خيري الذهبي - الجسد والأدب وما بينهما

منذ أكثر من عشر سنوات عرض في التلفزيون السوري مسلسل كان اسمه كاساندرا وكان هذا المسلسل ضعيفاً على كافة المستويات؛ التمثيلية، والإخراجية، وقبل كل شيء التأليفية، فقد كان مليودراما مفاجآت مضحكة أين منها أعمال المغفور له، مخرج الروائع حسن الإمام.

لكن المثير للدهشة والاهتمام كان نسبة المشاهدة الهائلة التي حظي بها هذا المسلسل متجاوزاً كل ما عرفته التلفزيونات حتى ذلك الحين، وكنت أعتقد أن هذه الظاهرة سورية فقط ولكني حين قمت ببعض الزيارات والمشاركات في العالم العربي فوجئت بأن هذا المسلسل قد حظي بنفس المشاهدية والإقبال وكنت قد التفت إلى هذا المسلسل حين كان سباك يعمل لدي في تغيير بعض الأنابيب المهترئة وحين آن أوان عرض المسلسل أصر على المضي إلى بيته، فأحضرت له الغداء، ولكن الغداء لم يكن ما يهمه إذ صرَّح لي بعد تلعثم قليل بأنه يجب أن يمضي إلى البيت لمشاهدة الحلقة الأخيرة من المسلسل، وأصبت بالدهشة وحاولت المزاح، ولكنه كان شديد الجدية، ولما كنت حريصاً على عدم خروجه من البيت تاركاً البلاط والرمل المتراكم في المطبخ وقبل إنهاء عمله، اقترحت زوجتي حمل التلفزيون إليه في المطبخ ليتفرج على حلقته، ثم يكمل عمله، وكان أن حملت إليه التلفزيون. و.. أكمل شغله في المطبخ بعد عرض الحلقة السعيد. بعد بضع سنوات تقدمت الكاتبة الشاعرة الجزائرية برواية سمتها ربما (ذاكرة الجسد) وكان أن حصلت على إقبال هائل، فقرأتها ولم تثر فيَّ شيئاً مما أثارته في الاتحاد النسائي السوري في ذلك الحين وفي تقاضي رسوم ممن سيحضر ندوات السيدة الجزائرية (اللهم ليس في هذا الكلام شيء من حسد!!!). فيما بعد أخذت أحلل الظاهرة وأحاول أن أقرأ تفسيراً لها، فما الذي شد السباك وعشرات الملايين من الشعب العربي إلى ترك كل شيء لمشاهدة مسلسل ضعيف كان اسمه كاساندرا، وما الذي جعل آلافاً من القراء غير القارئين يقرأون ويتباهون بحمل روايات هذه الكاتبة، الأمر الذي ذكرني بموضة حمل رواية الأم في الخمسينيات من قبل مراهقي تلك الفترة، فكأن حمل الرواية عمل نضالي في حد ذاته. وكأن حمل رواية الكاتبة الجزائرية إعلان تحد للأعراف المحافظة الجديدة التي غلبت على الجيل. ما بين ظاهرتي كاساندرا ونجاح المسلسل وهذه الرواية ونجاحها كان لا بد للمفكر من بحث عن سبب، وإلا فما الذي جعل الكثيرات من الكاتبات والكثيرين من الكتّاب يميلون فجأة إلى الحديث عن الجنس وعن الجسد، وعن الحواس، وعن الشهوات الليلية وعن التركيز على حقل لم يكن التركيز فيه مألوفاً إلا على استحياء ومواربة. ولكنا إن تذكرنا أن حرب (1973) وما نتج عنها من تغير في مراكز القرار في العالم العربي، فبعد مصر طلعت حرب الذي أدخل فن السينما إلى العالم العربي ومحاول مع طبقته نسخ التجربة البورجوازية الغربية، هذه المحاولة التي أنتجت أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش على المستوى الفني، وأنتجت طه حسين ومحمد مندور ولويس عوض ونجيب محفوظ على الجانب الأدبي. بعد هذه الطبقة جاءت طبقة من حاملي شهادة الثانوية بصعوبة لتستولي على الحكم وترفض تقليد البورجوازية الغربية في فتوحاتها الفنية والأدبية، وتعلن أنها مكتفية بنفسها، فكأن أن اختفى عبد الوهاب وطه حسين وجاء أحمد عدوية وشعبان عبد الرحيم وأمثالهما في الإبداع والأدب ونظراؤهما في العالم العربي. بعد حرب 1973 وتحول المركز الإشعاعي من دول الحضارة مصر وسورية إلى دول النفط،وانتقال الثروة – النفط إلى بلدان أخرى، هذه البلدان ما لبثت أن فرضت قيمها المتقشفة على كل شيء رقابياً وأدبياً، وتلفزيونياً وإبداعياً، وكنت قد شهدت بنفسي في العام 1975 الرقيب في إحدى تلك الدول وهو يمزق صفحات من سلسلة روايات الهلال لأنه في تلك الصفحات كلمات مثل قبَّلها، أو احتضنها، ثم لم تكتف الرقابات في تلك الدول بفرض رقابتها على بلادها، بل تمددت عبر تمويل الأعمال التلفزيونية الخاصة في مصر وسوريا لتجعل من ظهور كاحلي ممثلة عورة، ومن اختلاء شاب وأمه في لقطة واحدة ليس فيها محرم حراماً إلى آخره. هذا الجفاف والتجفيف الذي فرض على عيون وذائقة الشعب العربي والذي طال لما يقارب العقدين مع انعدام الفضائيات وانقطاع أفلام الأربعينيات ببذخها البصري عن المتفرج الحديث وأفلام الخمسينيات والستينيات بتحررهما البصري وطموحهما الفني وهكذا وجد متفرج أواخر السبعينيات والثمانينيات نفسه وهو يجول في بحر من التحفظ والمحافظة والتشدد و.. فجأة يتقدم مسلسل كاساندرا بممثلته المكسيكية نصف الجميلة مقرونة بممثلاتنا – في الأربعينيات وما بعد الفضائيات. ولكن الممثلة المكسيكية تلك لم تخضع لمقصات الرقيب النفطي، فعاشت عيون المتفرج العربي وهي تتأمل صوراً للمرأة غير التي فرضتها رقابات ما بعد ثورة النفط، فأصيب بالدوار، هذا المتفرج – الذي يمكن تسميته الآن بالقارئ وبعد غرقه في أدب الالتزام في الدول الثورية! وأدب المحافظة في الدول غير الثورية، هذا القارئ فوجئ بنص الكاتبة الجزائرية في طرحها للغة وعواطف كان قد حرمها، فطار عقله، وعقل – فيما بعد – بعض الكتّاب والكاتبات غير الواثقين من هدفهم من الكتابة، فانتشرت موضة الكتابة عن الجسد وأعضاء الجسد، ولغة الجسد، وليل الجسد، وصراخ الجسد، وأنين الجسد، والألعن أن المترجمين بدأوا بترجمة كونديرا، وكونديرا كاتب مثقف ثقافة تختزل الحضارة الغربية بيهوديتها ومسيحيتها وإغريقيتها ولاتينيتها ومعاصرتها وهو في رواياته يحاول اختصار الحضارة كلها في رواية، وحتى يمرر كل هذه الوجبة الدسمة من الفكر فهو يضيف إليها بعض البهارات من الحديث عن الجنس، والحديث عن الجنس في الحضارة الغربية المعاصرة غير مضمخ بالحرام ولا بالتابو. إنه حديث الحضارتين العباسية والأندلسية عن الجسد وعن الجنس دون تعظيم ولا تقزيم، بل هو جزء من الحياة و.. لا شيء آخر. ولكن للأسف الشديد قام قراؤنا – الكتّاب بالتنازل عن الثقافة والحضارة والفلسفة لدى كونديرا ولم يقرأوا إلا حديثه عن الجنس والجسد، وبدأت موضة لست أدري متى يسأم الكتّاب منها، ولكنهم سيسأمون. أنا أعرف ذلك وسيكتشفون أن الحديث عن الجسد مماثل للحديث عن الطعام والزهور وهذا ليس هدفاً في حد ذاته، بل وسيلة لهدف.. متى.. سيعيدون قراءة ابن حزم وألف ليلة وكونديرا ويهضمون كل هذا ليتجاوزوا كاساندرا ويعودون ثانية إلى حرم الأدب.. أرجو أن يتم هذا قريباً، فلقد سئمنا روائح الجسد ونريد عطر الجسد بعد إكسائه بثياب جمال الأدب.


.
francisco ribera gomez
560590_187580394692736_530800510_n.jpg
 
التعديل الأخير:
أعلى