داود الأنطاكي - تزيين الأسواق في أخبار العشاق

الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي اطلع في بروج اعتدال القدود شموس المحاسن والجمال وأهل في منازل السعود بدور اللطائف والكمال وزين أغصان القدود برمان النهود ورياض الوجوه بنرجس اللحاظ وورد الخدود وألف بين ما نظم في الثغور وقلائد النحور وجعل تسريح الأبصار لذوي البصائر ولطافة الأفكار من أسباب الافتتان بتأمل الحسان فنزلهم وإن اختلفت أغراضهم منزلة الأغراض لرشق قسي الحواجب بسهام الألحاظ نحمده على تعديل أمزجة فرعها صحة التأمل في حسن التجمل وتصفية نفس لازمها الاستبصار والتبصر في الفرق بين الجهل والتعقل ونصلي ونسلم على من بعث ينهي النفس عن الهوى والإرشاد إلى طريق العدل والاستوا والأمر باعلاء العقل على النفس وقهر شهوات الجسم وتقييد مدارك الحس فحث على تهذيب النفس الأبية عن الرذائل الدنيئة سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه المتخلقين بأكرم الأخلاق والأوصاف وأجمل اللطافة والعفاف ما نضرت الحدائق ونظرت الحدق وتأنق المفلق وتألق الفلق.
وبعد فلما دل تنويع أصل الإيجاد وتفريع عالم السكون والفساد مع قدرة الموجد على جعل ما أوجد من أصل واحد على سأم النفس من ملازمة الشيء الواحد في كل حال واستراحتها في اختلاف الأطوار بالنظر والانتقال وكان أعظم مطلوب منها تحصيل العلوم التي هي سبب السعادة الدينية وتشييد المباني الشرعية وجب إسعافها بالمفاكهات الأنيقة والأخبار اللطيفة الرشيقة لتنشط من عقال التعب وتستريح فتعود إلى المطلوب منها خفيفة من كل الوصب والنصب وذلك هو العلوم الأدبية كالتواريخ والأخبار ولطائف الحكايات والأشعار ولما من الله تعالى علي بعد تحرير العلوم العقلية وتهذيب النفس بالدائق الحكمية بالهجرة إلى الديار المصرية فمثلت بها بين يدي الأماثل وخدمت من سما فيها من أرباب الفضائل من أيضاً سبحانه وتعالى كجاري عوائده السنية بتحصيل ما أمكن من العلوم الشرعية بيد أني رميت في خلال الاشتغال بما شوش الفكر وغير البال وهيج أليم البلبال
من هموم وحاجة واغتراب ... كدرت مني القوى النفيسه
فهي في كل ساعة في ازدياد ... غبت منه عن مدرك الحميه
فأنا وهي في التلازم صرنا ... كالهيولي والصورة الجنسيه
لا أجد من يفرج الكرب إذا شكوت إليه ولا من أعول إذا ضاق الأمر عليه كان الزمان كما قيل:
ففي المساوي يد التساوي ... فلا معين ولا معين
فغيرت ذلك إدراكي الثاقب فقصرت عن بلوغ المآرب فأعملت الحيلة فيما به أريح النفس وأنفي اللبس في الفكر بعد طول التعب إن امتطى غارب الأدب فارست من الأصحاب من هوله كالعناصر فمال إليه ذهني الفاتر فشرعت في جمع شيء في محاسنه المختلفة وضمها بحيث تكون في الجنس وإن اختلفت بالنوع مؤتلفة فكان أول ما سطرته وأحكمت قواعده وحررته طبقات ذكرت فيها أخبار الحكماء ولطائف الأطباء ثم لم أزل أجيل النظر في مجاميع مختلفة إلى أن وقع اختياري على اختصار الأشواق المأخوذ من مصارع العشاق المنسوب إلى أبي بكر محمد بن جعفر البغدادي السراج رحمه الله فإنه وإن كان قد جمع فيه بين جد القول وهزله وظرائف نكت العشق وأهله ورقيق اللفظ وجزله إذ هو صنيعة وحيد زمانه ورئيس أقرانه وواحد عصره ونادرة دهره مولانا أبي الحسن إبراهيم بن حسن بن عمر الرباط الشهير بالبقاعي تغمده الله برضوانه وأسكنه فسيح جنانه إلا أنه كتاب طال في غير طائل وجمع ما لا حاجة بهذه الصناعة إليه من المسائل كذكر الأسانيد والتكرار الذي هو شأن الأحاديث النبوية لتوثيق الأحكام الدينية كالإخلال بمحاسن الأخبار ولطائف الأشعار التي هي بهذا الفن أعلق من الجوى بأهل الهوى وعدم الترتيب المستلزم لاختلال التهذيب وكالاعراض عن ذكر غالب أسباب وقوع بعض العشاق في شرك الحب إلى غير ذلك مما يظهر لمتأمل كتابنا مع أصله إذا طرح الهوى وانتظم في سلك الانصاف وأهله فألفت هذا الكتاب الذي هو في قلادة هذا الفن درة بيضاء وفي جبهة جواده غرة غراء أكملت فيه فوائده ورددت شوارده وأضفت ما نبذه ظهريا ولم آت شيافريا فزاد على أصله بأمور إثني عشر أحدها وهو الأعظم تبديل ما في الباب العاشر الذي سماه بالشارع الجامع لما في المصارع بما هو خليق بهذا الاسم وجدير بهذا الرسم ضمنته ما حل مما تقدمه محل الأصول من الفروع كجعلك الغيرة أصلاً لنحو حكاية ديك الجن وكتم الأسرار لنحو صاحب الجارية في عرفة وتأمل الخيال لنحو من عشق في نومه إلى غير ذلك وجمعت فيه ديوان الصبابة وغيره وهو نمط ما بسط قبل وثانيها حسن التقسيم في الأبواب وثالثها لطف الترتيب وضم الأنواع المتماثلة ورابعها حذف الأسانيد والتكرار مع ذكر ما اختلف باشارات كان وقيها وخامسها ذكر السبب الموقع لصاحب الحكاية فيها وسادسها تمييز من جهل شيء من أحواله ممن علم بسائر أقواله وأفعاله وسابعها تفصيل من علق الأحرار من أهل الرق والمسلمين من أهل الشرك وأمثال ذلك من قديم ومحمد وثامنها ذكر ما في الأصل من الألفاظ اللغوية مفسراً ذلك بازائه مبدلاً ذلك بأوضح منه وتاسعها شرح ما في الأشعار من الغريب وعاشرها تعليل الأسباب المتعلقة بهذا الفن بالعلل الحكمية مأخوذاً من الأصول والأدلة الفلسفية والقواعد الطبية وحادي عشرها ذكر تعلق هذا الفن بأنواع المواليد الثلاثة وكيفية دخوله فيه وثاني عشرها الزيادات في الأبواب فربما كانت أنواعاً مستقلة وتكميلاً لما وجد بعضه في الجملة وربما زاد عليه بأشياء غير المذكورة في مطاوي معانيه فترعن استحضارها الذهن هنا كل ذلك مما استخرجه فكري القاصر وذهني الفاتر أو ظفرت به في كتب ربما أسمى بعضها فيه هذا كله مع إني والله لم أخل في يوم من أيام عمله في مشوش طارىء على ما عندي لها سبقت الاشارة إلى ذكره ولما كمل واتسق وانتظم في أكمل نسق سنه بتزيين الأسواق بتفصيل أشواق العشاق ورتبته على مقدمة وخمسة أبواب وخاتمة والله المسؤول أن ينفع به فيما قصد بترتيبه وأن يوفقنا إلى أصح القول وتهذيبه أنه أكرم من أعطى المراد وسئل فجاد فالمقدمة فيما جاء فيه من الأخبار والآثار ويلي ذلك أربعة فصول الأول في الترغيب فيه والثاني في رسمه والثالث في مراتبه والرابع في علاماته.
والباب الأول في مصارع محبي الله تعالى وفيه فصل ميزنا فيه من قتله التذكر بنحو سماع آية.
والباب الثاني في عشاق الجواري وهو ستة أقسام الأول فيمن اشتهر الثاني فيمن جهل الثالث في عشاق الاماء الرابع فيمن حظي بالتلاق بعد تجرع كأس من الفراق الخامس فيمن وسموا بالفساق من العشاق السادس فيمن نكث الصحبة وحل عقد المحبة وفي كل أقسام أصناف وأنواع بحسب ما احتمله المقام من صحة الانقسام.

والباب الثالث في عشاق الغلمان وهو أربعة أقسام الأول فيمن استلب الهوى نفسه الثاني فيمن جهل حاله الثالث فيمن ظفر بمطلوبه الرابع فيمن منعه الزهد والعبادة أن يقضي مراده وألحقت ذلك بخاتمة تشتمل على ذكر دوا للسلو عن الهوى.
والباب الرابع في ذكر دخول العشق فيما سوى البشر وهو نوعان الأول في الجن والثاني في الحيوان والنبات والمعدن والعناصر والأفلاك.
والباب الخامس قد اشتمل على فصول كل فصل منها قد احتوى على النكت والعجائب واللطائف والغرائب من أصول هذه الصناعة وقد ألزمت نفسي أن أفتح كل فصل منه بكلام استاذ الحقيقة ورئيس أهل الطريقة مسكت كل لافظ ومبين ما في الطريق من القواطع والعوارض سيدي عمر بن الفارض غمرنا الله تعالى ببركاته وطيبنا بنفحاته متبعاً ذلك بما تيسر من حل ألفاظه حسب ما سنح في الذهن ثم أقول بعد انتهاء متعلق الطريقة رجع إلى كلام المترسمين من أهل الظاهر واختم الفصل بما سمعت به القريحة الفاترة والفكرة القاصرة من لطائف النظم المناسب لما ذكر عن أهل الصناعة هنالك واتبعت الفصول بتتمة في لطائف الغزل الخاص والعام وتقسيم ذلك.
وأما الخاتمة ففي لطائف ونكت متفرقة لا التزم تعلقها بالعشق وبها يتم الكتاب.

المقدمة

فيما جاء فيه الكتاب من الأحاديث والآثار وفي حده ومراتبه

أعلم أن واهب الصور لما صدر عنه العقل كان أعظم صادر لقربه من الكمال الذاتي فالعود إليه وطلب القرب منه واجب على كل ذي نفس قدسية ومن تطابقت الأدوار شاهدة بذلك ويدل له عموم فقال له أقبل الحديث وعنه النفس الكلية ثم قسما الأجسام الفلكية والعنصرية كما هو في محله إلى أن كان أشرف النفوس وأرفعها على الاطلاق النفس الانسانية ولشبه الشيء بأصوله كما هو واضح مقرر في محله بالبراهين انقسمت هذه النفس باعتبار أصولها إلى ثلاثة أقسام أحدها النفوس المعدنية وهي الجامدة التي لا تعقل ما يراد منها ولا نعرف إلا ما تقوم به بنيتها ويصدر عنها وذلك أما بالخاصية أو بأمر أودعها صانعها فيها لمصالح يعلمها ويشهد لذلك ما يشاهد من صور في الجبال والطن ونحوهما وثانيهما النباتية وهي أرفع من الأولى باعتبار الذبول والتحلل الظاهر وثالثها الحيوانية وتفصل السابقة بالحركة الارادية والحساسية ونحوهما من العوارض ثم كل واحدة من هذه الثلاث تنقسم باعتهار ما تشابهه من النوع كانقسامه في نفسه وذلك كانقسام الأولى إلى ما يكون صافي الجوهر جيده كالياقوت والذهب والثانية إلى ما هو كثير النفع طيب الطعم والرائحة كالعنبر والعود والثالثة إلى ما هو صالح للنفع والزينة كالخيل وإلى شجاع كالأسد وخبيث كالنمر وحافظ للعهد كالكلب وقوام على حفظ ما يستحفظ كالقرد ونظائر ذلك ولما كانت النفس الانسانية زبدة الكائنات وخاتمة طرفي سلسلة العلل والمعلولات لا جرم كانت مقتدرة على أن تتبع شهوات الجسم وعوارض الكثيف فتكون حيوانية بحتة أو تعمل في خلاص النفس من ظلمة الطبيعة وقفص الجسم فتحلق بعالمها الأصلي وهي النفس الملكية المقرة بالمبدأ والمعاد المخلصة من محض الكثافة المنتظمة في سلك محض اللطافة أو تجمع بين الأمرين وتؤلف بين الطريقين وهذه هي الانسان المطلق والأولى الحيواني والثانية الملكي فقد بان لك أن الإنسان منقسم كأصله ومميز بفعله ثم لا شبهة في انقسام كل كالمنتسب إليه ويكون كماله منزلاً عليه فالحكيم محتاج في اصلاح الأولى إلى ما يكون بمجرد حسن اللفظ والسياسة كالطيور أو بالضرب والاهانة كالدب والحمار وباطعام الطعام كالخيل والكلاب أو بالارسال والجدب والتحفظ من غدرها كالأسود والجمال والثانية وإن تفاوتت مراتبها غنية عن الاصلاح إلا من قبل مبدعها والثالثة هي المحتاجة إلى العلاج وملاطفة الزاج والعشق الحقيقي لها غالباً لأنه تابع للأمزجة ولأن عشق الملكي والحيواني بسيط إذ الأول يكون لمحض ذات واجب الوجود ومبدع الفيض والجود والثاني لمحض قضاء شهوات الجسم الفاسدة الناشئة عن الفكر الجامدة إذا تقرر هذا فاعلم أن العشق بعد أن سمعت ما سمعت يختلف باختلاف المزاج على أنحاء أربعة سريع التعلق والزوال كما في الصفراويين وعكسه كما في السوداويين وسريع التعلق بطيء الزوال كما في الدمويين وعكسه كما في البلغميين ومثل هذه مراتب الحفظ والنسيان وأما المعتدل فيكون العشق فيه كذلك فعلى هذا يكون قولهم لكل أحد صبوة الأمل جفت خلقته أو نقصت بنيته أو خرجت عن الاعتدال أمزجته محمولاً على الاعتدال النسبي الذي إذا حصل لشخص كان به على ما ينبغي أن يكون عليه لا الحقيقي لعزة وجوده ولزوم ندور العشق حينئذ والواقع خلافه ثم هو متى وقع على ما وصفناه أمكن حصول المزايا المذكورة فيه فقد قال الاستاذ أن أقل مزاياه تعليم الكرم والشجاعة والنظافة وحسن الأخلاق وذلك أن غاية مراد العاشق رضا معشوقه ورضا المعشوق يكون بانصاف العاشق بما يوجب المدح ويحسن المرتبة في القلب فعلى ثبوت هاتين المقدمتين ينتج ما قلناه واللازم واقع فكذا الملزوم وبيان الملازمة ظاهر وايضاحه أن العاشق وإن بخل جداً فلا يمكن بخله على المعشوق ومنه يتطرق الحال إلى من يعلم أنه متى بخل عليه أوصل الأمر إلى معشوقه وهكذا فيؤدي الحال إلى مطلق الكرم وكذا باقي السجايا المذكورة ولذلك جاء الناموس الشرعي بمطابقة القانون الحكمي كما هو شأن الشارع في غير هذا أيضاً ليكون التطابق بين الحكمة والشرع في كل شيء ولا عبرة بكلام بعض الأغبياء عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشق فعف فمات دخل الجنة زاد الخطيب عن فظفر ثم أبدل قوله دخل الجنة بقوله مات شهيداً وفي أخرى وكتم والحديث بسائر ما ذكر صححه مغلطاي وأمحله البيهقي والجرجاني والحاكم في التاريخ بضعف سويد وتفرده به ورواه ابن الجوزي مرفوعاً وأبو محمد بن الحسين موقوفاً وأخرج الخطيب عن عائشة رفعه أيضاً وحاصل الأمر ما صحته أو حسنه والجواب عن تفرد سويد المنع بوروده عن غيره وحكايته تحديثاً وكونه قبل عماه فلا تدليس وإذ قد ثبت فهو شاهد بما قلناه لأن غاية الغايات دخول الجنة وهو مستلزم لرضا الله الذي لا مطلب أعلى منه وقد جعلت مقدمة هذا المطلب العالي العفة وهي مذهب الحكماء بل أساس الحكمة وهي كما صرح به المعلم ثمرة الأصل الطاهر لأن أعلى الخلق الرضا والمزاج المعتدل ومنا الكتم وهي ثمرة المروأة والشهامة وكلاهما مستلزم علو النفس وصحة المزاج فقد اتضح ما قلناه. وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليعجب من شاب لا صبوة له ووجهه الاعجاب القدرة على حكم زمام النفس وزجرها مع تركيب الشهية وتوفر الدواعي وما تكلفه في الأصل من أن المواد بالإعجاب أثره واضح لا يحتاج إليه لأنه وما شاكله من الرحمة التي هي رقة القلب لا تكون إلا لذي المزاج ولما علم بالضرورة تنزهه عن الأجسام والأعراض علم برؤه من لوازمها فما وقع مما يوهم شيئاً فالمراد لازمه ولصحة هذا الحديث واشتهاره بين الأكابر جاء تضمينه في أشعارهم كثيراً فمن ألطف ما قيل في ذلك قول ابن الصائغ: والحاكم في التاريخ بضعف سويد وتفرده به ورواه ابن الجوزي مرفوعاً وأبو محمد بن الحسين موقوفاً وأخرج الخطيب عن عائشة رفعه أيضاً وحاصل الأمر ما صحته أو حسنه والجواب عن تفرد سويد المنع بوروده عن غيره وحكايته تحديثاً وكونه قبل عماه فلا تدليس وإذ قد ثبت فهو شاهد بما قلناه لأن غاية الغايات دخول الجنة وهو مستلزم لرضا الله الذي لا مطلب أعلى منه وقد جعلت مقدمة هذا المطلب العالي العفة وهي مذهب الحكماء بل أساس الحكمة وهي كما صرح به المعلم ثمرة الأصل الطاهر لأن أعلى الخلق الرضا والمزاج المعتدل ومنا الكتم وهي ثمرة المروأة والشهامة وكلاهما مستلزم علو النفس وصحة المزاج فقد اتضح ما قلناه. وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليعجب من شاب لا صبوة له ووجهه الاعجاب القدرة على حكم زمام النفس وزجرها مع تركيب الشهية وتوفر الدواعي وما تكلفه في الأصل من أن المواد بالإعجاب أثره واضح لا يحتاج إليه لأنه وما شاكله من الرحمة التي هي رقة القلب لا تكون إلا لذي المزاج ولما علم بالضرورة تنزهه عن الأجسام والأعراض علم برؤه من لوازمها فما وقع مما يوهم شيئاً فالمراد لازمه ولصحة هذا الحديث واشتهاره بين الأكابر جاء تضمينه في أشعارهم كثيراً فمن ألطف ما قيل في ذلك قول ابن الصائغ:
سأكتم ما ألقاه يا نور ناظري ... من الأجر كيلا يذهب الأجر باطلا
فقد جاءنا عن سيد الخلق أحمد ... ومن كان براً بالعباد وواصلا
بأن الذي في الحب يكتم وجده ... يموت شهيداً في الفراديس نازلا
رواه سويد عن علي بن مسهر ... فما فيه من شك لمن كان عاقلاً
وماذا كثيراً للذي مات مغرماً ... سقيماً عليلاً بالهوى متشاغلا
وألطف من ذلك ما حكاه التاج السبكي في الطبقات الكبرى عن أبي نواس قال مضيت إلى باب أزهر والمحدثون ينتظرون خروجه فما كان إلا أن خرج وجعل يعظهم واحداً بعد واحد حتى التفت إلي فقال ما حاجتك فقلت:
ولقد كنت رويتم ... عن سعيد عن قتادة
عن سعيد بن المسيب ... أن سعد بن عباده
قال من مات محباً ... فله أجر شهاده
فقال أزهر نعم وذكر الحديث ولأبي نواس أيضاً:
حدثنا الخفاف عن وائل ... وخالد الحذاء عن جابر
ومسعر عن بعض أصحابه ... يرفعه الشيخ إلى عامر
وابن جريج عن سعيد وعن ... قتادة الماضي وعن غابر
قالوا جميعاً أيما طفلة ... علقها ذو خلق طاهر
فواصلته ثم دامت له ... على وصال الحافظ الذاكر
كانت لها الجنة مبذولة ... تمرح في مرتعها الزاهر
وأي معشوق جفا عاشقاً ... بعد وصال ناعم ناضر
ففي عذاب الله مثوى له ... بعداً له من ظالم غادر

وفي رستاق الاتفاق في ملح شعراء الآفاق لابن المبارك الامام:
حدثنا سفيان عن جابر ... عن خالد عن سهل الساعدي
يرفعه من مات عشقاً فقد ... استوجب الأجر من الماجد
وأما الآثار فكثيرة لا تكاد تحصى ولكن نورد ألطفها كم هو شأننا فمن ذلك ما روى عن المهدي قال: أشتهي أن أصلي على جنازة عاشق مات في الحب وكان شريح يكثر الجلوس في الطرقات ويقول لعلي أرى صورة حسنة وكان ابن الليث قاضي مصر يكتب في فتياً فسمع جارية تقول:
ترى في الحكومة يا سيدي ... على من تعشق أن يقتلا
فرمى القلم من يده وهو يقول: لا. وعن ابن عباس الهوى إله معبود فقيل له أتقول ذلك فقال نعم أليس الله تعالى يقول أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وقال العباس بن الأحنف:
ويح المحبين ما أشقى جدودهم ... إن كان مثلي الذي بي للمحبينا
يشقون في هذه الدنيا بعشقهم ... لا يدركون بها دنيا ولا دينا
يرق قلبي لأهل العشق إنهم ... إذا رأوني وما ألقى يرقونا
وله أيضاً:
أيها النادب قوماً هلكوا ... صارت الأرض عليهم طبقا
أندب العشاق لا غيرهم ... إنما الهالك من قد عشقا
وأخرج ابن الحسين الجاذري عن معن بن عيسى قال دخل ابن سجنون على مالك فقال يا إمام اجعلني في حل من أبيات قلتها فيك فقال وقد ظن أنه هجاه أنت في خل من ذلك فأنشد الأبيات بين يديه وهي:
سلوا مالك المفتي عن اللهو والغنا ... وحب الحسان المعجبات الفوارك
ينبئكم إني مصاب وإنما ... أسلي هموم النفس عني بذلك
فهل في محب يكتم الحب والهوى ... أثام وهل في ضمة المتهالك
فضحك وقال لا إن شاء الله وأظرف من ذلك ما أخرجه أبو نعيم في الحلية عن الربيع بن سليمان قال دخل شاب على الشافعي برقعة فوقع فيها بعدما نظر وناوله إياها فتبعته على أنها فتياً أكتبها فإذا هي:
سل العالم المكي هل في تزاوره ... وضم المشتاق الفؤاد جناح
فكتب تحته:
أقول معاذ الله أن يذهب التقي ... تلاصق أكباد بهن جراح
فأنكرت كتابته مثل هذا الشاب وذكرته له فقال أنه هاشمي وقد دخل بعرسه في هذا الشهر يعني رمضان فسأل عن الضم والتقبيل هل يفسدان الصوم فقلت له لا قال الربيع فعاودته فإذا الأمر كذلك فعجبت من فراسته وحكى في الأصل عن ابن حجر قال أخرج أبو نعيم أيضاً عن ابن سيرين أنهم كانوا يعشون بلا ريبة وفي الطبقات الكبرى لابن السبكي وحكاه في الأصل متردداً قال كتب جلال الدولة إلى أبي الطيب الطبري سؤالاً صورته:
يا أيها العالم ماذا ترى ... في عاشق ذاب من الوجد
من حب ظبي أهيف أغيد ... سهل المحيا حسن القد
فهل ترى تقبيله جائزاً ... في النحر والعينين والخد
من غير ما فحش ولا ريبة ... بل بعناق جائز الحد
إن أنت لم تفت فإني إذاً ... أصيح من وجدي واستعدي
فأجابه:
يا أيها السائل إني أرى ... تقبيلك العين مع الخد
يفضي إلى ما بعده فاجتنب ... قبلته بالجد والجهد
فإن من يرتع في روضة ... لا بد أن يجني من الورد
وإن من تحسبه ناسكاً ... لا بد أن يغلب بالوجد
فاستشعر العفة وأعصى الهوى ... يسلم لك الدين مع الود
تغنيك عنه كاعب ناهد ... تضمها بالملك والعقد
تملك منها كلمة تشتهي ... من غير ما فحش ولا رد
هذا جوابي لقتيل الهوى ... فلا تكن بالحق تستعدي
وأخرج الخطيب البغدادي عن الغزي قال رأيت عاشقين اجتمعا فتحدثا من أول الليل إلى الغداة ثم قاما إلى الصلاة وفي معناه أنشد العلامة محمود لنفسه وهو من لزوم ما لا يلزم
لله وقفة عاشقين تلاقيا ... من بعد طول نوى وبعد مزار
يتعاطيان من الغرام مدامة ... زاتهما بعداً من الأوزار
صدقا الغرام فلم يمل طرف إلى ... فحش ولا كف لحل ازار
فتلاقيا وتفرقا وكلاهما ... لم يخش مطعن عائب أوزاري
ومنه ما حكى عن بعضهم قال حكت لي امرأة عن شخص هويها وهويته أنه قال لها يوماً ها لك أن نحقق ما قيل فينا فقالت معاذ الله أن أفعل ذلك وأنا أقرأ الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين وقيل لأعرابي ليلة تزويج محبوبته أيسرك أن تظفر بها قال نعم قيل فما كنت تصنع بها قال أطيع الحب في لثمها وأعصي الشيطان في اثمها.
وعن الأصمعي قيل لأعرابي ما تصنع إن ظفرت بمحبوبتك قال امتع عيني من وجهها وسمعي من حديثها واستر منها ما يحرم كشفه إلا عند حله وأنشد ابن القاسم في المعنى وإن كان فيه بعد لأنك تعتبر الحياء من الايمان اللازم للعفة وخوف الله تعالى
كم قد خلوت بمن أهوى فيمنعني ... منه الحياء وقد أودى بمعقولي
يأبى الحياء وشيبي أن ألم به ... وخشية اللوم من قال ومن قيل
وأصرح منه في المقصود ما أنشده إبراهيم بن عرفة
كم قد ظفرت بمن أهوى فيمنعني ... منه الحياء وخوف الله والحذر
وكم خلوت بمن أهوى فيقنعني ... منه الفكاهة والتحديث والنظر
أهوى الحسان وأهوى أن أجالسهم ... وليس لي في حرام منهم وطر
كذلك الحب لا اتيان معصية ... لا خير في لذة من بعدها سقر
وأخرج صاحب الأصل عن سعيد بن عقبة الهمذاني قال لأعرابي حضر مجلسه ممن الرجل قال من قوم إذا عشقوا ماتوا فقال عذري ورب الكعبة ثم سأله علة ذلك فقال لأن في نسائنا صباحة وفي فتياتنا عفة وأخرجه في الخليفيات أيضاً وفي معناه أنشد حرب
ما أن دعاني الهوى لفاحشة ... ألا عصاني الحياء والكرم
فلا إلى محرم مددت يدي ... ولا مشت بي لزلة قدم
هذا ما جاء في الآثار من العشق مع العفة وأما ما يدل على كثرة وقوعه واختصاص قوم بمزيد منه فكثير. فمن ذلك ما أخرجه التنوخي عن عروة بن الزبير قال قلت لعذري أنكم أرق الناس قلوباً يريد أصباهم إلى الحب فقال نعم لقد تركت ثلاثين شاباً خامرهم السل ما بهم داء إلا الحب وقيل لشخص منهم مثله فقال كقوله وزاد لكن غلبتنا بنو عامر بمجونها وفي منازل الأحباب للشهاب محمود ليس حي أصدق في الحب من بني عذرة ولا نضرب الأمثال فيه إلا بهم وقال قلت يوماً أتعدون موتكم في الحب مزية وهو من ضعف البنية وهن العقدة وضيق الرئة فقال أما والله لو رأيتم المحاجر البلج ترشق بالعيون الدعج من تحت الحواجب الزج والشفاه السمر تبسم عن الثنايا الغر كأنها شذر الدر لجعلتموها اللات والعزى وتركتم الإسلام وراء ظهوركم وعن أبي عمرو بن العلاء قال استنطقت إعرابياً عند الكعبة واستنسبته لماذا هو فصيح عذري فسألته هل علقه الحب فأنبأ عن شدة ولوع فسألته ما قال في ذلك فأنشد
تتبعن مرمى الوحش حتى رميتنا ... من النبل لا بالطائشات المخاطف
ضعائف يقتلن الرجال بلا دم ... فيا عجباً للقاتلات الضعائف
وللعين ملهى في البلاد ولم يقد ... هوى النفس شيء كاقتياد الظرائف
وقال بعض حكماء الهند ما علق العشق بأحد عندنا إلا وعزينا أهله فيه. وحكى الحافظ مغلطاي أن العشق يختلف باختلاف أصحابه قال الغرام أشد ما يكون مع الفراغ وتكرار التردد إلى المعشوق والعجز عن الوصول إليه فعلى هذا يكون أخف الناس عشقاً الملوك ثم من دونهم لاشتغالهم بتدبير الملك وقدرتهم على مرادهم ولكن قد يتذللون للمحبوب لما في ذلك من مزيد اللذة كقول الحكم بن هشام
ظل من فرط حبه مملوكاً ... ولقد كان قبل ذاك مليكا
تركته جآذر القصر صباً ... مستهاماً على الصعيد تريكا
يجعل الخد واضعاً تحت ترب ... للذي يجعل الحرير أريكا
هكذا يحسن التذلل بالحرّ ... إذا كان في الهوى مملوكا
وقول الرشيد أيضاً
ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان
ما لي تطاوعني البرية كلها ... وأطعيهن وهن في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه قوين أعز من سلطاني

وقال ابن الأحمر سلطان الأندلس
أيا ربة الخدر التي أذهبت نسكي ... على كل حال أنت لا بد لي منك
فأما بذل وهو أليق بالهوى ... وأما بعز وهو أليق بالملك
وقال ابن طاهر صاحب خراسان
فإني وإن حنت إليك ضمائري ... فما قدر حبي أن يذلك له قدري
ودونهم أفرغ لقلة الاشتغال حتى يكون المتفرغ له بالذات أهل البادية لعدم اشتغالهم بعوائق ومن ثم هم أكثر الناس موتاً به. ثم أعلم أن العشق متى استولى لم يبق صفة سواه ولذلك يذهب الأخلاق العسرة وقوة النفس وفي معنى ذلك أنشد بعضهم حيث قال في رسالة أرسلها إلى محبوبته
شكوت فقالت كل هذا تبرم ... بحبي أراح الله قلبك من حبي
فما كتمت الحب قالت لشد ما ... صبرت وما هذا بفعل شجى القلب
وأدنو فتعصيني فأبعد طالباً ... رضاها فتعد التباعد من ذنبي
فشكواي يؤذيها وصبري يسوءها ... وتجزع من بعدي وتنفر من قربي
فيا قوم هل من حيلة تعرفونها ... أشيروا بها واستوجبوا الشكر من ربي
ومنهم من تحمله الأنفة على أن يفارق بعد إظهار شدة شوق وقوة ميل وكذا شدة الإقبال من المحبوب فيتوهم حيث تشيع نفسه أن الشوق لا يعاوده فيفارق ويعود ذلك عليه بتلف نفسه والحق أن ذلك كله مع عدم التمكن وهو الموسوم بالاشراك وإلا فالصدق منه لا يرى وجوداً لسوى المحبوب ومن ثم طعن على من يرى الدنيا مثالاً لمحبوبه أو يظن وجوده ودونوا ما صدر عمن بدأ بالسلوان ثم ندم فمن ألطف ما قيل في ذلك قول الهذلي
ويمنعني من بعض إظهار ظلمها ... إذا ظلمت يوماً وإن كان لي عذر
مخافة أني قد علمت إذا بدا ... لي الهجر منها ما على هجرها صبر
وإني لا أدري إذا النفس أشرفت ... على هجرها ما يبلغن بي الهجر
وقال ابن الجهم
نوب الزمان كثيرة وأشدها ... شمل تحكم فيه يوم فراق
يا قلب لم عرضت نفسك للهوى ... أو ما رأيت مصارع العشاق
فصل في الترغيب في العشق والحث عليه
قيل أن بهرام جور لم يرزق سوى ولد فأخذ في ترشيحه للملك وهو ساقط الهمة إلى أن اتفق المعلمون من الحكماء وغيره على أن لا نافع له غير العشق فسلط عليه الجواري يعبثن به إلى أن علق بواحدة منهن فأمرها الملك بالتجني عليه وإنها لا تطلب إلا رفيع الهمة ذا رغبة في العلم والملك فكان بسبب ذلك من أجل ملوك الفرس وأعلمها وفي المعنى قال ابن الأحنف:
وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوى ... ولا خير فيمن لا يحب ويعشق
وقال بعضهم:
وما سرني إني خليّ من الهوى ... ولو أن لي ما بين شرق إلى غرب
وقال ابن أبي كثير لابن أبي الزرقاء هل عشقت حتى تكاتب وتراسل فقال لا قال لن تفلح والله أبداً وأنشد الشعبي:
إذا أنت لم تعشق ولم تدري ما الهوى ... فأنت وعير في الفلاة سواء
وعجزه غيره فقال:
فكن حجراً من يابس الصخر جلدا
وأنشد ابن معاذ:
ولا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر ... خليلاً ولم ينظر إليك حبيب
وقالت امرأة فيه أيضاً:
رأيت الهوي حلواً إذا اجتمع الشمل ... ومرا على الهجران لا بل هو القتل
ومن لم يذق للهجر طعماً فإنه ... إذا ذاق طعم الحب لم يدر ما الوصل
وقد ذقت طعميه على القرب والنوي ... فأبعده قتل وأقربه خبل
فصل في رسومه وحدوده
وما جاء عن الحكماء وغيرهم في ذلك
قال بعضهم العشق مجهول لا يعرف ومعروف لا يجهل هزله جد وجده هزل وهذا في الحقيقة تعريف بالعوارض غير اللازمة واشارات إلى اختلاف الحالات الكائنة عنه فإن الجهل يعتري العشاق عند تزايد الحب فيوجب الحيرة في الأمر وعكسه عند انفصاله عن المخيلة والهزل مباديه والجد تمكنه ونحوه ما أجاب ابن أكتم به وقد سأله المأمون ما العشق فقال سوانح للمرء تؤثرها النفس ويهيم بها القلب فقال له ثمامة إنما شأنك أن تفتي في مسئلة طلاق أو محرم فقال المأمون قل يا ثمامة فقال العشق جليس ممتع وأليف مؤنس وصاحب مالك وملك قاهر مسالكه لطيفة ومذاهبه غامضة وأحكامه جائرة ملك الأبدان وأرواحها والقلوب وخواطرها والعيون ونواظرها والعقول وآراءها وأعطى عنان طاعتها وقياد ملكها وقوى تصرفها توارى على الأبصار مدخله وغمض في القلوب ملكه فقال له المأمون أحسنت يا ثمامة وأمر له بألف دينار.
وفي رواية أنه قال له إذا امتزجت جواهر النفس بوصل المشاكلة نتجت لمح نور ساطع تستضيء به بواصر العقل ويتصور من ذلك اللوامح نور خاص بالنفس متصل بجواهرها يسعى عشقاً أقول وهذا تعريف له بحقائقه ومواده الذاتية والأول تعريف بالعوارض والغايات وهذا بالحكمة أليق وإيضاحه نور البصر يوصل ما يدركه إلى المشترك وهو إلى الواهمة حتى يرتسم في القوة العاقلة المعروفة بالنفس الناطقة فقوله بوصل المشاكلة يريدان النظر الواقع عن تأمل عارف بتأمل المحاسن ودقائق لطيف الشمائل يوجب ارتسام أنوار في النفس تشبه الجواهر المجردة تزدوج بالنفس لاتحاد بينهما في اللطف والصفاء وهذا دليل على أن العشق لا يتصور من جاهل غليظ الطبع ووصفه بعض البلغاء بأنه فضيلة تنتج الحيلة وتشجع الجبان وتسخي كف البخيل وتصفي ذهن الغبي وتطلق بالشعر لسان الأعجم وتبعث حزم العاجز الضعيف وهو عزيز يذل له عز الملوك وتضرع له صولة الشجاع وهو داعية للأدب وأول باب تفتق به الأذهان والفطن ويستخرج به دقائق المكايد والحيل وإليه تستريح الهمم وتسكن به فواتر الأخلاق والشيم يمتع جليسه ويؤنس أليف وله سرور يجول في النفوس وفرح يسكن في القلوب وقال سعيد بن سالم وقد قيل له أن ابنك شرع في الرقيق من الشعر فقال دعوه ينظف ويلطف ويظرف يعني أنه يطلع من رقيق العشر على أسرار البلغاء وليس أرق من الغزل ولا أدق لما فيه من تعلق العشق ومدح المحبوب وذلك يؤدي إلى ما ذكر فإن العاشق إذا علم ما يقربه إلى محبوبه بذلك فيه إمكانه والظرافة واللطافة والنظافة أعظم مقرب فكأنه قال دعوه لعله يتصف بالعشق ولولا الجمل على ذلك لم يصلح سوق هذا هنا لأنه على ظاهره ترغيب في مطلب الشعر فليتأمل ونقل ابن خلكان في ترجمة العلاف ما ملخصه أن العشق جرعة من حياض الموت وبقعة من رياض الثكل لكنه لا يكون إلا عن أريحية في الطبع ولطافة في الشمائل وجود لا يتفق معه منع وميل لا ينفع فيه عذل وفي معنى شدة العشق أنشد المؤمل:
شق المؤمل يوم الحيرة النظر ... ليت المؤمل لم يخلق له بصر
يكفي المحبين في الدنيا عذابهم ... والله لا عذبتهم بعدها سقر
وعرفه أرسطو بأنه جهل عارض صادف قلباً فارغاً دق عن الأفهام مسلكه وخفي عن الأبصار موضعه وحارت العقول في كيفية تمكنه غير ابتداء حركته وعظم سلطانه من القلب ثم يتغشى على سائر الأعضاء فيبدي الرعدة في الأطراف والصفرة في الأبدان واللجلجة في الكلام والضعف في الرأي والزلل والعثار حتى ينسب صاحبه إلى الجنون زادت إعرابية يذهب العقل وينحل الجسم ويهمل الدمع بحدوده مرور الأيام ولا تفسده بل لا تغيره إساءة المحبوب على الدوام ومن ثم قال الأصمعي وقد سأله الرشيد ما حقيقة العشق فقال أنه شيء يستغرق القلب في محاسن المحبوب ويذهله عن مساويه فيجد رائحة البصل من المحبوب أعظم من المسك والعنبر وتعاقب امرأتان من أهل المدينة فيا لهوى فقالت إحداهما تعذل الأخرى ذكروا في الحكمة لا تلم من أساء بك الظن إذا جعلت نفسك غرضاً للتهمة ومن لم يكن عوناً على نفسه من خصمه لم يكن عنده شيء من عقدة الرأي ومن قدم على الهوى وهو يعلم ما فيه من المتعبة سلط على نفسه لسان العذل وضيع الحزم فقالت المعدولة ليس الهوى إلى الرأي فيملكه ولا إلى العقل فيدركه أما سمعت قول الشاعر
ليس خطب الهوى بخطب يسير ... لا ينبئك عنه مثل خبير
ليس أمر الهوى يدبر بالرأ ... ي ولا بالقياس والتفكير
إنما الأمر في الهوى خطرات ... محدثات الأمور بعد الأمور
وقيل هي لعلية بنت المهدي حكاه الصولي ووجد على صخرة العشق ملك غشوم مسلط ظلوم دانت له القلوب وانقادت له الألباب وخضعت له النفوس فالعقل أسيره والنظر رسوله واللحظ حامله والتفكر جاسوسه والشغف حاجبه والهيمان نائبه بحر مستقره غامض ويم تياره طافح وفائض وهو دقيق المسلك عسير المخرج وضرب بعض الحكماء مثلاً للشهوة والعشق فقال هما كالنحل يستميل القلوب بحلاوة عسله وربما قتل بسمعه وذلك لأن الإنسان أما ذو عقل ملكي يتعقل الأشياء فينزجر أو نفس شهوانية ترى اللذات فتنهمك ومن ثم إذا وقع عن صدق جعل المتحابين كنفس واحدة.
حكي الغنوي قال دعيت إلى عيادة مريض أحبه آخر فدخلنا عليهما والمحب الصحيح يذب عنه فكان إذا شكا المريض شيئاً شكا الآخر مثله فقدر أن قضى ونحن عنده فحال مفارقة نفسه فارق الصحيح نفسه ومثله ما حكاه في ذيل الأمالي عن التميمي أن أخوين من امرأة يقال لهما فضل وفضيل قضى أحدهما فلما دفن طأطأ الآخر ينظره فلما سوي عليه اللبن أنشد
سأبكيك لا مستقصياً فيض عبرة ... ولا مبتغ بالصبر عاقبة الصبر
ثم عاد فلزم المنزل حتى قضى من الغد

فصل في بيان مراتبه
وما ورد في كيفية ترقيه حتى يستولي على الحواس النفسية ويستغرق القوى الحسية ويملك العقل والبدن ويورث الذل والمحن ويسهل الوقوع في المهالك ويغري على سلوك أوعر المسالك أعلم أنه ألطف موجود نشأ في الوجود كما حققناه وحيث هو كذلك فتعلقه لا يبد وأن يشاكله لاحتياج كل اثنين تألفاً إلى نسبة تأليفية ولا شبهة أن الروح ألطف ما في البدن فلذلك كان العشق أول ما يتشبث بها فهذا دليل على أنه يقابل الأمراض كلها ومن ثم قال المعلم العشق نصف الأمراض وشطر الأعراض وقسيم الأسقام وجل الآلام وهذا واضح لأن الروح ولا شك أن سريان اللطيف في اللطيف أسرع ملاكاً وأعظم استملاكاً ويليه اللطيف في الكثيف كالحمى في البدن ثم الكثيف في الكثيف كالفالج فيه فعلى هذا يتجه كلام المعلم بل أقول أن العشق غالب الأمراض وليست بالنسبة إليه إلا كالعشر إلى الكل والقطرة إلى البحر وبرهانه أن الأمراض غالباً تخص البدن وإنما اشتغال الروح حينئذ بالتدبير والأفهى في نفسها صحيحة وأما العشق فعاقبته إفساد البدن وتعطيل الفكر وإلحاق العقلاء بأهل الجنون ثم مرتبته الثانية تتولد عن تكرار نظر أو سماع خطاب يتعقل له في الذهن معن يكون لحديد القلوب مغناطيسياً جاذباً ولأنظارها السفسطية برهاناً غالياً ويسمى حينئذ العشق الحسي وقال فيثاغورس لا يسمى حسياً إلا إذا تولد عن مباشرة الحس وهذا عندي ليس بشرط وإن اشترط ففي حق البلداء من الناس ومن في حواسهم الباطنة ضعف وإلا فأحد الحاستين الأصليتين كاف في إيصاله إلى الحس المشترك ثم مرتبته الثالثة الخيالية وهي عبارة عن استيعابه التخيل حتى لم يبق للعاشق تخيل إلا صورة المعشوق وإن شارك الناس في الأمور الظاهرة.
كانت تلك المشاركة غير تامة وعلاماتها غلبة السهو ونقص الأفعال والاحتياج إلى محرك باعث ثم مرتبته الرابعة مرتبة الحفظ وهي الاستيلاء على الاستيلاء على الحفظ فتصرف القوة عن تحصيل كل كمال والنظر إلى كل جمال وهذا هو العشق الذي يرى صاحبه الميل إلى سوى المحبوب إشراكاً والفكر في غيره ضياعاً وأشغل الزمان بما سواه فساداً وخروجاً وإليه أشار الفارضي بقوله:
ولو خطرت لي في سواك إرادة ... على خاطري سهواً قضيت بردتي
فتعبيره بالسهو إشارة إلى تقصي المراتب واستيفاء الشروط وكأنه يقول من المعلوم أن السهر لا يحدث إلا من كثرة الواردات ولم يبق على قلبي وارداً سواك فكيف أسهو ومن ثم أشار بعد ذلك إلى طرح المراد وإماطة العلائق واتحاد الطالب مع المطلوب وعدم الأثنينية بقوله:
وكل الذي ترضاه والموت دونه ... به أنا راض والصبابة أرضت
بعد أن كان قبل الوصول إلى هذه المرتبة قد أثبت لنفسه مراداً حيث قال:
وعيدك لي وعد وإنجازه مني ... ولىّ بغير البعد أن يرم يثبت

ثم الخامسة مرتبة الاستغراق وهي استيلاء الاشتغال بالمحبوب على النفس الناطقة بأسرها وارتسام صورة المحبوب في مرآة العاقلة وحدها مع محو ما سواها وإلى ذلك أشار العارف المذكور بقوله:
ولا غرو إن صلى الأنام إلى أن ... ثوت بفؤادي فهي قبلة قبلتي
وقوله:
ووجدي بها ما حيّ والفقد مثبتي
يعني إن وجدي الصحيح بالمحبوبة محاني أي صورتي التي كانت مع العالم الدنيوي فكأن فقدي لها هو الذي أثبتني وهذه المرتبة على الأصح من كلام كثير هي أول المراتب التي يقع ببلوغها اليأس من الانتفاع بالعلاج الذي ذكرته الأطباء كالنظر في الحساب والمحاورات وتذكر مساوىء المحبوب والنظر إلى أمثاله وما يقاربه إلى غير ذلك مما هو مقرر في مواضعه السادسة مرتبة الانقلاب وهي مرتبة ينقلب فيها ادراك العاشق في سائر آلاته فيصير إذا لمس الحجر أو ذاق الصبر أو سمع الإيذاء أو رأى شيئاً كالجيفة أو شم رائحتها فضلاً عن أضداد ذلك يعتقده المحبوب وربما تجرد عن صورته فشاهدها المحبوب وإليه أشار بقوله:
فلم تهوني ما لم تكن فيّ فانيا ... ولم تفن ما لم تجتلي فيك صورتي
وهذه المرتبة مع العناية والاخلاص تنقل قدسية إذا كانت النفس الناطقة قبل ذلك قد تخلصت بالكمالات عن البهيمية وإلا ألحقت صاحبها بالحيوانات وعنها عبرت الأطباء بألمانيا والسرسام والسهر السباتي والماليخوليا.
والسابعة مرتبة العدم الكلي والمفارقة الأبدية وهي التي إذا بلغتها النفس لم تستقر في البدن وربما كانت مفارقتها بتذكر أو سماع ذكر أو تنفس صعداء أوامر من المحبوب وحاصلها أن يصير الموت أعظم أمنية للنفس كما أشار إليه بقوله:
فموتي بها وجدا حياة هنيئة ... وإن لم أمت بالحب عشت بغصتي
وقد صرت أرجو ما يخاف فاسعدي ... به روح ميت للحياة استعدت
إلى غير ذلك ما لو منح الله تعالى شخصاً مدداً يستغرق المدد وحياة تستفرغ الأبد وفراغاً يذر الشواغل سدى ونفحات قدسية تصقل مرآة عقله لقبوله الفيض أبداً وأفرغ ذلك كله في تحرير ما أودعه عارف الزمان وسلطان الآفاق وفرد دائرة الأكوان وجامع فضائل العشاق سيدي عمر بن الفارض أعاد الله علينا وعلى المسلمين من فواضل بركاته وفضائل نفحاته من مراتب العشق وأدواره وتنقلاته وأطواره لغني الزمان ولم يدرك معشاره وبادت الأكوان ولم يعرف قراره ولولا ضيق هذا المختصر لأوضحت لك من بعض عجائب تدقيقاته في أقل أبياته وكلماته ما يدعك في حيرة الفكر وبحار التعجب غارقاً ويسكتك وإن كنت مصقاعاً ناطقاً ومن ثم قيل المحبوب خير من الحياة والمكروه بالطبع شر من الموت لتمنى كل عند حصول ذلك أما ما نقل عنه في بيان مراتبه خصوصاً ما ذكره هنا فليس بالجيد إذ بالبعض دال على الأسماء والبعض على الماهية والبعض على السبب فلم يحققه غيرنا أحد فاحفظ مقادير ما ظفرت به وها أنا أبين لك عدم انطباق ما ذكروه على المطلوب قال ابن صاعد في طبقات الأمم عن فيثاغورس صاحب سليمان نبي الله عليه السلام العشق طمع يتولد في القلب يعني عن النظر ثم ينمو ويحدث اللجاج والاحتراق حتى أن الدم يهرب عند ذكر المحبوب وقد يموت من شهقة أو برؤية المحبوب بغتة وربما اختنقت الروح من نحو ذلك فدفن ولم يمت وفي سيرة الاسكندر أن هذا لابقراط زاد التميمي في كتاب امتزاج النفوس عن جالينوس إن العشق من فعل النفس وذلك كامن في الأعضاء الرئيسية فمتى تمكن أفسدها وهذا كله إشارة إلى المراتب إجمالاً وفي كتاب المتيمين نظر رجل إلى معشوقته فغشى عليه فقال حكيم إنه من انفراج قلبه اضطرب جسمه فقيل له ما بالنا لا نكون كذلك عند النظر إلى أهلنا فقال محبة الأهل قلبية وهذه روحانية فهي أدق وألطف وأعظم سرياناً وفعلاً وقال أفلاطون العشق غزيرة تتولد عن الطمع زاد المعلم وهو يحدث عمى القلب عن عيوب المعشوق وبه جاءت السنة حيث قال حبك للشيء يعمي ويصم رواه أبو داود وأحمد وأنشد فيه
فلست براء عيب ذي الود كله ... ولا بعض ما فيه إذا كنت رائيا
فعين الرضا عن كل عيب كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساويا


.
صورة مفقودة
 
أعلى