عبد الله البياري - تأملات في الجمالية والخطاب والتفاحة

يعزو البعض تأثير البروباغندا باعتبارها تمظهرًا خطابيًا لمفهوم "الجمالية" إلى تخوم القرنين الثامن والتاسع عشر، تلك المرحلة المركبة، إذ كانت الثورة الفرنسية (1789 – 1794) هي التي شكلت ملامحها الرئيسية لما كان للطباعة من أثر رئيس في ذلك التعبير المادي عن فكرة الحرية، أما بالنسبة لإنجلترا فكان ثمة أهمية خاصة للإنقلاب الصناعي الذي أحل الآلة محل الإنسان واتجه إلى الاستغناء عن الإنسان لعدم الحاجة إليه، ولم يكن ذلك الإحساس موجودًا في فرنسا التي سعت إلى تغيير العالم وظلت على امتداد عشرين عامًا لا تفكر وتكتب بمقدار ما كانت "تعمل". فبعد عصر "التفكير و التأمل" أدركت الإنسانية أن الفكر ليس كل شيء وأن الفعل أعلى منه، وهنا يقول غوته في فاوست: "الفعل بداية الوجود"، في حين أن المسألة كانت تطرح في القرنين السابع و الثامن عشر كالتالي: "أنا أفكر، إذًا فأنا موجود"، بحسب ديكارت.

لعل زمنية أو لحظة الأكل من شجرة المعرفة (على إختلاف تفاصيل السرد والتأويل في الكتب المقدسة والديانات الإبراهيمية) من أهم زمنيات /لحظات تأسيس الوعي الإنساني، لما فيها من كشف عن تراكبية و/أو مفارقة المعرفة بين زمنين فارقين: الزمن المطلق والزمن النسبي؛ وأثر تلك التراكبية على إدراك الإنسان لذاته ومحيطه وموقعه فيهما، وبالتالي تأثيرها على الإدراك الجمالي. فالأجساد والكينونات السابحة في فضاء "المطلق" في الجنة (يرى الباحث الإسلامي د.محمد شحرور أن "المكان" الذي تواجد فيه آدم وحواء لم يكن الجنة)، قبل أن تمسهم "المعرفة" –بالتعبير النيتشوي- في صورة "التفاحة"، إذ "أغرت البصائر"، قد إنتقلت إلى الحيز النسبي، فبات الوجود الإنساني -بصورته النسبية- متأسسًا في تلك اللحظة، أي الوعي الوجودي الذاتي المادي للإنسان، ذلك الوجود المستقبل عن حيز المطلق الإلهي المتجاوز الجمال والكمال.



بكلمات أخرى، أدت المعرفة إلى انتقال مفاهيمي من الجمالية المطلقة للجسد الجناني – نسبة إلى الجنة- إلى مادية الجسد الذاتي النسبية في علاقته بالمعرفة، وبالتالي تحررت المعرفة الإنسانية من بنيتها المتجاوزة إلى تفاصيلها الإدراكية الذاتية البنائية، فكانت هندسة الجمال و القبح والإنسان ونظرته لذاته هندسة عقلية ومعرفية.


وكانت النتيجة ما وصفه روبرت شولز: "أن كثيرًا مما نعده طبيعيًا هو في حقيقته ثقافي. إن جزءً من العمل النقدي و التأملي هو عملية كسر الألفة المتواصلة أي التخلي عن التقاليد، و اكتشاف شفرات كانت قد تأصلت إلى حد أننا لم نعد نراها، بل نظن أننا نرى من خلال شفافيتها الواقع نفسه"، بلفظ آخر مفهوم "الجمالية" وما تنتجه من صور في الوعي، هو بالنهاية إدراك ثقافي تهندسه قوى الخطاب على إختلافها، و "لايكون هذا الإجراء مهمًا وقويًا في مكان، مثلما يكون في إدراكنا لأجسادنا"، فالجسد هو أول إدراك الإنسان لذاته ولعالمه –من خلاله- ، وهو ما جعل مفهوم العري الذي تضاد مع القيمة الجمالية المطلقة في جنة هو حصيلة فهم العقل المعرفي بعد أكل التفاحة وليس قبلها، لما كان جميلًا في الجنة: الإنسان، أي أننا "مشفرون حتى النخاع"، حتى في مفهومنا للجمال المطلق.

بخروج آدم وحواء من الجنة/الحيز المطلق المتناهي الجمال، إلى العالم النسبي المحدود الجمال، بدأت التجربة الإنسانية معرفتها إنطلاقًا من ذلك الحيز النسبي، فكانت –المعرفة- نظامًا قيميًا، متغيرًا، يساهم في تشكيل وتعديل بنية التصورات والمعاني لدى الإنسان، أي أنها في ذاتها باتت منظومة قائمة على آليات من التصنيف و الرقابة و المنع و السيطرة، أي أنها فضاء تمركز للقوة و ديناميات الخطاب، فخضعت أنساقها المختلفة كالثقافة و اللغة و الأدب والإجتماع و غيره لمنظومات و آليات السيطرة المختلفة كالجنوسة والعرق والسلطة، ليتم في النهاية تقييد الإدراك الجمالي لمعنى "قصة الخلق" ضمن قوي وضعيف، أو خير وشر، وما أدل على ذلك من قراءة الحلاج لمشهد السجود لآدم.

يذكر مثلًا أنه في بعض ثقافات القبائل الوثنية القديمة في "صحراء" أفريقيا يتم تصوير العلاقة التي تمت بين آدم وحواء على أنها تمت إذ إلتقيا صدفة أمام نبع الماء الوحيد في تلك "الصحراء"، فرأى كل منهما الآخر "وأصاب الإستغراب منهما ما أصاب برؤية أجسادهما المغايرة و المتعاكسة"، وتعاركا على الماء، و أثناء العراك تمت العلاقة الجنسية، فأنسا لبعضهما. وهنا لا يمكننا فصل جمالية العلاقة الإنسانية عن صراع القوى على الماء، وتفاصيل الواقع، وهو ما نجد امتداداته في تعابير وحركات الفنون الجسدية لدى بعض قبائل أفريقيا، حتى في مواجهة القوى الكولونيالية في سيطرتها على "منابع" الثروات في تلك البلاد.

يمكننا تتبع أثر قوى الخطاب وتأثيراتها تشكيلياً على "الصورة الجمالية" في فن العصور الوسطى بوضوح، ففي لوحة "الخروج من الجنة" لتوماسو دي سير جيوفاني كاسي (ماساجيو)، والتي كما يوضح اسمها تصف "الخروج من الجنة"، نجد أن الرائي/المشاهد يرى/يعرف دلالة الموقف من عناصر مختلفة في الصورة/الخطاب التشكيلي، فنرى تباكي آدم إذ يغطي وجهه، و الوجه مناط الهوية التعبيرية الأول إنسانيًا، فأول التعبير والإدراك الإنساني جسديًا هو الوجه، وهو الذي يميز البشر من بعضهم، وبالتالي فدوره في تحديد الهوية الفردية يُعَد الأقوى من عناصر الجسد لصالح الإنسان/الفكرة: الهوية. بينما حواء تتباكى في الوجه بوضوح، بينما ذاتها "ميلها" الإنساني إنما هو ميل جنسي/مادي/فيزيولوجي، يؤسس لفكرة أن ذلك الميل هو العورة، والتعري ومنطق خروجنا من الجنة، وهو المنطق الذي يجعل السلطة في يد الذكورة، وبالتالي يصب اللوم المقدس على حواء و/أو الأفعى، ويظل آدم ضحية غواية المرأة، حتى في الحيز الجمالي المطلق: الجنة.

ومع تنامي علمنة الثقافة مع بدايات عصور التنوير، لم يتم تحرير الأنثى من سطوة الفحولة الثقافية، مع أن العلمانية تقوم في ذاتها على تفسير الظواهر بما فيها لا بما يتجاوزها، ولكن تظل العلمانية نسقًا ثقافيًا خاضعًا لبنية السلطة في جسد الثقافة الإنسانية عموماً، (والبنية اللغوية خصوصًا)، فباتت العلمانية (وفي أدبيات أخرى، "الدنيوية") وسيلة لتحرير الصورة/المادة وليس تحرير الأنثى/المعنى، أي أنها لم تستطع من الأمر شيئًا، ولعل الإزدواجية التي توضح ذلك تظهر جلية في المفارقة بين خطاب الحركات النسوية الغربية اتجاه أنفسهن، واتجاه الأنثى المُستعمرة، في مواجهة نمط واحد من السلطة.

فكان من الطبيعي أن ينتهي الأمر بالأنثى الخاضعة لثقافة الذكر الأجمل والأقوى و البريء من خديعة الخروج من الجنة الأنثوية، إلى نماذج مثل الموناليزا بنظراتها الملغزة، والمتروكة للتأمل الثقافي الذكوري، ثم السينما ونموذج مارلين مونرو اللعوب الفاتنة، وتصدير تلك الدرجة من الثبوت الصوري في موقع، الطرف من المركز الذكوري: الرجل الواقع عليه كل تأثير الفعل الوجودي الأنثوي، المانح و المانع للحياة، في صورة "قبلة الحياة" التي يمنحها الأمير-السيد للأميرة-العبد.

مما سبق يمكننا القول، أنه في الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة، تلخص الجوانب الجمالية في ثقافة ما، "روح الجماعة" لجماعة ما بيعنها، بينما يشار إلى الجوانب المعرفية الوجودية بتعبير "النظرة إلى العالم"، ولأن المعاني لاتتمظهر إلا بشكل مجازي/رمزي، باتت عملية إنتاج "الجمال" ورصد مظاهره وتخليقها وتدويرها من مجاز ورمز، لا تنبع من ذات الشيء/المظهر الجمالي المتخيل، بل بقدر ما تتفق "روح الجماعة" الأقوى والأكثر بعدًا عن الصورة/الحيوانية و المادية و"نظرتها للعالم" على تعريف أن هذه القيمة الجمالية، وهو ما لا يمكن حدوثه دون سيطرة خطابية على "القيمة الجمالية" تتحقق بالدعاية والبروباغندا والخطاب، ما يُسهم في تشكيل وعي و إدراك الأفراد و الجماعات لهذه الجمالية والتعامل معها.

*****

أنتجت البنية الحداثية التي أسست لها الرأسمالية الإنتاجية قبلًا والمعولمة آنًا، حيزات و أمكنة مدينية ملأى بالصور، إذ يمكن القول أن عملية إنتاج وتدوير الصور في حياتنا الحالية لم تكن قبلًا بهذه الكثافة مثلما هي الآن على مدى التاريخ الإنساني، بداية من عصر صور الكهوف.

إن الصورة هاهنا هي جزء من علاقة الإستهلاك التي صاحبت تحول عصر الإنتاج إلى الرأسمالية. فالدعاية/البروباغندا في هذا النوع من الخطاب المعولم تنتمي إلى زمنيتين إثنتين الأولى: زمنية إنتاج الصورة، وهي الزمنية السابقة على النوع الثاني وهو: زمنية التأثير على المتلقي/الرائي، وإنتاج الوعي الجمالي له، أي الرغبة أو كما يقول جون برغر: "الصور تدعو الإنسان للمستقبل المتخيل بناءً على الإستهلاك و المنفعة، جاعلة إياه مستحقًا لحسد الآخرين، لأنه إشترى جمالية ليست في أيديهم، فهو مميز، باختلافه الإستهلاكي عنهم". وهاتان الزمنيتان يمكن مماهتهما بزمنية المطلق والنسبي في تجربة آدم وحواء وخروجهم من الجنة، أي أنها –الصور الجمالية التي أنتجتها منظومة الرأسمالية- تغري المتلقي بزمنية المطلق المتجاوز الجمالية، بينما هو الموجود في الحيز النسبي. بمعنى آخر إن الشبكة المعقدة التي نسبح فيها من الدعاية و البروباغندا، والعلاقة بين زمنيتي الصور الجمالية فيها، تعتمد على جعل المتلقي/الرائي حبيسا بين تلك الزمنيتين، هو على الدوام في حالة خروج من الزمنية الأولى (زمنية الإنتاج) لأنها تعري واقع الجمالية المتخيل النفعي المادي، وحالة سعي لن تتحقق لزمنية من الجمالية والإغراء بـ"المطلق" في اللحظة الثانية.

إن خضوعنا لتلك البنية الإنتاجية من الصور إما سلبًا أو إيجابًا، يجعل عملية إنتاج المعاني والقيم خاضعًا لقوى الإنتاج ذاتها وعلاقاتها التي تسيطر عليها. فلعل من الأمثلة الشارحة و الدّالة على ذلك، قصة من التراث الصيني القديم، عن شاب في مقتبل العمر له القدرة على تذوق الحجارة و الصخور، فيمكنه أن يعلم أيها مالح وأيها حلو وأيها حامض، و أن تلك الأحجار تلين في قبضته فيشكلها كيفما أراد (غيورغي غاتشاف). إن هذه القصة بالنسبة لمتلقي هذا العصر لتبدو غير مفهومة، وغير ذات مغزى، فيصعب على العقل الحداثي (ومابعد الحداثي أيضًا) المعولم الرأسمالي تلقي جمالية هذه القصة، وإدراكها. إذ ستظل خارجة عن أي سياق ما لم يتم توظيف تلك القدرة الإستثنائية لذلك الصبي فيما هو أكبر و أكثر تجاوزًا منه، وإن كان هو في ذاته وحده من له تقدير ملكته الجسدية، ومن يقدر جماليتها (أنظر لأنماط إنتاج الجمال والحق في المنظومة الحداثية الرأسمالية، منها للمثال لا الحصر نماذج السوبر ستار كسوبرمان و سبايدرمان)، أي أن زمنية الإدراك الجمالي الذاتي لدى هذا الشاب لايمكننا تذوقها و تقديرها معه، مالم تحقق لمنظومة "روح الجماعة" فائدة تقاس، لذا فالبروباغندا لا يمكنها تناول تلك الجمالية، وهو ما يعد تشكيلًا سلبيًا.

*****

إن علاقات القوى والإنتاج في فضاء المجتمع والسياسة والإقتصاد، وما ينتج عنها من ديناميات خطابية تؤسس للبروباغندا وما يجب وما لا يجب تصويره و ترويجه، لا تسهم فقط في تشكيل الفعل الثقافي وما ينتج عنه من تعبيرات جمالية، إنما تهدف إلى جعل عملية عزل وتشريح الإرتباطات الدقيقة بين الجمالي/الثقافي والسياسي/السلطوي عملية غير موجودة وغير ممكنة عن طريق زيادة الانبهار بالمنتج السياسي والسلطوي عن طريق غسله بقيم جمالية ينتجها هو نفسه.
فمثلًا، أشار دكتور ساتوشي كانازاوا، الباحث في كلية لندن للإقتصاد في مقال له نشرته دورية (علم النفس اليوم/ Psychology Today)

إلى أن الإناث الإفريقيات أو هؤلاء المنحدرات من "أصول" أفريقية "أقبح" (!!) من غيرهن من أعراق أخرى(!!)، وقد توصل كانازاوا إلى قناعته تلك عن طريق عينة عشوائية من الذكور، عُرضت أمامهم مجموعة من الصور لمجموعة مختلفة الأعراق من الإناث، فيختاروا منها من يرونها "الأجمل" و"الأكثر جاذبية".

إن مجموعة الصور الفوتوغرافية التي عرضها كانازاوا على عينته العشوائية، أنتجتها العقلية الرأسمالية الحداثية الصناعية البيضاء، التي اخترعت آلة التصوير الفوتوغرافي، ليس بالمنطق المعنوي فحسب، ولكن أيضًا بالشكل المادي الصناعي، وبالتالي فلا يمكن فصل عملية الرؤية/النظر/التناول التي ينبني عليها الحكم الجمالي بمعزل عن تاريخانية الخطاب الأبيض بشأن الجمال والجاذبية، في تقييم الذات والآخر بشأنهما. حينها يمكننا القول أن "الجمال" و"الجاذبية" هاهنا يعدان إمتدادًا لمقولة كلاوديو في رائعة شيكسبير

Much Ado About Nothing/ضجة فارغة:

"سأتزوجها حتى لو كانت إثيوبية"، فيما يعد تدليلًا سلطويًا بشكل عرقي على الحب، و هو العاطفة الجمالية الأرقى.
وبالتالي لا يمكننا النظر إلى الجماليات، وهي هنا في أبسط صورها و أكثرها أساسية : "الجسد" ومقايسه، بمعزل عن تشابك بنية العلاقات التي أنتجت الخطاب، و الذي تعد البروباغندا أحد تجلياته، يسعى الخطاب إلى تشكيل ثم توجيه "إدراك" الفرد و المجتمع لمفهوم الجمالية و إنتاجها.

ويمكننا رؤية انعكاس ذلك على تفاصيل تحوّل الجمال إلى صناعة أنتجت شركات ورؤوس الأموال التجميلية، كصناعة تجميل الشعر وتحويله من الأجعد إلى الأملس، أو تبيض البشرة أو غيرها، و التي تتناول جمالية الجسد البشري ضمن تصانيف عرقية و دونية، يعد نموذج مايكل جاكسون أكثرها تعبيرية عن سلطة الخطاب الأبيض على الجمال الإنساني المطلق والذي لا يمكن فصله من حيث المبدأ عن فكرة تصوير المسيح بصورة سمراء في الثقافات التي قاومت القوى الكولونيالية البيضاء في أفريقيا.

(يذكر ريتشارد رايت في كتابه "شبه مذكرات للفتى الأسود" على لسان جدته، أن العبيد السود الأقل إفريقية من ناحية الملامح والمظاهر الجسدية: الشعر و الأنف و اللون، كانوا يعملون في بيوت الرجل الأبيض، على عكس غيرهم من أصحاب الملامح الواضحة الإفريقية، الذين يلقى بهم في المزارع حيث العمل الإستعبادي المضني وظروفه الغير إنسانية وما أنتجته من ثقافات مثل "الزومبي" وغيرها).

**********

إن "الجمالية" لا يمكن تناولها تفكيكًا أو/و تركيبًا بمعزل عن الخطاب و البروباغندا بشكل مجرد، فالخطاب وما ينتجه من دعاية/بروباغندا يتناول الجمالية ضمن ثلاثة عناصر:
-Worth/الأحقية

-Role/الدور

-Place/المكان

وهو مايجعل الإغراء الأشد الواجب مقاومته هو التعامل مع الجمالية بمعزل عن الخطاب، وبالتالي يصبح الدفاع الأساسي هاهنا ضد هذا الإغراء، هو في تتبع الروابط السوسيولوجية بين المواضيع الجمالية وعلاقات القوى والإنتاج في بنية "الجماعة" التاريخية والجغرافية. ولأن هذه العناصر البنيوية تحكمها علاقات الإنتاج والقوى (التي أنتجت وصنعت الكاميرا الفوتوغرافية التي تمثل نظر أفراد العينة في التجربة السابقة لكازاناوا) كانت هناك الحاجة لإخضاع كل مفاهيم القياس والإدراك الجمالي لبنى متعددة من المؤسساتية الهيراركية البطريركية، كالخطاب الأكاديمي مثلًا.

******

يتم تقديم الصورة الجمالية في مختلف أنساقها و أنواعها على أساس وجود صله وتشابه بينها وبين شيء ما في واقعها، مهما كبر أو صغر حجمه، يتضح ذلك مثلًا في تناول موسيقى الترانس والهاوس عندما نستحضر
مقولة لأوليفر ساكس في كتابه "نزعة إلى الموسيقى" كالتالي:

"أتصور أنك إذا كنت تحب الموسيقى على كل حال فسيكون لديها في رأسك نوع من البعد الثالث، وهو بعد يقترح الحجم بالإضافة إلى السطح، و عمق الحقل بالإضافة إلى الجوهر. متحدثاً عن نفسي، فقد إعتدت سماع أبينة متى ما سمعت الموسيقى، أشكالاً ثلاثية الأبعاد من المادة المعمارية و التوتر. لم أر هذه الأبنية بطريقة الحس المتزامن الكلاسيكية بقدر ما أحسست بها في مركز الإحساسات في دماغي. كانت لهذه الأشكال أرضيات، وجدران، و سقوف و نوافذ، و أقبية، كانت تظهر الحجم، كانت تبنى من سطوح متشابكة اعتمد بعضها على بعض من أجل التماسك"، حينها يمكننا الربط بين الموسيقى والمدن الحديثة وعصر السرعة والتكنولوجيا الرقمية.

لذا يبزغ هاهنا التساؤل: ما الأشياء الموصلة لهذه الصورة الجمالية؟ وكيف يتأثر الإدراك الجمالي بتلك الصلة، بين الصورة والعلاقة؟ أيمكننا أن نفترض أن كل ماينتجه الوعي والإبداع هو صورة أو تمظهرات متعاقبة لتلك العلاقة بين الواقع و المتخيل الجمالي
إذا أمكننا تتبع سيرورة تلك الصلة، أمكننا تحليل القوى المؤثرة على العلاقة بين الإنسان والطبيعة، وميله الطبيعي لمخالفة/إكتشاف الممنوع/المحرم/المجهول كما أسست لحظة المعرفة الأولى حينما أكل التفاحة، وتأثر ذلك على فكرة المجتمع الطبيعي ( في صورة آدم وحواء). فكلما إزداد الإنفصال بين المجتمع و الطبيعة، عن طريق محاولة الفرد الإجتماعي السيطرة على طبيعته (الحداثة)، كلما خضعت المقاييس الجمالية وبالتالي الإدراك الجمالي لآليات الإنتاج والسيطرة المجتمعية. إذ لم يكن لدى البشرية في عهودها الغابرة حتى في أولويات خروجها عن الحالة الطبيعية – شبه الحيوانية ماهو أيسر و أكثر عفوية وحرية من التشبيه و المقارنة المباشرة، ففي تفاصيل الطبيعة وظواهرها كان الإنسان يومذاك يرى النفس و الإرادة، وبالتالي فكل إحساس جمالي نتج عنهما من أمان وحرية ودفء وغير ذلك أثّر في رؤية الإنسان لأفعاله الذاتية باعتبارها تماهيًا مع الطبيعة، فلننظر مثلًا إلى تصاوير الآلهة القديمة في الهند وأواسط آسيا والصين والبرازيل و أميركا اللاتينية، ومقدار جمالية الصلة بين الصورة الفنية وواقعها المباشر، إلى أن تطورت إلى مركزية بشرية أبدى من الطبيعة كما في المسرح الروماني و الآلهة الرومانية و الإغريقية وغيرها، الأقرب للإنسان المنفصل عن الطبيعة، الإنسان/الإله.

أما بالنسبة للإنسان المعاصر، الذي لا يتعرف على الآخر والمحيط والطبيعة بشكل مباشر، إنما عن طريق سلسلة لا نهائية ومعقدة من الحلقات الوسيطة، بدءً من الأسفلت (القار) الذي يفصله عن رطوبة "الأرض/الأم" ومرورًا بالنقود التي يحتاجها للحصول على الغذاء أو حتى الرغبة التأملية في الطبيعة وجماليتها (مثل مجموعة كازاناوا الفتوغرافية، التي تختزل معنى الجمال وتهندسه). إن الصلة بين الواقعي و الجمالي هي التي تتحكم في إدراكنا له، بل وفي كثير من الأحيان فإن تلك الصلة تعيد إنتاجه و تدويره، بما لا يتضاد مع ديمومة علاقات القوى و الإنتاج.

ولتلك القوى الدعائية/البروباغاندية في الخطاب أثره الممتد من أقدم الأزمنة إلى عصرنا الحالي، على الحركة الإعلامية وسرعة نقل المعلومات والمعرفة التي تشكل قياس الأفراد والجماعات لـ"فكرة جمالية" كالثورة و التحرر والمقاومة وما يترتب عليهم من أفعال وتعابير جمالية فنية، ولعل حراكًا ثوريًا كالذي تشهده المنطقة العربية فيه أكثر من تدليل على ذلك، حيث يتناول "الثوار/المتظاهرين" في بنية الخطاب الإعلامي الذي تؤسسه و توظفه و تغذيه و تستفيد منه علاقات التزاوج بين المالي و السياسي في مجتمع الإعلام في صورة طبقية رأسمالية، عن طريق تصويرهم على هيئة بلطجية وفقراء، وذلك بالقفز فوق حقيقة واقعية أن 45% من الشعب المصري مثلًا هو تحت خط الفقر، وأن سياسات تلك الطبقات الحاكمة على مر العقود هي التي أدت لهذه الهوة بين طبقات البنية الإقتصادية و الإجتماعية للشعب، الذي قام بالثورة ضد تلك النخب تحديدًا و علاقاتهم السياسية و الاقتصادية، ماعطب مفهوم الجمالية في الوعي، فباتت الثورة بحكم أنها فعل رفضوي حاسم مواجه، فعلًا جماليًا، لايمكن أن تقف أمامه المنظومة المادية في صورتها السلطوية طويلًا، نتأمل.

*عبد الله البياري
تأملات في الجمالية والخطاب والتفاحة

.

صورة مفقودة


.
 
أعلى