على الجدران... أما من يفضح أسرار الغرف الخلفيّة، فيسهم «في الإجهاز على وتد يحمل خيمة القيم...»!
وبعد قراءة الملف، يعقّب الناقد نجيب نصير متهكّماً: «الخيمة لا تحتوي في الأصل على غرفة نوم... ثم أين هذه النصوص التي يسدّدون إليها أصابع الاتهام في الأصل؟». ويتساءل: «هل تركت المصفاة الأخلاقية التعبوية أدباً إيروتيكياً بالمعنى الحقيقي، في لغة تعتاش على المحرّمات؟ وماذا يتوخّى حرّاس الفضيلة حين يخلطون الأدب بالأخلاق، بل يمضون أبعد من ذلك، إذ يتّهمون الكتّاب أنفسهم بالشذوذ الجنسي» (المقصود: المثلية الجنسية). ويقول مستخلصاً: ««نقّاد الألفي ليرة» أصابتهم انتكاسة حداثية، فإذا بهم يغوصون في رمال التراث المتحركة، ويستلّون خنجر «الشرف الرفيع» المخبّأ تحت المخدة دفاعاً عن الأخلاق، فيستحيل الحوار النقدي اضطهاداً عنيفاً للحرية الشخصية في الكتابة».
وتلفت الروائية روزا ياسين حسن إلى نصوص التراث العربي التي تتجاوز كل ما يُكتب اليوم، بجرأتها ومقاربتها للمحرّمات... من «ألف ليلة وليلة» إلى النفزاوي والتيفاشي، ومن غادة السمان إلى سلوى النعيمي التي مُنعت طباعة روايتها «برهان العسل» في سوريا، فنشرها رياض الريس من بيروت. والرواية المذكورة التي رأى بعضهم أنّها «ألهمت» ملفّ «الثورة»، تتجاوز الموضة نحو تأصيل نص سردي طليق خارج الشبهات المعتادة.
وكانت رواية روزا حسن «أبنوس» تعرّضت للحذف والتشويه بعدما فازت بـ«جائزة حنا مينة للرواية»، بذريعة اختراقها محرّمات رقابية ودخولها منطقة «خدش الحياء العام». وما زاد الطين بلّة أنّ حنا مينة، تدخّل شخصياً في النقاش، إذ كتب هجوماً لاذعاً على الرواية، داعياً إلى الطهرانية والعفّة في الكتابة... متناسياً أنّه الأب الروحي لكتابة الجنس في الرواية السورية!
ملف «أدب غرف النوم» محاكمة علنيّة لكتابة تحاول الخروج من الأسوار الضيقة فإذا بها لا تصطدم بالرقابة الرسمية وحدها، بل بآراء المبدعين أنفسهم... وتلك هي المصيبة!


* خليل صويلح

.
Femme aux cheveux jaune,
par Pablo Picasso
pablo-picasso-femme-cheveux-jaune.jpg
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى