زهير غانم - ابن حزم الأندلسي في كتابه طوق الحمامة في الألفة والألاف..

1
لا شك أن النصوص التراثية العربية الإسلامية، غفيرة في شأن الحب والعشق والهوى. وأن أئمة مسلمين خاضوا غمار هذا الموضوع المحير في الطبيعة البشرية.

وكانوا جميعاً يلتزمون حدود النص القرآني، والسنة النبوية. سوى ما تخارج عن ذلك من أسباب العشق الإلهي. عند رابعة العدوية. والمتصوفة. من الحلاج وابن العربي. والبسطامي. والجنيد. والسهروردي، الذين شطحوا شطحات خارجة عن المعقول. واتبعوا تيار الروح باتجاه الله. ولأنهم خالفوا المألوف. واختطوا طرائق فردية في الوصول والحلول. وقعت الواقعة لأكثرهم، كمحنة الجنيد، ومحنة السهروردي. ومقتل محي الدين بن عربي. وغيرهم. إلا أن تفشي الحب أبان الحضارة العربية الإسلامية. في دمشق أولاً. وثم في بغداد ثانياً. وتوهجه على لسان الشعراء والمغنين والإماء. جعله حاضراً في الموسيقى العربية المشحونة بالحنين دائماً، إلى فردوس ضائع كما يقال. وإلى أنوثة مفقودة، وقد خرج الشعراء بشعر الحب إلى سياقات رائعة وحميمة. وموشومة في الروح العربي، كالغزل العذري. وحب ابن أبي ربيعة. ووضاح اليمن. وقيس وجميل. وعروة. والعرجي. وغيرهم الكثير من شعراء العربية سواء في الجاهلية أو الإسلام. عبر مقدماتهم الطللية. الوداعية. التي تنتهك الزمن، وتنزرع في المكان. وتستغرس في دخيلة الكائن الشاعر وكأن العرب لديهم نظرية كاملة متكاملة في الحب. خاصة الحب العذري. الذي تطور كثيراً في الأندلس. وأخذه شعراء التروبادور من العرب هناك وساروا به. وغزا الشعر الأوروبي فيما بعد، حيث لا أحد ينكر تأثر دانتي في كوميدياه، وغرامه ببياتريس بالشعر والتراث العربي. مثل رسالة الغفران للمعري، ورسالة الملائكة لمحي الدين بن العربي، وترجمان الأشواق أيضاً..‍!

وكان الشاعر أوفيد قد كتب من الهوى، مما قيض له من ثقافة عصره، التي هي الثقافة العربية الإسلامية. وتراث الحب العربي على وجه التحديد، وقد نفي بسبب هذا الكتاب، لا بسبب كتابه مسخ الكائنات. الأمر الذي كان يومذاك، أن ابن قيم الجوزي تلميذ ابن تيمية. كتب كتابه في ذم الهوى لكن بعد أن أبدع في تسريحه وتعليله.. حيث كتب التراث العربي حافلة بهذا الجانب من حياة العرب والمسلمين. ككتاب مصارع العشاق لمحمد السراج وكتاب تزيين الأسواق للأنطاكي. وفي العصر الحديث كبت صادق جلال العظيم، في الحب والحب العذري ويوسف اليوسف وكتب علي حرب الحب والغناء. وكان الدكتور الراحل شكري فيصل قد كتب كتابه الجامعي العظيم دراسة في الغزل العذري. كذلك كتب الطاهر لبيب عن الحب عند العرب. وترجمت وزارة الثقافة السورية. عشق وقصة تريستان وإيزولدوه لديني دي رجمون. والآن الشاعرات العربيات يطرقن هذا الموضوع بجرأة من سعاد الصباح. وغاده السمان. وهدى النعماني. ومها بيرقدار، وصباح الخراط زوين، وأشجان الهندي، ومرام المصري، وفوزية السندي، وغيرهن الكثيرات. دون أن نغفل على عظيم أهميته الشاعر الراحل الكبير نزار قباني. ثم محمود درويش. وحسب الشيخ جعفر، وأحمد الشهاوي. وشوقي بزيع وغيرهم.

ولأن جرير كان يوصي الشعراء البدء بالغزل حتى ينسرح الشعر لديهم، فإن الإمام الغزالي. كتب كتابه الشهير في الزواج الإسلامي. رداً على الصوفية وعشقهم الإلهي. غير أن الموسيقى العربية. كأن طورها شعر الحب. وتطور من خلالها ومن خلال الأغاني. وأدب الموشحات. وأدب المهجر أيضاً.

وها هو رجل ثقة مسلم. يبحث في أحوال الحب وأطواره. ويغوص ويتغور في أدق نأماته وهمساته. وكأنه يجلو سرائر المحبين من خلاله. حتى أنه يطبق على نفسه. ويستشهد بحوادث وقعت له في هذا الشان. ثم ولحاجة التأليف في هذا الموضوع الإنساني. الذي يعترف ضمناً بأنه أخذ حيثياته من الشعر العربي، لا يتوانى عن الإدلاء بشعره في هذه الشؤون والشجون التي يستثيرها الحب، في جسد الإنسان وروحه. وفي حضوره وغيابه، وفي زمانه ومكانه، وفي حياته وموته. رغم أنه يفصل ذلك في ثلاثين باباً. مع ملحقين في رثاء قرطبة، وقصة أستاذه في النحو مع أسلم حيث كان يعشقه. ومن غريب الكتاب عشق الفتيان الذي يسوق ابن حزم العديد من الأخبار فيه. مع ذلك. وكأن لا حياء في العلم. حيث يبدو وكأنه دفع إلى كتابة رسالة طوق الحمامة. أم أنه أوهمنا بأنه طلب إليه تصنيف رسالة في هذا الشأن، وهو لذلك اهتم. مع جليل مؤلفاته في الفقه. تخارج عليها وكتب رسالة في الحب. وليس في الزواج كما فعل الغزالي...

وكتاب طوق الحمامة لابن حزم. من تحقيق الدكتور الأديب الناقد والمترجم إحسان عباس، وهو من هو في الشأن الأدبي والثقافي. وكان طبع منذ سنوات في المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت. وهاهي دار المدى التي أطلقت كتبا في جريدة. تنشره في بيروت مع جريدة السفير، ومع عدة جرائد عربية. لذلك ستكون فائدة الكتاب قيمة. نظراً لتوزيع الأعداد الغفيرة منه مع أعداد الجرائد.

وقد قسم الكتاب إلى أبواب كما أسلفنا، بعد تعريفه بماهية الحب، وعلوقه في النفس الإنسانية. ثم باب علامات الحب. يليه من أحب في النوم، ومن أحب بالوصف. ومن أحب من نظرة واحدة. ومن أحب مع المطاولة. ثم من أحب صفة أو خلة بعينها. ثم دخول عميق في أطوار الحب وإشاراته كالتعريض بالمقول. والإشارة بالعين، والمراسلة. والسفير. وكتمان السر. وإذاعته والطاعة. والمخالفة. والعاذل. والمساعد من الإخوان، ثم السلب في الحب وتبدل أحوال وأطوار المحبين. بسبب الرقيب. والواشي. وقول في الوصل والهجر والوفاء والغدر، والبين والقنوع. والضنى والسلو، وباب الموت. ثم قبح المعصية. والتعفف.

هكذا يكون ابن حزم قد أحاط بموضوعة الحب أو خطابه الإنساني، إحاطة شبه كاملة، وكأن ما يقوله. لأنه نزوع إنساني مشترك. يعتبر طازجاً. غضاً، وغضيراً. حتى أنه يصلح لهذا الزمان حيث الحب علامة الإنسان، وهو يتمثل على ما يحلله ويوغل فيه بالقصص، والأقوال. كأن يقول من الآثار "من عشق فعف فمات مات شهيداً" وكأنه لا يدخل ذلك في أحاديث رسول الله (ص) وكأن ذلك حديث مختلفة عليه بالنسبة له. هو عالم وفقيه. وكأنه يحذر نسبة ذلك بسبب خوضه في شؤون أرضية، وجسدية. تمرض وتنصل. وتضعف وتميت.

وهو أكثر ما يدقق ويتمعن. ويتحاصف في مسألة الوصال والهجران. وكأن وصال الحبيب هو الحياة، وهو الحضور، وتحقق الكينونة الإنسانية. وكأن الغياب. واستعار الشوق يمرض الكائن. ويجعل روحه تأكل جسده وعقله وقلبه، وتودي به للموت. وكم في مصارع العشاق. الذي هو اسم على مسمى، من هذا القبيل. حيث لا ينفع العرافون ولا الأساة. ولا الأطباء. ولا التعاويذ ولا الرقى في شأن المحب العاشق المهجور الذي يصعد أنفاسه حسرات إلى السماء. ثم يروي عن الكثيرين منهم، حين يعودهم الأساة. "بأنه شهق شهقة ومات" و قد تحدث عروة بن حزام في قصيدته الشهيرة لعفراء عن العرافين والأساة، حيث قالوا أو قال على لسانهم "و الله مالنا بما ضمنت منك الضلوع يدان" وقبلها ...

جعلت لعراف اليمامة حكمة، = وعراف نجد إن هما شفياني.
فقالا نعم شفي من الداء كله = ولا ألوا نصحاً ولا عذلاني
فقمت مع العراف تسقط عمتي = عن الرأس ما التاثها ببنان

وفي جانب الوشاة. الذي فصّل فيه ابن حزم في بابه. قال عروة من القصيدة نفسها

ولو أن واش باليمامة أرضه = وأرضي بأعلى الرقمتين أتى ليا...

وطبعاً استشهد ابن حزم كثيراً على الوشاة. وتكون استشهاداته من شعره، ببيت أو بيتين أو ثلاثة. مع الوزن. وربما تجاوز عدد الأبيات إلى قصيدة بعدة أبيات. وكأنه يشعر أن النثر. لا يفي التحليل الداخلي الذي يسوقه في الحال التي يدل عليها. فيكثف ويخمر معانيها في الشعر، حتى تصل مضاعفة للقارئ حيث كأن ابن حزم في خطابه العشقي. يجري جردة مع روحه العاشقة. ويكون شعره في شواهده مليحاً. جميلاً. رقيق الألفاظ، عذب المعاني. بحيث مستند التعبير اللغوي لديه النص القرآني. والشعر العربي القديم. وكأنه يقدم ثقافة عربية إسلامية. بلسان عربي مبين. ونحن نعرف قيمة الثقافة الأندلسية العربية. من ابن رشد، وابن طفيل، وابن حزم، وابن باجه. وغيرهم الكثير. ابن خلدون، ابن عربي، وابن زيدون. ولسان الدين الخطيب. وكثرة كاثرة من الشعراء وشعراء الموشحات والأغاني، والحب، وزرياب أيضاً..!

وهو يستفظع أمر الموت في الحب. وكأنه يلوم الحبيب في ذلك، ولا يرى سبباً يوجبه الحب للموت. فالوصال أشكال وألوان. ويمكن الاكتفاء بواحد منها. الكلام. والمرسال. والنظر، والحضور في المكان. ومعرفة حب المحبوب للحبيب وغير ذلك. إلا أن موت المحب يكون بالهجر والغياب. والانقطاع المفاجئ للوصال. وهو في أكثر هذه الحالات. يوقع الموت من خلال القصص التي يسوقها، على الطرفين. على الرجال والنساء. وإن كان يذهب بالضعف ناحية النساء، إلا أن موت الرجال بالحب. أشد وقعاً. ودهشة وعجباً لديه. بسبب القوة التي للرجال على التحمل. كما يقول الشاعر أبو تمام..

خلقنا رجالاً للتجلد والأسى..= وتلك النسا للبكا والمآتم..

وكأن رسالة طوق الحمامة. رسالة ذكورية في الحب. حيث العتاب والملام للمحبوب (المحبوبة) كامرأة. هكذا تتغلغل بين السطور هذه النزعة الذكورية، حيث لا نرى رسالة من امرأة في الحب. في زمنه. عكس الشاعرات الحديثات، وما تتدارسه الدكتورة نوال السعداوى في تحليل أحوال المرأة واستلاباتها. والدفاع عن حقها في المساواة. والحياة والحرية..!

آخر طوق الحمامة فصلان طويلان. أو بابان. في قبح المعصية. وفيه يطيل، ويستطيل، ويتربع ويتدور ويمتد وينبسط في تبيان أهوال القيامة لمن يخطئ السبيل في الحب، أو في غيره، ويسوق عقوبة الزنا، حيث الرجم حتى الموت للمحصن، والرجم لغير المحصن، وهو يفصل في شرع الجلد مع الرجم، ويسوق عن الرسول (ص) وعن الخلفاء حوادث عن ذلك. وكأنه يقيم جردة مع نفسه، وحساباً يعي نتائجه. وأمثولات للآخرين، من أن معصية الله في حدوده. معروفة عاقبتها في الدنيا، والآخرة.

أما فصل التعفف، فكأنه فصل التوبة. وكما بدأ. من عشق فعف فمات، مات شهيداً، يفصل في أحوال التعفف، والكفاية على البعد. وكأنه في توبة. بعد سياق مديد من تفصيل جماليات الحب، وإيجابياته وسلبياته. وكأنه في مغامرة غير مضمونة التعبير، حيث يشتط في بعض المواضع إلى قصص مادية عن أفاعيل الجسد. ثم في النهاية يتدارك كل شيء. بقصيدة طويلة. يعلن فيها التوبة عما قال وعما فصل، وعما شرح وجرّح. ثم يذكر بثواب الله. وبوعد الجنة للمؤمنين الذين لا يرتكبون معصية الحب. وكأنه يغلف كتابه بالبراءة، وهو بريء وكأنه يتحدث موضوعياً وذاتياً عن الحب العذري. وعن جمال المحبوب وخصائصه، رغم الثقوب السوداء التي تشوب هذا الخطاب المهيب الجميل والجليل عن الحب الإنساني، وكأن الحب العربي قد أخرج كبار شعراء القرن الماضي. ومنهم أراغون في "مجنون إلزا" كما يعرف الكثيرون. ويعترفون لنزار قباني أيضاً بذلك..!



* زهير غانم
ابن حزم الأندلسي في كتابه طوق الحمامة في الألفة والألاف.. الحب العربي الإسلامي بقلم إمام حنبلي

.
صورة مفقودة
 
أعلى